الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في توصيف عقد الهبة
المبحث الأول
في لزوم الهبة
تكلمنا في المبحث السابق عن منزلة القبض في الهبة، هل هو ركن، أو شرط للصحة، وسنتكلم في هذا الفصل، عن عقد الهبة، هل هو عقد جائز، أو عقد لازم، وإذا كان لازمًا فمتى يلزم، هل يلزم بالعقد، أو يلزم بالقبض؟
وللجواب على ذلك نقول:
[م-1864] اتفق العلماء على أن الملك يثبت بالإيجاب والقبول والقبض.
واختلفوا هل تلزم الهبة بإيجاب وقبول خال من القبض؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
الهبة عقد جائز لا تلزم بالقبض، وإن كان القبض يحصل به الملك للموهوب له ملكًا غير لازم، ولا تلزم الهبة إلا بأمرين:
الأول: أن يُعوَّض الواهب عن هبته، فإذا عوض عنها سقط حقه بالرجوع فيها، وإذا لم يعوض عنها صاحبها فإن الواهب يملك حق الرجوع فيها، ولو بعد القبض، ولا بد من التصريح بأن ما يدفعه عوض عن الهبة، كأن يقول: هذا عوض، أو بدل هبتك، ونحو ذلك، ويكون العوض مع ذلك هبة يصح بما تصح به الهبة، ويبطل بما تبطل به، فأما إذا لم يضف العوض إلى الهبة
الأولى فإنها تكون هبة مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين جميعًا؛ وذلك لأن التمليك المطلق يحتمل الابتداء، ويحتمل المجازاة، فلا يبطل حق الرجوع بالشك.
الثاني: أن يوجد ما يمنع من الرجوع كاستهلاك الموهوب، وزيادته زيادة متصلة، وتصرف الموهوب فيه بإخراجه عن ملكه، أو موت أحدهما، ونحو ذلك فإذا وجد مثل ذلك لزمت الهبة، فلا يملك الواهب حق الرجوع فيها. وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
قال الشلبي: «حكم الهبة وقوع الملك للموهوب له ملكًا غير لازم، وفائدته صحة الرجوع»
(2)
.
(3)
.
وقال السرخسي: «إذا وهب لأجنبي شيئًا، فله أن يرجع في الهبة عندنا - ما لم يعوض منها في الحكم - وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة»
(4)
.
(1)
. العناية شرح الهداية (9/ 38)، المبسوط (12/ 82، 53، 56)، تحفة الفقهاء (3/ 166 - 167)، بدائع الصنائع (6/ 128)، تبيين الحقائق (5/ 97 - 99)، الهداية شرح البداية (3/ 225)، البحر الرائق (7/ 292)، حاشية ابن عابدين (5/ 701).
(2)
. حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (5/ 97).
(3)
. تبيين الحقائق (5/ 97 - 98).
(4)
. المبسوط (12/ 53).
القول الثاني
أن الهبة عقد لازم، وهذا مذهب المالكية، والشافعية والحنابلة، على خلاف بينهم:
هل تلزم الهبة بمجرد العقد بحيث يطالب الموهوب له الواهب قضاء بالتسليم إذا تم الإيجاب والقبول؟
أو لا تلزم الهبة، ولا تملك إلا بالقبض، ويحق للواهب الرجوع عن الهبة قبل التقابض؟
أو يفرق بين هبة الدين وبين هبة العين.
أو تكون موقوفة؟ على خمسة أقوال بينهم، هذا تفصيلها:
القول الأول:
الهبة تلزم بمجرد العقد، ولا يحق له الرجوع بالهبة ويحكم عليه بها ولو لم يقبضها، ولا تتم إلا بالحيازة، وهذا مذهب المالكية
(1)
.
وذهب أبو ثور وابن أبي ليلى والإمام أحمد في رواية اختارها جماعة من أصحابه، إلى أن الهبة تملك بالعقد، ولا تفتقر إلى القبض مطلقًا
(2)
.
قال ابن عبد البر: «وقال أبو ثور وأحمد بن حنبل: تصح الهبة والصدقة غير مقبوضة»
(3)
.
(1)
. البيان والتحصيل (13/ 433)، المقدمات الممهدات (2/ 408، 413)، بداية المجتهد (2/ 247)، القوانين الفقهية (ص: 242)، شرح الخرشي (7/ 105)، الشرح الكبير للدردير (4/ 101).
