الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في اشتراط إذن الواهب في القبض
إيجاب الواهب إذن بالقبض دلالة.
[م-1865] عرفنا اختلاف العلماء في عقد الهبة، وهل يلزم بالعقد أو بالقبض؟ فإذا حصل القبض، فهل يشترط أن يكون ذلك بإذن الواهب ورضاه، أو يصح القبض، ولو لم يأذن الواهب بذلك؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول:
إذا أذن الواهب في القبض صريحًا صح القبض في المجلس وبعده، وإذا نهاه عن القبض لم يصح القبض لا في المجلس ولا بعده، وإن كان لم يأذن له في القبض، ولم ينهه عنه، فإن قبض في المجلس صح القبض استحسانًا، وإن قبضها بعد الافتراق لم يصح إلا أن يأذن له الواهب في القبض. وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
حجة الحنفية في التفريق بين المجلس وغيره:
قالوا: إن القبض بمنزلة القبول في عقد البيع، والقبول في عقد البيع إذا صدر في المجلس تم العقد، وإذا لم يقبل حتى افترقا لم ينعقد العقد، فكذلك القبض
(1)
. الفروق للكرابيسي (2/ 45)، فتح القدير (9/ 21)، المبسوط (12/ 57)، تحفة الفقهاء (3/ 165)، الهداية في شرح البداية (3/ 222)، المحيط البرهاني في الفقه النعماني (6/ 238)، تبيين الحقائق (5/ 91)، حاشية ابن عابدين (5/ 690).
في الهبة إن تم في المجلس كان نافعًا، ولو لم يكن بإذن الواهب ما لم ينه عنه؛ لأن الإيجاب من الواهب تسليط على القبض في المجلس دلالة.
جاء في مجلة الأحكام العدلية: إيجاب الواهب إذن دلالة بالقبض
(1)
.
وإذا افترقا من المجلس قبل القبض، ثم قبض الهبة لم يكن له تأثير إلا بإذن صريح من الواهب؛ لأنه بمنزلة عقد مستأنف.
(2)
.
القول الثاني:
يشترط لصحة القبض إذن الواهب، ولو بعد التفرق من مجلس العقد. وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة
(3)
.
(1)
. مجلة الأحكام العدلية، مادة (843).
(2)
. اللباب في شرح الكتاب (2/ 171).
(3)
. الأم (6/ 220)، البيان للعمراني (8/ 115)، الحاوي الكبير (7/ 118)، نهاية المطلب (8/ 410)، الوسيط (4/ 270)، مغني المحتاج (2/ 400)، نهاية المحتاج (5/ 414)، الكافي لابن قدامة (2/ 467)، المبدع (5/ 364)، المغني (5/ 380)، الإنصاف (7/ 122).
والإذن نوعان: صريح، ودلالة.
أما الصريح: فنحو أن يقول له: اقبض الهبة، أو أذنت لك بقبضها، ونحو ذلك.
وأما الإذن دلالة: كالمناولة، والتخلية، ومثله أن يقبض الموهوب له الهبة فيسكت الواهب، ولا ينهاه.
(1)
(2)
.
قال العمراني في البيان: «الموهوب ليس له أن يقبض إلا بإذن الواهب، فإن
(1)
. كشاف القناع (4/ 301).
(2)
. الأم (6/ 220).
قبض بغير إذنه لم يصح القبض»
(1)
.
وقال إمام الحرمين: «لو ابتدر المتهب، وقبض من غير إقباض، ولا إذن، لم يحصل الملك»
(2)
.
وقال ابن قدامة: «ولا يجوز القبض إلا بإذنه؛ لأنه غير مستحق عليه، فإن قبض بغير إذنه، لم تتم الهبة. وإن أذن، ثم رجع قبل القبض، أو مات بطل الإذن»
(3)
.
حجة هذا القول:
أن الواهب بالخيار قبل إقباضه للهبة، إن شاء رجع عن هبته، وإن شاء أمضاها بالقبض، وذلك لأن القبض غير مستحق عليه بمجرد العقد، وإذا كان الخيار له، كان القبض بإذنه؛ لأن القبض مزيل لملكه في الهبة.
ويجاب:
ألا يكفي الإيجاب إذنًا بالقبض، خاصة أنه لا يوجد ما يدل على رجوعه عنه، فاستصحاب الإيجاب كاف في الإذن بالقبض دلالة حتى يوجد ما يدل على رجوعه صراحة أو دلالة.
