الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في حكم العمرى التكليفي
[م-1879] اختلف الفقهاء في حكم العمرى على قولين:
القول الأول:
أن العمرى جائزة، وهو قول الجمهور، والقول الجديد للشافعي، وبه قال ابن حزم
(1)
.
قال السرخسي: «وإذا قال الرجل لغيره: قد أعمرتك هذه الدار، وسلمها إليه: فهي هبة صحيحة»
(2)
.
وجاء في الشرح الصغير: «وجازت العمرى، والمراد بالجواز: الإذن فيها شرعًا، فهي مندوبة؛ لأنها من المعروف»
(3)
.
وقال العمراني في البيان: «العمرى: نوع من الهبة، تفتقر إلى الإيجاب والقبول، ولا تلزم إلا بالقبض، ولا يصح القبض فيها إلا بإذن الواهب»
(4)
.
(1)
. فتح القدير لابن همام (9/ 55)، المبسوط (12/ 94)، بدائع الصنائع (6/ 116)، المدونة (6/ 91)، الذخيرة (6/ 216)، القوانين الفقهية (ص: 245)، شرح الخرشي (7/ 111)، الشرح الكبير (4/ 108)، الشرح الصغير (4/ 160)، منح الجليل (8/ 201 - 202)، التاج والإكليل (6/ 61)، إعانة الطالبين (3/ 146)، المهذب (1/ 448)، الوسيط (4/ 266)، روضة الطالبين (5/ 370)، الإنصاف (7/ 134)، المغني (5/ 399)، كشاف القناع (4/ 307)، مطالب أولي النى (4/ 398)، الفروع (4/ 640).
(2)
. المبسوط (12/ 94).
(3)
. الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (4/ 160).
(4)
. البيان في مذهب الإمام الشافعي (8/ 137).
وجاء في مسائل الإمام أحمد رواية أبي الفضل: «وسألته: ما قولك في العمرى؟ قال: جائزة، هي لمن أعمرها ولورثته»
(1)
.
دليل من قال: بالجواز:
الدليل الأول:
(ح-1149) ما رواه البخاري من طريق يحيى، عن أبي سلمة،
عن جابر رضي الله عنه، قال: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى، أنها لمن وهبت له
(2)
.
الدليل الثاني:
(ح-1150) ما رواه البخاري من طريق همام، حدثنا قتادة، قال: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العمرى جائزة
(3)
.
ورواه مسلم من طريق شعبة، عن قتادة
(4)
.
وهناك أدلة أخرى تركناها اقتصارًا على ما ذكر، ولعلي أذكرها عند الكلام على الحكم الوضعي للعمرى.
القول الثاني:
أن العمرى باطلة، حكاه الماوردي وغيره عن داود الظاهري، وهو القول القديم للشافعي، قال الغزالي: وهو الأقيس؛ لأنه هبة مؤقتة، فيضاهي البيع المؤقت
(5)
.
(1)
. مسائل الإمام أحمد رواية أبي الفضل (1/ 433).
(2)
. صحيح البخاري (2625)، ورواه مسلم (25 - 1625).
(3)
. صحيح البخاري (2626)، ورواه مسلم (1626).
(4)
. مسلم (32 - 1626)
(5)
. فتح الباري (5/ 238)، شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 91)، الوسيط للغزالي (4/ 266)، نهاية المطلب (8/ 418)، مغني المحتاج (2/ 398).
وقال الحارثي من الحنابلة: «العمرى المشروعة أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك، لا غير»
(1)
.
حجة من قال: إن العمرى لا تجوز:
الدليل الأول:
(ح-1151) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير،
عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا، ولعقبه
(2)
.
وجه الاستدلال:
الحديث يأمر بإمساك الأموال، وينهى عن إفسادها بالعمرى، والأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم.
ويجاب بجوابين:
الجواب الأول:
أن المنهي عنه فعل الجاهلية، وهو توقيت الهبة، فإن من وقت الهبة مدة عمر الموهوب له، فإن ملكه سوف يزول، ويبطل الشرط، فلا يحصل له شرطه، ولا يبقى له ماله، وهذا وجه إفسادها، ولذلك صححها بقوله: فإن من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا ولعقبه، وبهذا الجمع لا تتعارض الأحاديث الصحيحة بجواز العمرى، مع مثل هذه الأحاديث، والله أعلم.
