الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني
أن يشترط عوضا مجهولا
تعيين الثواب في هبة الثواب غير لازم قياسًا على نكاح التفويض.
[م-1862] سبق لنا خلاف العلماء في الهبة إذا اشترط الواهب عوضًا معلومًا، أما إذا اشترط عوضًا مجهولًا، كما لو قال: وهبتك على أن تثيبني، أو تعوضني، أو تكافئني، ولم يذكر مقدار الثواب، فقد اختلف فيها الفقهاء على النحو التالي:
القول الأول:
إذا اشترط العوض وكان مجهولًا صح العقد، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وقول مرجوح في مذهب الشافعية مقابل الأظهر، ورواية عن أحمد، رجح الحارثي أن تكون المذهب، ومال إليها أبو الخطاب من الحنابلة
(1)
.
على اختلاف بينهم في مسألتين:
المسألة الأولى:
الخلاف بين الحنفية وغيرهم في توصيف العقد كما بيناه في المبحث السابق، فالحنفية يعتبرون العقد هبة ما لم يقبض، فإذا قبض أخذ أحكام البيع.
(1)
. تبيين الحقائق (5/ 99)، الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: 453)، المبسوط (12/ 76)، الفتاوى الهندية (4/ 394)، التهذيب في اختصار المدونة (4/ 358)، الذخيرة للقرافي (6/ 272)، القوانين الفقهية (ص: 242)، مواهب الجليل (6/ 67)، مغني المحتاج (2/ 404)، روضة الطالبين (5/ 385)، الإنصاف (7/ 117).
ويرى غيرهم أنه في حكم البيع ابتداء وانتهاء.
المسألة الثانية:
الخلاف في تقدير العوض، هل يقدر العوض بالرجوع إلى قيمة الموهوب، أو ما يرضى به الواهب قليلًا كان أو كثيرًا، أو ما يعد مثله لمثله في العادة.
(1)
.
فقوله: أن يأتي الموهوب بلفظ يعلم الواهب أنه عوض هبته صريح بأن الواهب لا يعرف ما هو عوض هبته، وإنما اشترط العوض، وترك للموهوب له تقديره.
وجاء في تهذيب المدونة: «وما وهبت لقرابتك أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثواباً، فذلك لك، إن أثابوك، وإلا رجعت فيها»
(2)
.
وقال ابن رشد: «وأما هبة الثواب، فاختلفوا فيها، فأجازها مالك وأبو حنيفة ; ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور.
(1)
. النافع الكبير شرح الجامع الصغير (ص: 453).
(2)
. التهذيب في اختصار المدونة (4/ 358).
وسبب الخلاف: هل هي بيع مجهول الثمن، أو ليس بيعًا مجهول الثمن؟
فمن رآه بيعًا مجهول الثمن، قال: هو من بيوع الغرر التي لا تجوز.
ومن لم ير أنها بيع مجهول، قال: يجوز وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه، وهو قول عمر»
(1)
.
(2)
.
وجاء في الإنصاف: «وعنه: أنه قال: يرضيه بشيء فيصح. وذكرها الشيخ تقي الدين رحمه الله ظاهر المذهب.
قال الحارثي: هذا المذهب. نص عليه من رواية ابن الحكم، وإسماعيل بن سعيد. وإليه ميل أبي الخطاب. وصحح هذه الرواية في الرعاية الصغرى. فقال: فإن شرطه مجهولًا: صحت في الأصح. قال في الرعاية الكبرى: وهو أولى. فعلى هذه الرواية: يرضيه. فإن لم يرض فله الرجوع فيها»
(3)
.
(1)
. بداية المجتهد (2/ 248).
(2)
. القوانين الفقهية (ص: 242).
(3)
. الإنصاف (7/ 117).
القول الثاني:
لا يصح، وهو قول في مذهب المالكية في مقابل المعتمد، والأصح في مذهب الشافعية، والأظهر عند الحنابلة
(1)
.
جاء في حاشية الدسوقي: «فتعيينه ـ يعني الثواب ـ غير لازم قياسًا على نكاح التفويض، وهذا هو المعتمد. وقيل: إن اشترط العوض في عقدها فلا بد من تعيينه قياسًا على البيع»
(2)
.
وجاء في المبدع: «وإن شرط ثوابًا مجهولًا لم يصح»
(3)
.
سبب الخلاف:
أما من لا يرى هبة الثواب مطلقًا فهذا واضح حيث يرى أن الهبة لا تقتضي عوضًا، واشتراط العوض يبطلها. وهذا واضح.
وأما سبب الخلاف عند من يرى صحة هبة الثواب إذا كان العوض معلومًا فإن الخلاف يرجع إلى مسألة أخرى ذكرتها في عقد البيع، هل يصح البيع بدون ذكر الثمن، أو لا يصح؟
فمن يرى أن البيع يمكن أن يصح، ولو لم يسم الثمن قياسًا على النكاح حيث يصح ولو لم يسم قدر المهر، ولها مهر مثلها فإنه يرى صحة هبة الثواب ولو لم يسم العوض.
(1)
. روضة الطالبين (5/ 385)، نهاية المطلب (8/ 437)، المهذب (1/ 448)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (8/ 132)، المبدع (5/ 361)، المغني (5/ 399)، الإنصاف (7/ 117)، كشاف القناع (4/ 300)، شرح منتهى الإرادات (2/ 430).