القول الثاني:
لا يجوز القبض بعد الافتراق من المجلس، ولو كان بإذن الواهب، وهو قول زفر من الحنفية
(4)
.
حجة قول زفر:
أن القبض عنده ركن بمنزلة القبول على أحد قوليه، فلا يصح بعد الافتراق عن المجلس، كما لا يصح القبول عنده بعد الافتراق، وإن كان بإذن الواهب كالقبول في باب البيع
(5)
.
(1)
. البيان في مذهب الإمام الشافعي (8/ 115).
(2)
. نهاية المطلب (8/ 410).
(3)
. الكافي في فقه الإمام أحمد (2/ 467).
(4)
. تحفة الفقهاء (3/ 165)، بدائع الصنائع (6/ 124).
(5)
. بدائع الصنائع (6/ 124).
ويناقش:
بأن قول زفر عليه رحمة الله قول ضعيف حتى لو سلمنا له أن القبول ركن، فإنه إذا أذن بالقبض بعد المجلس كانت هبة مستأنفة.
القول الثالث:
ذهب المالكية وابن حزم من الظاهرية إلى أن الإذن ليس شرطًا في القبض؛ لأن الهبة تلزم عندهم بالعقد، وتملك به. فلا يتوقف الملك على القبض
(1)
.
جاء في المدونة: «قلت: أرأيت إن وهبت هبة لرجل، فقبضها بغير أمري، أيجوز قبضه؟
قال: نعم في قول مالك؛ لأنك لو منعته، ثم قام عليك، كان له أن يقبضها منك إذا كانت لغير الثواب»
(2)
.
حجة المالكية:
تقدم ذكر أدلتهم في أن الهبة تملك بالعقد، وليس للواهب منع الموهوب من القبض، وإذا امتنع الواهب عن التسليم فإنه يقضى عليه بذلك، ويجبر على التسليم، فإذا قبض الهبة صح ذلك، ولو كان بغير إذنه.
قال الباجي: «ومعنى القبض: أن يقبض المعطي العطية وتصير في يده، وإن
(1)
. المنتقى شرح الموطأ (6/ 100)، الذخيرة (6/ 255)، الشرح الكبير (4/ 101)، التاج والإكليل (6/ 54)، الخرشي (7/ 105)، منح الجليل (5/ 461)، مواهب الجليل (6/ 54)، المحلى، (9/ 126).
(2)
. المدونة (6/ 138).
كان ذلك بغير علم المعطي، ولا إذنه، فمات المعطي قبل أن يعلم، ويرضى، فذلك حوز عند ابن المواز قال: لأنه لو منعه قضى عليه بذلك.
ووجه ذلك: أن القبض حوز للمعطى ليس للمعطي منعه منه، فصح بغير إذنه كما لو امتنع من ذلك فقضي به عليه»
(1)
.
(2)
.
الراجح من الخلاف:
هذه المسألة مبنية على المسألة التي قبلها، وهي هل تملك الهبة بالعقد، أو تملك بالقبض.
فمن قال: إن الهبة تملك بالعقد، رأى أن من حق الموهوب قبض الهبة، وليس من حق الواهب منعه من ذلك،، فإذا قبضها فقد قبض ما هو مملوك له.
ومن قال: إن الهبة لا تملك ولا تلزم إلا بالقبض، وللواهب الرجوع عن هبته رأى أن قبض الهبة بدون إذن الواهب يسقط حقه بالخيار في الرجوع عن الهبة، فلا يكون القبض صحيحًا.
وقد سبق ذكر الأدلة على هذه المسألة، وأرى أنه حتى على القول بأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض لا أرى أنه يشترط إذن الواهب للقبض؛ لأنه لا يوجد في الأدلة
(1)
. المنتقى للباجي (6/ 100).
(2)
. شرح الخرشي (7/ 105).
ما ينص على اشتراط الإذن عند القبض بعد تمام الهبة، ولأن الهبة تمت بالإيجاب والقبول، ولم يوجد ما يدل على رجوع الواهب، فكان القبض صحيحًا استصحابًا للعقد، ودعوى أن الواهب قد يرجع عن هبته هذا خلاف الأصل، بل الأصل أن الواهب على إيجابه حتى يوجد ما يدل صراحة على رجوعه قبل القبض، فإذا لم يوجد فقد لزمت الهبة، والله أعلم.
* * *