(1)
. الإنصاف (7/ 134).
(2)
. صحيح مسلم (1625).
الجواب الثاني:
(1)
.
ويناقش:
بأن المهاجرين لم يكن لهم مال حتى يعمروها، وإنما كان ذلك من الأنصار رضي الله عنهم، كما تدل عليه بعض الروايات.
الدليل الثاني:
(ث-289) ما رواه النسائي من طريق يعلى، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن طاوس،
عن ابن عباس، قال: لا تحل الرقبى، ولا العمرى، فمن أعمر شيئًا فهو له، ومن أرقب شيئا فهو له
(2)
.
[رجاله ثقات إلا أبا الزبير فإنه صدوق، وقد اختلف في إرساله، ووقفه، ورفعه مع اختلاف بين في لفظه، مما يجعلني أميل إلى الحكم عليه بالإضطرب، وليست علته كما قال بعض العلماء عنعنة أبي الزبير فإن اتهامه بالتدليس لا يثبت]
(3)
.
(1)
. صحيح ابن حبان (7/ 395).
(2)
. النسائي (3712).
(3)
. مجمل الاختلاف في أثر ابن عباس: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رواه حنضلة ومكحول عن طاوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.
ورواه سفيان، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس موقوفًا.
وخالفه زيد بن أبي أنيسة، فرواه عن أبي الزبير به مرفوعاً.
ورواه عمرو بن دينار، عن طاوس، مرفوعاً على اختلاف عليه في إسناده كما سيأتي.
ورواه أبو معاوية، وابن نمير، وابن أبي زائدة ثلاثتهم، عن حجاج، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعًا. وخالفهم محمد بن بشر، فرواه عن حجاج به موقوفاً.
هذا الاختلاف في رفعه ووقفه وإرساله، وهو على ذلك لم يسلم من اختلاف في لفظه، لهذا أرى أن أثر ابن عباس فيه اضطراب، والله أعلم. هذا المجمل، وإليك تفصيله مع بيان ألفاظه.
فالأثر رواه طاوس، واختلف عليه:
فرواه النسائي (3714) من طريق ابن المبارك، عن حنظلة، أنه سمع طاوسًا يقول: قال رسول الله: لا تحل الرقبى، فمن أرقب رقبى فهو سبيل الميراث. ورجاله ثقات إلا أنه مرسل.
وكذا رواه النسائي (3726) بالإسناد نفسه من طريق ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنا مكحول، عن طاوس، بَتَل رسول الله العمرى والرقبى. وهذا مرسل أيضًا، ورجاله ثقات إلا ابن إسحاق فهو صدوق. والبتل: القطع، والتبتل: الانقطاع عن الدنيا، ومعناه والله أعلم: أن العمرى ليست معلقة، بل الملك فيها مقطوع لمن أعمرها، والله أعلم.
ورواه أبو الزبير، واختلف عليه في لفظه:
فرواه يعلى بن عبيد، عن سفيان عن أبي الزبير موقوفًا كما في إسناد الباب، بلفظ:(لا تحل العمرى .... ).
ورواه النسائي (3711) من طريق يحيى، عن سفيان به، موقوفًا، بلفظ:(العمرى والرقبى سواء)، فوافق يعلى على وقفه، وخالفه في لفظه.
ورواه عبد الرزاق (16885) عن الثوري به بلفظ: (من أعمر شيئا فهو له). وليس فيه لا تحل.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10971) من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس. لا يحل الرقبى، ولا العمرى، فمن أرقب شيئًا، أو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أعمر شيئًا فهو له. وهذا إسناد ضعيف مع مخالفة معاوية بن هشام ليعلى وعبد الرزاق، ويحيى، والحمل على ليث، فهو أضعف رجل في الإسناد.
ورواه حجاج، واختلف عليه في رفعه ووقفه، كما اختلف عليه في لفظه:
فرواه أحمد (1/ 250) والنسائي (3710) والبزار (4843)، عن أبي معاوية، قال: حدثنا حجاج، عن أبي الزبير به، مرفوعًا، بلفظ:(العمرى لمن أعمرها، والرقبى لمن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه). فلم يأت في لفظ الحديث: لا تحل. وزاد فيه: العائد في هبته، ورفعه إلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وحجاج مدلس على ضعفه.