(2)
. عمدة القارئ شرح صحيح البخاري (13/ 156)، الاستذكار (7/ 232).
(3)
. الاستذكار (7/ 232).
(1)
.
وجاء في بداية المجتهد: «قال مالك: ينعقد بالقبول، ويجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب، أو مرض، بطلت الهبة»
(2)
.
القول الثاني:
لا تلزم الهبة، ولا تملك إلا بالقبض، وله الرجوع فيها قبل التقابض، وهذا مذهب الشافعية وإحدى الروايتين عن الحنابلة
(3)
.
قال في الحاوي: «أما القبض فهو من تمام الهبة لا تملك إلا به، وهو قول أهل العراق»
(4)
.
وفي البيان في مذهب الإمام الشافعي: «ولا تلزم الهبة إلا بالقبض: فإذا وهب لغيره عينًا فالواهب بالخيار: إن شاء أقبض الموهوب له، وإن شاء لم يقبضه»
(5)
.
(1)
. المقدمات الممهدات (2/ 408).
(2)
. بداية المجتهد (2/ 247).
(3)
. الحاوي الكبير (7/ 535)، البيان للعمراني (8/ 114)، روضة الطالبين (5/ 378)، نهاية المحتاج (5/ 409)، حاشية البجيرمي على الخطيب (3/ 263)، المحرر (1/ 374)، الإنصاف (7/ 119) ..
(4)
. الحاوي الكبير (7/ 535).
(5)
. البيان للعمراني (8/ 114).
وجاء في إعانة الطالبين: «ظاهره أن الهبة تملك بالعقد، ولا تلزم إلا بالقبض، وليس كذلك، بل لا تملك، ولا تلزم إلا بالقبض»
(1)
.
وجاء في الإنصاف: «قوله: (وتلزم بالقبض) يعني: ولا تلزم قبله. وهذا إحدى الروايتين. وهو المذهب مطلقا. جزم به في الوجيز، وغيره
…
»
(2)
.
وجاء في المحرر: «ولا تلزم الهبة، ولا تملك إلا مقبوضة بإذن الواهب»
(3)
.
القول الثالث:
التفريق بين هبة ما يتعلق به حق استيفاء من كيل أو وزن، أو عد أو ذرع، وبين هبة المتميز، فالأولى لا تصح إلا بالقبض، كما لو أهداه كيلًا معلومًا من صبرة من طعام، وأما هبة المتميز ففيها قولان: أحدهما: تلزم بالعقد، والثاني: تلزم بالقبض.
وفسر ابن قدامة نفي الصحة باللزوم، وإلا فهي صحيحة قبل القبض.
(4)
.
(1)
. إعانة الطالبين (3/ 174).
(2)
. الإنصاف (7/ 119).
(3)
. المحرر (1/ 374).
(4)
. الإنصاف (7/ 120).
(1)
.
وجاء في قواعد ابن رجب: «أما الرهن والهبة، فهل يعتبر القبض فيهما في جميع الأعيان، أو في المبهم غير المتميز، كقفيز من صبرة؟ على روايتين»
(2)
.
(3)
.
وجاء فيه أيضًا: «وعنه ـ يعني عن الإمام أحمد ـ تلزم في متميز بالعقد»
(4)
.
القول الرابع:
أن الملك فيها يقع مراعى، فإن وجد القبض تبينا أنه كان للموهوب بقبوله وإلا فهو للواهب. وهذا أحد القولين في مذهب الشافعية، ووجه ثالث عند الحنابلة حكي عن ابن حامد
(5)
.
(1)
. المغني (5/ 380).
(2)
. القواعد (ص: 78).
(3)
. الإنصاف (7/ 120).
(4)
. المرجع السابق (7/ 121).
(5)
. روضة الطالبين (5/ 375)، الحاوي الكبير (3/ 371)، الإنصاف (7/ 121).
ويتفرع على هذا الخلاف:
الملك في الزيادة الحادثة بين العقد والقبض لمن تكون.
فعلى هذا القول يكون الملك فيها للموهوب له، وعلى القول بأن الهبة لا تلزم ولا تملك إلا بالقبض يكون الملك في الزيادة المنفصلة للواهب، ومثله في تحمل النفقات.
