الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فرع
في إبراء المدين من دين مجهول
الإبراء إسقاط حق لا تؤثر فيه الجهالة والغرر.
علمنا في المبحث السابق أن إبراء المدين من دين معلوم جائز بلا خلاف بين أئمة الفقهاء.
[م-1870) واختلفوا في إبراء المدين من دين مجهول:
وسبب الخلاف في هذه المسألة:
اختلافهم: هل الإبراء إسقاط محض كالإعتاق، أو تمليك للمديون ما في ذمته، فإذا ملكه سقط.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد النهي عن الغرر، وعن بيع المجهول، فمن العلماء من عممه في جميع التصرفات، فمنع من الجهالة في الهبة، والصدقة، والإبراء، والخلع، والصلح كالشافعية.
ومنهم من فصل فمنع من الغرر والجهالة في باب المعاوضات الصرفة، والتي يقصد فيها تنمية المال، ولم يمنع من الغرر والجهالة في باب ما هو إحسان صرف، لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة، والهبة، والإبراء كالحنفية، والمالكية.
إذا علم ذلك نأتي على تفصيل الأقوال:
القول الأول:
يصح الإبراء من المجهول، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والقديم من
قولي الشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة
(1)
.
قال ابن رجب في القواعد: «ومنها: البراءة من المجهول، وأشهر الروايات صحتها مطلقًا، سواء جهل المبرئ قدره، ووصفه، أو جهلهما معًا، وسواء عرفه المبرئ أو لم يعرفه»
(2)
.
(3)
.
دليل من قال بالصحة:
الدليل الأول:
أن ابن عمر رضي الله عنهما باع بشرط البراءة كما في موطأ مالك وغيره
(4)
.
[صحيح، ولم ينكر عليه عثمان، وإنما رأى أن البراءة مع العلم بالعيب لا تنفع].
(1)
. بدائع الصنائع (5/ 172 - 173)، تبيين الحقائق (4/ 43)، فتح القدير (6/ 397)، المبسوط (20/ 143) و (13/ 92)، حاشية ابن عابدين (5/ 204)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 503)، الشرح الكبير (3/ 411)، الفروق (1/ 150 - 151)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 171)، الحاوي الكبير (5/ 272)، مغني المحتاج (2/ 202)، الإنصاف (7/ 127)، كشاف القناع (4/ 304).
(2)
. القواعد (ص: 232).
(3)
. كشاف القناع (4/ 304).
(4)
. الموطأ (2/ 613).
الدليل الثاني:
أن الإبراء إسقاط حق، فصح مجهولًا ومعلومًا.
الدليل الثالث:
أن الجهالة في الإسقاط لا تؤدي إلى المنازعة، وإنما كانت الجهالة مبطلة في التمليكات؛ لأنها تفوت التسليم الواجب بالعقد، وهذا لا يتصور في الإسقاط، فلا تكون الجهالة مبطلة له.
الدليل الرابع:
أن ما لا يفتقر إلى التسليم يصح مع الجهالة، وما يفتقر إلى التسليم لا يصح مع الجهالة كالبيع
(1)
.
القول الثاني:
لا يصح الإبراء من المجهول، وهو القول الجديد للشافعي، والأصح في مذهبه، وقول في مذهب الحنابلة
(2)
.
(1)
. انظر الهداية في شرح البداية (3/ 42)، الحاوي الكبير (5/ 272).
(2)
. البيان للعمراني (8/ 143)، مغني المحتاج (2/ 202)، إعانة الطالبين (3/ 152)، روضة الطالبين (4/ 250)، كفاية الأخيار (1/ 266)، غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 204)، قواعد الأحكام (2/ 176 - 177)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 171).
واستثنى الشافعية صورتين: إبل الدية، والثانية: إذا ذكر غاية يتحقق أن حقه دونها، كما لو قال: أبرأتك من درهم إلى ألف، إذا علم أن ماله لا يزيد على ألف. انظر المنثور في القواعد (1/ 81 - 82)، والأشباه والنظائر (ص: 462).