(2)
. حاشية الدسوقي (4/ 114).
(3)
. المبدع (5/ 361).
ومن قال: إن البيع لا يصح إلا إذا كان الثمن معلومًا، فإنه يجعل حكم الهبة حكم البيع، فيبطلها مع جهالة العوض، إلا أن المالكية أبطلوا البيع مع جهالة الثمن، وصححوا هبة الثواب مع جهالة العوض
(1)
.
والفارق عندهم:
أن هبة الثواب، وإن دخلها العوض، فمقصودها أيضا المكارمة، والوداد، فلم تتمحض للمعاوضة، والمكايسة، والعرف يشهد لذلك فلذلك جاز فيها مثل هذه الجهالة والغرر
(2)
.
إذا عرفنا الأقوال، وسبب الخلاف، نأتي على ذكر أدلة كل فريق.
دليل من صحح الهبة مع جهالة العوض:
الدليل الأول:
(ح-1131) ما رواه البخاري من طريق سفيان، حدثنا عمرو،
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله. قال: بعنيه، فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت
(3)
.
(1)
. انظر مواهب الجليل (4/ 276)، حاشية الدسوقي (3/ 15)، منح الجليل (4/ 465)، الشرح الصغير (3/ 30 - 31).
(2)
. انظر الذخيرة (6/ 271).
(3)
. البخاري (2166).
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من عمر بعيره، ووهبه لعبد الله بن عمر، دون ذكر للثمن.
الدليل الثاني:
(ح-1132) وقد روى الحميدي في مسنده من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، أن رجلا من أهل البادية أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول التفت، فرآني، فاستحيى، فقال: أو دوسي
(1)
.
[صحيح، وهذا إسناد حسن]
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن هذا العربي أهدى للنبي عليه السلام طلبًا للثواب، ولم يبين مقداره، لهذا أعطاه النبي عليه السلام فلم يرض، فأعطاه فلم يرض حتى أعطاه ثلاثًا، فدل على صحة هبة الثواب، ولم لم يبين العوض.
الدليل الثالث:
(ث-273) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن
(1)
. مسند الحميدي (1082).
(2)
. سبق تخريجه، انظر (ح 1126).
أبي غطفان بن طريف المري،
أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
(1)
.
[صحيح، وهذا إسناد حسن]
(2)
.
الدليل الرابع:
(ث-274) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: هو أحق بها ما لم يرض منها
(3)
.
[إسناده صحيح].
الدليل الخامس:
إذا كان الشارع قد جوز النكاح بدون تسمية المهر، قال تعالى:{لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
(4)
.
(1)
. الموطأ (2/ 754)، ومن طريق مالك رواه الطحاوي في مشكل الآثار (13/ 32)، وفي شرح معاني الآثار (4/ 81)، والبيهقي في السنن (6/ 182)، وفي المعرفة (9/ 68).
(2)
. سبق تخريجه، انظر (ث 270).
(3)
. المصنف (22126)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (22128) حدثنا ابن أبي زائدة، عن إبراهيم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر بنحوه. وإسناده صحيح.
(4)
. أحكام القرآن لابن العربي (2/ 292).
ولها مهر مثلها، فكون البيع والهبة يجوزان بثمن المثل من باب أولى؛ لأن المبيع والموهوب يوجد مثلهما كثيراً، بخلاف المرأة، فإن وجود مثلها من نسائها في صفاتها المقصودة من كل وجه قد يتعذر.
ويجاب:
بأن النكاح لا يشبه المعاوضات، قال ابن حزم: «ما ندري في أي وجه يشبه النكاح البيوع، بل هو خلافه جملة؛ لأن البيع نقل ملك وليس في النكاح ملك أصلاً
…
والخيار جائز عندهم في البيع مدة مسماة ولا يجوز في النكاح، والبيع بترك رؤية المبيع وترك وصفه باطل لا يجوز أصلاً، والنكاح بترك رؤية المنكوحة وترك وصفها جائز
…
فبطل تشبيه النكاح بالبيع جملة»
(1)
.
الدليل السادس:
أجاز عامة الفقهاء أن يقول الرجل: اعتق عبدك عني، وعلي ثمنه، وهذه معاوضة بثمن المثل.
كما أجاز كثير من الفقهاء عقد الإجارة بأجرة المثل، وهي بيع منافع.
دليل من قال: لا تصح الهبة مع جهالة الثمن:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].
فاشترطت الآية الرضا، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم.
(1)
. المحلى (9/ 285).
الدليل الثاني:
الهبة بشرط العوض، يلحقها بالمعاوضات، وعقود المعاوضات يؤثر فيها الغرر، وهو أصل متفق عليه في الجملة
(ح-1133) لما رواه مسلم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر
(1)
.
وكون العوض مجهولاً داخل في الغرر المنهي عنه.
الراجح:
صحة الهبة إذا اشترط فيها عوضًا مجهولًا، ويكون للواهب قيمة مثلها، لأن المتعاقدين لما لم يذكرا العوض قد تراضيا بالرجوع إلى قيمة المثل، فإن تراضيا على ذلك مضت الهبة، وإن لم يحصل الرضا بقيمة المثل فلكل واحد منهما حق الفسخ، والله أعلم.
* * *
(1)
. مسلك (1513).