جاء في الحاوي الكبير: «لو وهب رجل لرجل عبدًا قبل شوال، ثم أقبضه العبد بعد شوال، في زكاة فطره قولان مبنيان على اختلاف قوليه في الهبة متى تملك؟
فأحد قوليه: تملك بالقبض، فعلى هذا زكاة فطره على الواهب، لأنه كان في ملكه حتى أهل شوال.
والقول الثاني: أنه يملك بالعقد ملكًا موقوفًا على القبض، فعلى هذا زكاة الفطر على الموهوب له؛ لأنه كان على ملكه حين أهل شوال»
(1)
.
القول الخامس:
التفريق بين الهبة والصدقة، فالصدقة تلزم بالقول بخلاف الهبة، فإنها لا تلزم إلا بالقبض، وهذا قول في مذهب الشافعية.
هذه هي الأقوال في المسألة، وملخصها كالتالي:
الأول: الهبة عقد جائز، لا تلزم بالقبض، وإنما تلزم بأمور منها: التعويض عنها، أو التصريف فيها. وهذا مذهب الحنفية.
(1)
. الحاوي الكبير (3/ 371).
الثاني: الهبة تلزم بالعقد، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة.
الثالث: الهبة لا تملك، ولا تلزم إلا بالقبض، وهذا مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
الرابع: الهبة تلزم بالعقد إلا إذا تعلق في الموهوب حق استيفاء من كيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع.
وإذا عرفنا الأقوال نأتي على ذكر أدلة كل قول إن شاء الله تعالى:
أدلة الحنفية على أن الهبة عقد غير لازم وله الرجوع فيها:
مسألة حكم الرجوع في الهبة بعد القبض سيكون محل بحث في فصل مستقل، وهناك أستوفي إن شاء الله تعالى أدلة الحنفية على تلك المسألة.
دليل من قال: الهبة تلزم بالعقد:
الدليل الأول:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
وجه الاستدلال:
العقد في اللغة وفي الإصطلاح: هو الإيجاب والقبول، فإذا تم الإيجاب والقبول في الهبة فقد تم العقد، وأمر الله بالوفاء به، ولا يتوقف الأمر على قبض ونحوه، (والعقود) جمع يشمل كل عقد تم بين متعاقدين، لا فرق بين عقد وآخر.
ونوقش هذا:
أن المراد بالآية لازم العقود، حتى البيع قبل لزومه لا يجب الوفاء به كما لو كان فيه خيار شرط ونحوه، فكذلك عقد الهبة لا يجب الوفاء به قبل لزومه، وهو لا يلزم إلا إذا قبض، بدليل ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم أقرب إلى فهم النصوص، لقربهم من التنزيل، وأخذهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ورد هذا:
القول بأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض استدلال في محل النزاع، وفهم الصحابة دليل على أن عقد الهبة يفتقر إلى الحيازة، وهذا لا يعني أنه لم ينعقد، فالهبة كغيرها من العقود تنعقد بالإيجاب والقبول، واستثناء الهبة من سائر العقود يحتاج إلى دليل، وإذا كانت العقود الربوية تنعقد بالإيجاب والقبول، وإن كان القبض شرطًا في استمرارها على الصحة، فالهبة من باب أولى؛ لأن تأخر القبض في الهبة لا يمنع من استمرار انعقادها، وإنما كانت الحيازة من شرط تمام الهبة والصدقة؛ لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته، ثم يخرجه عن ورثته بعد وفاته، وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وهذا هو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم.
(ث-276) فقد روى مالك من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري،
أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلًا، ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال: ما لي بيدي، لم
أعطه أحدًا، وإن مات هو، قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه. من نحل نحلة، فلم يحزها الذي نحلها، حتى يكون إن مات لورثته، فهي باطل
(1)
.
[صحيح].
الدليل الثاني:
(ح-1137) ما رواه البخاري من طريق ابن طاوس، عن أبيه،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه
(2)
.
ووجه الدلالة منه
أن الحديث دال على تحريم الرجوع في الهبة، وهي تشمل المقبوضة وغيرها؛ لأن تسميتها هبة لا يتوقف على قبضها، فدل على أن القبض غير معتبر في لزوم الهبة.
ونوقش:
بأن الحديث وعيد على العائد في هبته، والعود لا يصدق إلا على ما خرج من يد الواهب ثم عاد إليه، فصار الحديث دالا على أن اللزوم لا يتم إلا بالقبض.