وقال الشافعي في الأم (5/ 75): «ألا ترى أن رجلاً لو قال لرجل: قد صار لك في يدي مال من وجه، فقال: أنت منه بريء، لم يبرأ حتى يعلم المالك المال؛ لأنه قد يبرئه منه على أنه درهم، ولا يبرئه لو كان أكثر» .
جاء في المنهاج: «والإبراء من المجهول باطل في الجديد»
(1)
.
وقال السيوطي: الإبراء هل هو إسقاط أو تمليك قولان، والترجيح مختلف في الفروع، فمنها: الإبراء مما يجهله المبرئ، والأصح فيها التمليك، فلا يصح»
(2)
.
وقال النووي في الروضة: أظهرهما المنع
(3)
.
وجه القول بالبطلان:
الوجه الأول:
أن الإبراء إزالة ملك لا يجوز تعليقه على شرط، فلم يصح مع الجهل به.
ويناقش:
قولكم: الإبراء إزالة ملك فلا يصح مع الجهل هذا احتجاج بمحل النزاع، فأين الدليل عليه.
الوجه الثاني:
القياس على هبة المجهول، فكما لا تصح هبة المجهول لا يصح الإبراء منه.
ويناقش:
أما هبة المجهول، وتعليق الإبراء على شرط فهما محل خلاف، فلا يصح الاحتجاج بها على المخالف، وسبق بحث هبة المجهول وتعليقه، وقد رجحت الجواز.
(1)
. انظر مغني المحتاج (2/ 202).
(2)
. الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 171).
(3)
. روضة الطالبين (7/ 284).
القول الثالث:
لا تصح البراءة من المجهول إلا إذا لم يكن لهم سبيل إلى معرفته، وهو قول في مذهب الحنابلة
(1)
.
حجة هذا القول:
الدليل الأول:
(ح-1139) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة،
عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في مواريث بينهما قد درست، ليس لهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة قالت: فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذ فعلتما فاذهبا واقتسما، وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه
(2)
.
[إسناده حسن]
(3)
.
وجه الاستدلال:
قوله صلى الله عليه وسلم: (وتوخيا الحق، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) فيه دليل
(1)
. المغني (5/ 385)، القواعد لابن رجب (ص: 232).
(2)
. المصنف (22974).
(3)
. سبق تخريجه، انظر (ح 386).
على جواز الإبراء من المجهول الذي يتعذر علمه؛ لأن التوخي لا يكون من المعلوم.
ويجاب:
بأن الأثر دليل على صحة البراءة من المجهول الذي يتعذر علمه، وليس فيه دليل على حصر الجواز به، فأين الدليل من الأثر على أن الإبراء من المجهول الذي لا يتعذر علمه لا تصح البراءة منه.
الدليل الثاني:
الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة، ولا سبيل إلى العلم فيها، فلو وقفت صحة البراءة على العلم لكان سداً لباب عفو الإنسان عن أخيه المسلم، وتبرئة ذمته، فلم يجز ذلك.
القول الرابع:
تصح البراءة مع جهل المبرئ إلا أن يعرفه المبرأ، زاد في المحرر: وظن المبرئ جهله به. وهذا قول في مذهب الحنابلة؛ لأنه غار له
(1)
.
وجه القول بهذا:
إذا كان من عليه الحق يعلم مقداره، ويكتمه المستحق خوفاً من أنه إذا علمه لم يسمح بإبرائه منه، فينبغي ألا تصح البراءة فيه؛ لأن فيه تغريراً بالمشتري، وقد أمكن التحرز منه
(2)
.
(1)
. الفروع (4/ 193)، القواعد (ص: 232).
(2)
. انظر المغني (6/ 288).
الراجح:
جواز الإبراء من الدين مطلقًا، سواء علمه المبرئ أم لم يعلمه، لكن لا يجوز لمن عليه الحق إذا كان يعلم مقداره أن يكتمه عن المبرئ خوفًا ألا يسامحه لو علم بمقداره، لأن ذلك نوع من التغرير، فيعامل بنقيض قصده، والله أعلم.
* * *