وتابعه ابن نمير عند أحمد (1/ 250)، قال أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا حجاج به، مرفوعًا بلفظ:(من أعمر عمرى فهي لمن أعمرها جائزة، ومن أرقب رقبى فهي لمن أرقبها جائزة، ومن وهب هبة ثم عاد فيها، فهو كالعائد في قيئه).
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (23063) حدثنا ابن أبي زائدة، عن حجاج به مرفوعًا، بلفظ: العمرى جائزة لمن أعمرها)، ولم يذكر العائد في هبته.
ورواه النسائي (3713) من طريق محمد بن بشر، قال: حدثنا حجاج به، موقوفًا بلفظ:(لا تصلح العمرى ولا الرقبى، فمن أعمر شيئًا، أو أرقبه، فإنه لمن أعمره، وأرقبه حياته وموته).
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وهذا الحديث قد رواه غير واحد، عن طاوس، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يعود .... قلت: تفرد حجاج بزيادة العائد في هبته في حديث العمرى والرقبى.
ورواه النسائي في المجتبى (3709)، والطبراني في المعجم الكبير (11000)، وابن حبان (5126) والمقدسي في الأحاديث المختارة (3797)، من طريق زيد ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير به مرفوعًا، بلفظ: لا ترقبوا أموالكم، فمن أرقب شيئًا فهو لمن أرقبه.
ورواه عمرو دينار، واختلف عليه في إسناده:
فرواه النسائي في المجتبى (3724) والكبرى (6520) من طريق قتادة، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن طاوس، عن الحجوري، عن ابن عباس به، مرفوعًا، وزاد في =
ويناقش:
بأن قوله: (لا تحل) أي مؤقتة بدليل قوله: (فهي لمن أعمرها)، جوازها في حال كونها مؤبدة، وهذا يعني صحة الهبة وإبطال الشرط.
الدليل الثالث:
(ح-1152) ما رواه النسائي من طريق إسرائيل، عن عبد الكريم،
عن عطاء، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرى والرقبى
(1)
.
[رجاله ثقات إلا أنه مرسل].
ويجاب:
بأنه المرسل من قبيل الضعيف.
(ح-1153) وقد أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك،
= الإسناد الحجوري بين طاووس وبين ابن عباس، ولفظه:(إن العمرى جائزة)، وليس فيه (لا تحل العمرى) ولا لفظ:(لا تصلح العمرى).
ورواه النسائي في المجتبى (3725) وفي الكبرى (6521) من طريق سعيد بن بشير، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعًا، بلفظ: العمرى جائزة.
وهذا مخالف لمن قال: لا تحل العمرى، ولفظ: لا تصلح العمرى إلا أن يقال: إن المنفي غير المثبت، فالمنفي في قوله:(لا تحل) أي مؤقتة، ومن قال:(العمرى جائزة) أي دائمة.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (16896) عن الأسلمي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، بلفظ:(العمرى جائزة موروثة). والأسلمي: متروك.
(1)
. سنن النسائي (3728).
وقد أخرجه النسائي (3730) من طريق عبد الله بن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطى شيئًا حياته فهو له حياته وموته، فيكون النهي عن حكم الجاهلية بأن تكون مؤقتة، والله أعلم.
عن عبد الملك بن أبي سليمان،
عن عطاء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطى شيئًا حياته فهو له حياته وموته
(1)
، فيكون النهي عن حكم الجاهلية بأن تكون مؤقتة، والله أعلم.
الدليل الرابع:
أن العمرى إن اعتبرناها هبة فهي مخالفة لمقتضى العقد، فإن الهبة تنقل الملك في الرقبة والمنفعة، وإذا كان لا يصح توقيت البيع، فكذلك لا يصح توقيت الهبة.
ويجاب:
بأن توقيت الهبة هي عارية، فإن العارية نوع من الهبة، وهي من هبة المنافع، فكذلك العمرى، ولا يؤثر فيها الغرر، فإنه لا يشترط توقيت العارية، فمتى ما أراد صاحبها استرجعها، ولا يصح قياس العارية على البيع، فإن البيع ينقل ملك الرقبة بخلاف العارية، والله أعلم.
الراجح:
القول بالجواز، وأن القول بالتحريم قول ضعيف، والله أعلم.
* * *
(1)
. سنن النسائي (3730).