ورد هذا:
بأن العود في اللغة: هو الرجوع، كذا في القاموس المحيط
(3)
.
(1)
. الموطأ (2/ 753).
(2)
. صحيح البخاري (2589)، وصحيح مسلم (1622).
(3)
. القاموس المحيط (ص: 302).
وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، ومن قال: إنه لا يسمى عائدًا في هبته حتى تخرج الهبة منه، ثم تعود عليه فقد ادعى شيئًا لا تدل عليه اللغة، فمن عاد عن البيع بعد انعقاده صح أن يقال: قد عاد عن بيعه، وإن كان المبيع في يده.
الدليل الثالث:
قياس الهبة على سائر العقود حيث لم يتوقف انعقادها على القبض.
ونوقش:
بأن الأدلة قد صحت في اعتبار القبض في الهبة كما سيأتي في أدلة القول الثاني، فلم يصح القياس.
ورد هذا:
بأن القبض في الهبة ليس من شروط الانعقاد، وإنما هو شرط لإتمامها، وبينهما فرق، ولن يكون اعتبار القبض في الهبة بأكثر من اعتباره في العقود الربوية، والتي جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بوجوبه يدًا بيد قبل التفرق، ومع ذلك لا يتوقف الانعقاد فيها على القبض، فهي تنعقد بالإيجاب والقبول، والقبض شرط لاستمرار انعقادها على الصحة.
الدليل الرابع:
أن الهبة تمليك عين في حال الحياة، فوجب أن يلزم بمجرد الإيجاب والقبول كالبيع.
وأجيب:
لا يصح القياس على البيع من وجهين:
أحدها: أن القبض في البيع أثر من آثار العقد، وليس شرطًا للزوم البيع، ولا لإتمامه، فخالف الهبة.
الثاني: أن البيع من عقود المعاوضات، والهبة من عقود التبرع.
الدليل الخامس:
(ث-277) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري،
أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
(1)
.
[صحيح، وسبق تخريجه]
(2)
.
الدليل السابع:
أن الهبة إزالة ملك بغير عوض فأشبه الوصية والوقف.
ونوقش هذا:
بأنه لا يصح القياس على الوقف والوصية؛ لأن الوقف إخراج ملك إلى الله تعالى، فخالف التمليكات، والوصية تلزم في حق الوارث، ولا تلزم الهبة الوارث إذا لم تقبض في حياة الواهب.
دليل من قال: لا تلزم الهبة، ولا تملك إلا بالقبض:
الدليل الأول:
(ث-278) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
(1)
. الموطأ (2/ 754).
(2)
. انظر تخريجه (ث 270).
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقاً من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقاً، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ....
(1)
.
وجه الاستدلال:
وهذا الأثر نص في اشتراط القبض للزوم الهبة، حيث وهبها في صحته، ولم تقبضها حتى مرض، والإقباض في مرض الموت كالعطية، والعطية للوارث لا تصح.
ويجاب من وجوه:
الوجه الأول:
أن أبا بكر رضي الله عنه قد سماها هبة، حيث يقول:(كنت نحلتك)، وهذا دليل على انعقادها بذلك، ولو كانت لا تنعقد حتى تقبض لما أطلق عليها هذا الاسم، والقبض شرط للزوم العقد، وليس لانعقاده.
الوجه الثاني:
يحتمل أن هبة أبي بكر لم تنفذ لأنها لم تكن معينة، فهي من هبة المكيل قبل كيله، وهذا لا يصح إلا مقبوضًا، ولهذا ردها أبو بكر رضي الله عنه، لا لأنها لم تقبض؛ لأن قوله: جاد عشرين وسقًا: أي وهبتك عشرين مجدودة من هذه الثمار، فهي
(1)
. الموطأ (2/ 752).
من قبيل هبة المكيل قبل كيله، وليس من هبة العين، كما لو وهبه قفيز بر من هذه الصبرة، فلابد فيه من القبض لصحته، ولا يصح التصرف فيه قبل قبضه.
الوجه الثالث:
أن الرد بسبب جهالة الهبة، لقوله: إني نحلتك جداد عشرين وسقًا؛ ولو باع رجل جداد عشرين وسقًا من نخل له لم يجز فيه البيع، لأن ذلك مجهول.
الوجه الرابع:
انظره في الجواب عن الدليل التالي.
