الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
حكم القرض بالنسبة للمقترض
سؤال الناس مكروه والقرض ليس منه؛ لأنه يأخذه بعوضه.
[م-1758] تقدم لنا حكم القرض بالنسبة للمقرض، وأما القرض بالنسبة للمقترض فإنه مباح، ولا خلاف في جوازه عند الحاجة، إذا علم من نفسه الوفاء، وغلب على ظنه أن ذمته تفي بما يدان به، وعزم على السداد
(1)
.
(ح-1056) وقد روى البخاري من طريق أبي الغيث،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله
(2)
.
وقال ابن قدامة عن الاقتراض: «وليس بمكروه في حق المقرض. قال أحمد: ليس القرض من المسألة. يعني ليس بمكروه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض، بدليل حديث أبي رافع، ولو كان مكروهًا، كان أبعد الناس منه.
ولأنه إنما يأخذه بعوضه، فأشبه الشراء بدين في ذمته.
قال ابن أبي موسى: لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده. يعني ما لا يقدر على وفائه، ومن أراد أن يستقرض، فليعلم من يسأله القرض بحاله، ولا يغره من نفسه، إلا أن يكون الشيء اليسير الذي لا يتعذر رد مثله»
(3)
.
(1)
. المقدمات الممهدات (2/ 303)، مواهب الجليل (5/ 32)، نهاية المحتاج (4/ 221)، كشاف القناع (3/ 313).
(2)
. صحيح البخاري (2387).
(3)
. المغني (4/ 208).
وجاء في أسنى المطالب: «إنما يجوز الاقتراض لمن علم من نفسه الوفاء، وإلا لم يجز إلا أن يعلم المقرض أنه عاجز عن الوفاء»
(1)
.
وفي نهاية المحتاج: «ويحرم على غير مضطر الاقتراض إن لم يرج وفاءه من سبب ظاهر، ما لم يعلم المقرض بحاله»
(2)
.
وقال ابن قدامة: «والقرض مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض»
(3)
.
وفي كشاف القناع: «وينبغي للمقترض أن يعلم المقرض بحاله، ولا يغره من نفسه، ولا يستقرض إلا ما يقدر أن يؤديه إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة؛ لئلا يضر بالمقرض»
(4)
.
ويدل على تحريم الاقتراض كما قال الشافعية، أو على كراهيته كما يرى غيرهم لغير القادر على الوفاء، إذا لم يكن مضطرًا، ما جاء من النصوص التي تشدد في أمر الدين، من ذلك:
(ح-1057) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبي قتادة، أنه سمعه، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له
(1)
. أسنى المطالب (2/ 140).
(2)
. نهاية المحتاج (4/ 221).
(3)
. المغني (4/ 207).
(4)
. كشاف القناع (3/ 313).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك
(1)
.
(ح-1058) وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين
(2)
.
(ح-1059) وروى البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلًا؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته
(3)
.
(ح-1060) وروى البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة،
أن عائشة رضي الله عنها، أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم؟ قال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف
(4)
.
(1)
. صحيح مسلم (1885).
(2)
. صحيح مسلم (1886).
(3)
. صحيح البخاري (5371)، وصحيح مسلم (1619).
(4)
. صحيح البخاري (2397)، وصحيح مسلم (589).
وقال ابن عبد البر: «والدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة، والله أعلم، هو الذي قد ترك له وفاء، ولم يوص به، أو قدر على الأداء، فلم يؤد، أو أنه في غير حق، أو في سرف، ومات ولم يؤده، أما من أدان في حق واجب لفاقة، وعسر، ومات، ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضًا أن يؤدي عنه دينه إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين من صنوف الفيء.
وقد قيل: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتشديده في الدين كان من قبل أن يفتح الله عليه ما يجب منه الفيء والصدقات لأهلها»
(1)
.
وقال ابن رشد: «قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 283].
وقال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].
فدل ذلك من قوله على جواز التداين، وذلك إذا تداين في غير سرف، ولا فساد، وهو يرى أن ذمته تفي بما تداين به .... وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة في التشديد في الدين، ثم ذكر أحاديث منها حديث أبي قتادة المتقدم
…
فكل من ادَّان في مباح، وهو يرى أن ذمته تفي بما ادَّان به، فغلبه الدين فلم يقدر على أدائه حتى توفي، فعلى الإمام أن يؤدي ذلك عنه من بيت مال المسلمين، أو من سهم الغارمين من الصدقات .... »
(2)
.
(ح-1061) وقد روى البخاري من طريق إبراهيم، عن علقمة، قال: بينا أنا
(1)
. التمهيد (23/ 239).
(2)
. المقدمات الممهدات (2/ 304).
أمشي، مع عبد الله رضي الله عنه، فقال:
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء
(1)
.
فلم يرشد الرسول إلى الاقتراض، ولو كان لمصلحة كمصلحة الزواج.
وقال شيخنا محمد بن عثيمين: «وظاهر كلام الفقهاء أنه مباح مطلقاً
(2)
.
وينبغي أن يقال: إنه مباح لمن له وفاء، وأما من ليس له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة، ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أراد أن يتزوج وقال: ليس عندي شيء، إلى أن يقترض، بل زوجه بما معه من القرآن.
فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان ما دام عنده مندوحة عن الاقتراض أن لا يقترض، وهذا من حسن التربية؛ لأن الإنسان إذا عوَّد نفسه الاقتراض سهل الاقتراض عليه، ثم صارت أموال الناس التي في أيديهم كأنها مال عنده لا يهمه أن يقترضها، فلهذا ينبغي للإنسان أن لا يقترض إلا لأمر لا بد منه، هذا إذا كان له وفاء، أما إذا لم يكن له وفاء، فإن أقل أحواله الكراهة، وربما نقول بالتحريم، وفي هذه الحال يجب عليه أن يبين للمقرض حاله؛ لأجل أن يكون المقرض على بصيرة»
(3)
.
* * *
(1)
. صحيح البخاري (1905)، وصحيح مسلم (1400).
(2)
. لعل الشيخ يقصد بالفقهاء فقهاء الحنابلة، وإلا فإن فقهاء المالكية والشافعية لا يرون أن الاقترض مباح مطلقًا كما سبق النقل عن ابن رشد، وعن صاحب أسنى المطالب من الشافعية، والله أعلم.
(3)
. الشرح الممتع (9/ 95).