الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
في هبة الدين
المبحث الأول
في هبة الدين لمن هو عليه
هبة الدين لمن هو عليه كبيعه.
الإبراء من الدين، هل هو إسقاط أو تمليك.
الإبراء لا يتوقف على القبول.
[م-1869] إذا وهب الدائن الدين لمن هو عليه فذلك جائز كبيعه عليه؛ لأنه بمثابة تمليك للمدين أو إسقاط للدين عنه، ولا حاجة لقبض جديد، ولم يختلف العلماء في جوازه
(1)
.
وإنما اختلفوا هل يشترط قبول المدين على ثلاثة أقوال:
وسبب الخلاف: هل هو تمليك فيحتاج إلى قبول، أو إسقاط، فلا يفتقر إلى قبول كالعتق، وقد جرى الخلاف على النحو التالي.
القول الأول:
يشترط قبوله، وهو الراجح في مذهب المالكية، وقول في مذهب الحنابلة
(2)
.
(1)
. المبسوط (12/ 83)، الحاوي الكبير (7/ 552)، مطالب أولي النهى (4/ 392)، الإنصاف (7/ 127).
(2)
. الشرح الكبير (4/ 99)، القوانين الفقهية (ص: 241)، الخرشي (7/ 103)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 142)، منح الجليل (8/ 179).
جاء في شرح الخرشي: «تجوز هبة الدين الشرعي لمن هو عليه ولغيره، لكن إن وهب لمن هو عليه فهو إبراء، فلا بد من قبوله؛ لأن الإبراء يحتاج إلى قبول»
(1)
.
وقال الصاوي: «قوله: (فلا بد من القبول): أي بناء على أنه نقل للملك. وحاصله: أنه اختلف في الإبراء، فقيل: إنه نقل للملك، فيكون من قبيل الهبة، وهو الراجح.
وقيل: إنه إسقاط للحق. فعلى الأول يحتاج لقبول، وعلى الثاني فلا يحتاج له كالطلاق، والعتق، فإنهما من قبيل الإسقاط فلا تحتاج المرأة لقبول فض العصمة ولا العبد لقبول الحرية»
(2)
.
القول الثاني:
لا يشترط قبول المدين، وعليه عامة مشايخ الحنفية، وهو قول في مذهب المالكية في مقابل الراجح، ومذهب الشافعية، ومذهب الحنابلة، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب
(3)
.
إلا أن الحنفية قالوا: لما كانت هبة الدين تمليكًا من وجه، فإنها ترتد بالرد، ولما كانت هبة الدين إسقاطًا من وجه فلا تتوقف على القبول.
(1)
. شرح الخرشي (7/ 103).
(2)
. حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 142).
(3)
. حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 142)، تحفة المحتاج (6/ 305)، إعانة الطالبين (3/ 152)، مغني المحتاج (2/ 400)، أسنى المطالب (2/ 481)، المغني (5/ 384)، الإنصاف (7/ 127)، المبدع (5/ 365)، مطالب أولي النهى (5/ 199)، المحرر (1/ 339)، الإقناع (3/ 32).
جاء في الفتاوى الهندية: «هبة الدين ممن عليه الدين وإبراؤه يتم من غير قبول من المديون، ويرتد برده، ذكره عامة المشايخ رحمهم الله، وهو المختار»
(1)
.
وفي الجوهرة النيرة: إذا كان له على رجل دين، فوهبه له لم يكن له أن يرجع فيه؛ لأن هبة الدين ممن هو عليه إسقاط له، وبراءة منه، فلم يبق هناك عين يمكن الرجوع فيها، وإن قال الموهوب له مجيبًا له: لا أقبلها، فالدين بحاله؛ لأنه رد للهبة»
(2)
.
جاء في مغني المحتاج: «هبة الدين للمدين إبراء له منه، لا يحتاج قبولًا»
(3)
.
جاء في المحرر: «وتصح البراءة من الدين بلفظ الإبراء، والإسقاط، والهبة، والعفو، والصدقة، والتحليل، سواء قبله المبرأ أو رده»
(4)
.
واحتجوا بقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء:4].
فأباح الله له الأكل مما وهب، من غير شرط القبول.
القول الثالث:
التفصيل: إن كان بلفظ الهبة اشترط قبول المدين، وإن كان بلفظ الإبراء لم يشترط القبول، وتبطل بالرد، اختاره بعض الحنفية.
(1)
. الفتاوى الهندية (4/ 384). وانظر البحر الرائق (7/ 296)، العناية شرح الهداية (9/ 54)، وفي تبيين الحقائق (5/ 102):«وهبة الدين لمن عليه إبراء» .
(2)
. الجوهرة النيرة (1/ 325).
(3)
. مغني المحتاج (2/ 400)، وانظر كفاية الأخيار (ص: 308).
(4)
. المحرر (1/ 339).
وجه التفريق: أن الهبة تمليك، والتمليك يفتقر إلى القبول، والإبراء: إسقاط، والإسقاط لا يفتقر إلى قبول.
ولم يفرق زفر بين الإبراء والهبة؛ لأن ما في الذمة ليس بمحل للتمليك.
قال السرخسي: «والحاصل: أن هبة الدين ممن عليه الدين لا تتم إلا بالقبول، والإبراء يتم من غير قبول، ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء الله.
وعن زفر رحمه الله أنه يسوي بينهما، وقال: تتم الهبة والإبراء قبل القبول»
(1)
.
الراجح:
قد دل الكتاب والسنة والإجماع على صحة هبة الدين لمن هو عليه.
أما القرآن فقال تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]. فأطلق على الإبراء لفظ الصدقة.
وقال تعالى: {إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].
ولا أرى أن ذلك يتوقف على قبوله؛ لأنه يتم بإرادة منفردة، ولكن لو رد ذلك يجب أن يرتد؛ لأنه لا أحد يجبر على قبول هبة أو إبراء أو صدقة، أو عطية؛ لما فيه من الضرر عليه بتحمل المنة التي تأباها قلوب ذوي المروءات، وقد يؤذى بالتحدث عن ذلك، والله أعلم.
* * *
(1)
. المبسوط (12/ 83).