الدليل الثاني:
(ث-279) روى مالك من طريق مالك، ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري،
أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلًا، ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم، قال: ما لي بيدي، لم أعطه أحدًا، وإن مات هو، قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه. من نحل نحلة، فلم يحزها الذي نحلها، حتى يكون إن مات لورثته، فهي باطل
(1)
.
[صحيح].
ويجاب عن هذا وعن أثر أبي بكر السابق:
أن الحيازة إنما كانت شرطًا لإتمام الهبة والصدقة؛ لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته، ثم يخرجه عن ورثته بعد وفاته، فلم يمنع عمر رضي الله عنه من انعقاد الهبة بالإيجاب والقبول،
(1)
. الموطأ (2/ 753).
ولكنه كان يمنع من الاحتفاظ بالهبة إلى الموت، والانتفاع بها، واعتبار ذلك حيلة لمنع الورثة؛ وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض الفرائض لأهلها، وتوعد على تعديها فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وهذا هو ما فهمه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد تقدم نقل ذلك.
الدليل الثالث:
(ح-1138) ما يروى عن النبي أنه قال: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن معنى لا تجوز الهبة: أي لا يثبت الحكم وهو الملك؛ إذ الجواز ثابت قبل القبض باتفاق.
ويجاب عن الحديث:
بأن الحديث لا أصل له. قال ابن حجر في الدراية: لم أجده
(2)
.
وقال الزيلعي في نصب الراية: غريب
(3)
، وهذا يعني أنه لا أصل له، وهو مصطلح له في نصب الراية.
وقال العيني: «هذا حديث منكر لا أصل له
…
»
(4)
.
(1)
. المبسوط (12/ 48).
(2)
. الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 183).
(3)
. نصب الراية (4/ 121).
(4)
. البناية للعيني (10/ 161).
الدليل الرابع:
قال المروزي في اختلاف العلماء: «اتفق أبو بكر وعمر وعثمان على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة»
(1)
.
ولم يعرف لهؤلاء مخالف فيكون إجماعًا.
ويناقش من وجهين:
الوجه الأول:
أما أثر أبي بكر وعمر فقد سبق الجواب عنهما، فلا يحتاج إلى إعادة ذلك.
(ث-280) وأما أثر عثمان فقد رواه ابن أبي شيبة من طريق الزهري، عن سعيد قال:
شكي ذلك إلى عثمان أن الولد إذا كان صغيرًا لا يحوز، فرأى أن أباه إذا وهب له وأشهد حاز
(2)
.
[صحيح].
ورد هذا:
بأن أثر أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لا حجة فيه؛ لأن الأثر لا يتكلم على أن الهبة عقد جائز لا يلزم إلا بالقبض، والذي هو موضع النزاع، وإنما تناول أن الملك في الهبة لا يتم إلا بالحيازة، وبينهما فرق، وأن الواهب إذا كان وليًا لم يكن الملك متوقفًا على حيازة الصغير، فإذا أشهد على الهبة كانت يد الولي كيد الصغير في إتمام الملك، وليس في لزوم الهبة. فكون الملك يتم بالحيازة لا
(1)
. اختلاف العلماء للمروزي (ص: 574).
(2)
. المصنف (20496).
يجعل العقد ليس لازمًا قبله، والقول بأن الهبة الناجزة لا تختلف عن الوعد بالهبة إن شاء أمضاها، وإن شاء رجع فيها لا دليل عليه، بل غاية الأدلة تدل على أن الملك يتم بالحيازة، وهذا أمر مختلف.
الوجه الثاني:
على التسليم بأن رأي أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يدل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإن الصحابة قد وقع بينهم خلاف في المسألة، وإذا قع خلاف لم يكن قول الصحابي حجة بمفرده، بل يطلب الترجيح من أدلة أخرى.
(ث-281) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: نا همام، عن قتادة، عن الحسن،
عن النضر بن أنس، قال: نحلني أبي نصف داره، فقال أبو بردة: إن سرك أن تحوز ذلك فاقبضه فإن عمر بن الخطاب «قضى في الأنحال أن ما قبض منه فهو جائز، وما لم يقبض منه فهو ميراث
(1)
.
[أثر أنس صحيح متصل، وأما أثر عمر فلا يضره الانقطاع بين أبي بردة وعمر؛ لأن أثر عمر قد ثبت عنه ذلك بسند صحيح في الموطأ، وسبق تخريجه].
