الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في توصيف العمرى
الفرع الأول
في العمرى له ولعقبه من بعده
[م-1880] إذا قال الواهب: أعمرتك هذه الدار، ولعقبك من بعدك. فهذه صورة صحيحة عند عامة العلماء، وذكر النووي: أنه لا خلاف في صحتها
(1)
.
قلت: إنما الخلاف هل يملك الرقبة، أو المنفعة على قولين.
القول الأول:
أن لها حكم الهبة، وتفيد ملك الرقبة والمنفعة، وإذا مات كانت لورثته، وإن لم يكن له ورثة فهي لبيت مال المسلمين، ولا ترجع إلى الواهب مطلقًا. وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
(1)
. انظر شرح النووي لصحيح مسلم (11/ 70).
(2)
. فتح القدير لابن همام (9/ 55)، المبسوط (12/ 94)، بدائع الصنائع (6/ 116)، المدونة (6/ 91)، الذخيرة (6/ 216)، القوانين الفقهية (ص: 245)، شرح الخرشي (7/ 111)، الشرح الكبير (4/ 108)، الشرح الصغير (4/ 160)، منح الجليل (8/ 201 - 202)، التاج والإكليل (6/ 61)، إعانة الطالبين (3/ 146)، المهذب (1/ 448)، الوسيط (4/ 266)، روضة الطالبين (5/ 370)، الإنصاف (7/ 134)، المغني (5/ 399)، كشاف القناع (4/ 307)، مطالب أولي النى (4/ 398)، الفروع (4/ 640).
واحتج الجمهور بأدلة منها:
الدليل الأول:
(ح-1154) ما رواه مسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن،
عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
ويجاب عن الحديث بجوابين:
الجواب الأول: أن التعليل في قوله: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) مدرجة في الحديث من لفظ أبي سلمة
(1)
.
(1)
. حديث أبي سلمة، عن جابر في الصحيح رواه عن أبي سلمة، اثنان:
الأول: يحيى، عن أبي سلمة، عند البخاري (2625) بلفظ:(قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى، أنها لمن وهبت له)، ورواه مسلم (25 - 1625) بلفظ:(العمرى لمن وهبت له).
الثاني: الزهري، عن أبي سلمة، ورواه عن الزهري جماعة:
الأول: الليث بن سعد، عن ابن شهاب عند الإمام مسلم (21 - 1625) بلفظ:(من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر ولعقبه).
بزيادة ذكر التعليل إلا أنه بلفظ: (فقد قطع قوله حقه فيها).
الثاني: ابن جريج، عن الزهري، عند مسلم (22 - 1625) بلفظ:(أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد، فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها، من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث). بزيادة ذكر التعليل.
الثالث: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عند مسلم (23 - 1625) بلفظ:(إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها)، قال معمر: وكان الزهري يفتي به.
فهذه الرواية من رواية معمر، عن الزهري، والراوي عن معمر صنعاني، وهو عبد الرزاق، ومعمر من أثبت الناس في الزهري خاصة إذا روى عنه صنعاني، وليس فيه زيادة التعليل، مما يؤكد أنها مدرجة.
الرابع: ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عند مسلم (24 - 1625) بلفظ:(قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط، ولا ثنيا)، قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه. اهـ
فهنا ابن أبي ذئب فصل اللفظ المدرج من اللفظ المرفوع، فأضاف فائدتين: القطع بالإدراج، وأن الإدراج حصل من أبي سلمة، وليس من غيره.
وقد جاء في التمهيد (7/ 112) نقلًا عن الذهلي أنه قال: «حديث معمر هذا إنما منتهاه إلى قوله: هي لك ولعقبك، وما بعده عندنا من كلام الزهري» .
قلت: قد رأيت من خلال التخريج أن الزيادة من قول أبي سلمة، وليست من كلام الزهري.
وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح (بين من طريق بن أبي ذئب، عن الزهري، أن التعليل من قول أبي سلمة، وقد أوضحته في كتاب المدرج».
الجواب الثاني:
أن هذا اللفظ حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والجمهور خالفوا هذا الحديث، ولم يقولوا بظاهره؛ لأنهم يقولون: إن للمعمر بيع الشاء الذي أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قول أبي سلمة:(لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث)، يعنى التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة. وقد قال تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] فلم يملكوها بالمواريث التي فرض الله، وإنما أخذوا منهم ما كان في أيديهم،
فكذلك العقب في العمرى يأخذ ما كان في يد أبيه بعطية الواهب، لا بموجب ملك أبيه
(1)
.
القول الثاني:
أن له منفعتها، ولعقبه من بعده، فإذا هلك عقبه رجعت إلى الواهب، أو إلى ورثته، وهذا مذهب المالكية
(2)
.
حجة المالكية على أن العمرى مؤقتة مطلقًا:
الدليل الأول:
أن حقيقة العمرى تمليك للمنافع، لا تمليك للرقبة مدة عمر الموهوب له، أو مدة عمره، وعمر عقبه، وإنما سميت عمرى لتعلقها بالعمر، وللمالك أن ينقل منفعة الشيء الذي يملك إلى غيره مدة معلومة أو مجهولة، إذا كان ذلك على غير عوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شيء عن ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحته
(3)
.
الدليل الثاني:
أن العمرى له ولعقبه معناه: أن الواهب يعمر الأب، ويعمر العقب إلا أن تعمير العقب يأتي بعد تعمير الأب، وهو ما يفيده لفظ (العقب) أي عقبه، ولو كانت للأب ملكًا لم يكن هناك معنى لتعمير العقب من قبل الواهب، وإذا كانت العمرى مقيدة بالأب والعقب، فإن التعمير ينتهي بانتهاء العقب، لأن هذا معنى العمرى، أي مدة عمرك وعمر عقبك.
(1)
. انظر شرح ابن بطال لصحيح البخاري (7/ 144).
(2)
. شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 91 - 92).
(3)
. شرح البخاري لابن بطال (7/ 143).
الراجح:
اللفظ اللغوي يؤيد ما يقوله مالك، إلا أن النص النبوي يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، ولا أستطيع تجاوز النص النبوي بالفهم اللغوي، والله أعلم.
* * *