وجه الاستدلال:
أن أنسًا رضي الله عنه ير أن الهبة نافذة، ولو لم تقبض، ولهذا قال ما قاله أبو بردة رضي الله عن رأي عمر، فإن حملنا رأي عمر على أنه يرى أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فقد خالف قول أنس قولَ عمر رضي الله عنه مما يدل على أن المسألة ليست إجماعًا بين الصحابة، مع أن رأي عمر قد تم الجواب عنه في الأدلة السابقة، وأنه ليس صريحًا في الباب، والله أعلم.
(1)
. المصنف (20502).
الدليل الخامس:
أن عقد التبرع ضعيف في نفسه، ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم، والملك الثابت للواهب أقوى فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتأيد به، وهو القبض في الهبة، والموت في الوصية
(1)
.
ويناقش:
لو عكس هذا لكان أصح، فإن عقد التبرع عقد إرفاق وإحسان، والتوسعة فيه أن لا يشتدد في عقده قبض أو لم يقبض؛ لأنه لا يقابله عوض، بخلاف عقود المعاوضات فإن البائع إنما بذل المبيع مقابل عوض، فكونه لا يلزم إلا إذا تقابضا، لو قيل هذا في عقود المعاوضات لكان أولى من عقود التبرع القائم على المسامحة والإحسان.
دليل من قال: هبة المكيل والموزون لا تلزم فيه إلا بالقبض:
الدليل الأول:
قياس الهبة على البيع، فالمبيع إذا لم يكن فيه حق توفية فإنه يكون من ضمان المشتري إذا هلك عند البائع بدون تعد أو تفريط، ويصح تصرف المشتري فيه بالبيع، ولو لم يقبضه، وإذا كان فيه حق توفية من كيل أو وزن، أو عد، أو ذرع فإن ضمانه من مال البائع، وليس للمشتري حق التصرف فيه قبل قبضه، والهبة قياس عليه، وقد ذكرنا أدلة كثيرة على هذه المسألة عند الكلام على التصرف في المبيع قبل قبضه، فارجع إلى أدلة المسألة هناك غير مأمور.
(1)
. انظر العناية شرح الهداية (9/ 21).
الدليل الثاني:
(ث-282) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقاً من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقاً، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث .... »
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن قوله: (نحلتك جاد عشرين وسقًا): أي وهبتك عشرين مجدودة من هذه الثمار، فهي من قبيل هبة ما يحتاج إلى كيل، وليس من هبة العين، كما لو وهبه قفيز بر من هذه الصبرة، فلابد فيه من القبض لصحته، ولا يصح التصرف فيه قبل قبضه.
دليل من فرق بين الهبة والصدقة:
(ث-283) ما رواه عبد الرزاق في المصنف عن الثوري، عن جابر،
عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عليًا، وابن مسعود كانا يجيزان الصدقة وإن لم تقبض ....
(2)
[ضعيف]
(3)
.
(1)
. الموطأ (2/ 752).
(2)
. المصنف (16595).
(3)
. فيه علتان: أحدهما: في إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف.
العلة الثانية: الانقطاع، القاسم لم يسمع من جده ابن مسعود، ولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (20505) حدثنا حفص، عن حجاج، عن القاسم، عن علي وعبد الله، قالا: إذا علمت الصدقة فهي جائزة، وإن لم تقبض.
وهذا فيه علتان أيضًا: أحدهما: الانقطاع كما سبق. والثاني: حجاج بن أرطأة، وهو ضعيف.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (20507) حدثنا وكيع، قال: أخبرنا عيسى بن المسيب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: الصدقة إذا علمت قبضت أو لم تقبض.
وعيسى بن المسيب ضعيف.
دليل من قال: إن تم القبض تبين أن الملك من العقد، وإلا بطل:
لعل هذا القول يرى أن الملك يحصل بالإيجاب والقبول، والقبض شرط فيه، فإن تحقق الشرط كان الملك ثابتًا من حين صدور القبول مطابقًا للإيجاب، وإن لم يتم القبض يكون هذا إبطالًا لما تم انعقاده، وليس لأن الملك لا يتم إلا بالقبض.
الراجح:
أرى أن الخلاف في المسألة خلاف قوي، وأن مذهب المالكية ربما كان أقرب، والله أعلم.
* * *