الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
في الرجوع عن الهبة
المبحث الأول
في رجوع الواهب الأجنبي في هبته
[م-1873] الهبة إن أراد بها الواهب وجه الله، وهي ما تسمى بالصدقة فذهب الجمهور أنه لا رجوع فيها مطلقًا، من غير فرق بين أن يكون الواهب أجنبيًا أو والدًا.
واختار الشافعية في الراجح جواز رجوع الأب في صدقة التطوع على الولد
(1)
.
وأما الخلاف في رجوع الواهب الأجنبي قبل القبض، فهو يرجع إلى مسألة سبق بحثها، هل تلزم الهبة بمجرد العقد، أو تلزم بالقبض؟
فالمالكية يرون أن الهبة تلزم بالعقد خلافًا للجمهور.
أما الرجوع من الواهب الأجنبي عن الهبة بعد القبض، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
(1)
. جاء في الحاوي الكبير (7/ 547): «إذا تصدق الأب على ولده، فقد اختلف أصحابنا، هل يجوز له الرجوع فيها أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: يجوز تغليبًا لحكم الهبات.
والثاني: لا يجوز اعتبارًا بحكم الصدقات».
القول الأول:
الهبة عند الحنفية عقد جائز يجوز الرجوع فيها ولو بعد القبض، ويتم الرجوع إما بالتراضي، أو عن طريق حكم قضائي؛ لأن الرجوع فسخ للعقد بعد تمامه، فلا يصح إلا بالتراضي أو بحكم القاضي
(1)
.
قال الشلبي: «حكم الهبة وقوع الملك للموهوب له ملكًا غير لازم، وفائدته صحة الرجوع»
(2)
.
(3)
.
وقال السرخسي: «إذا وهب لأجنبي شيئًا، فله أن يرجع في الهبة عندنا - ما لم يعوض منها في الحكم - وإن كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة»
(4)
.
ويمتنع الرجوع عن الهبة عند الحنفية في الحالات التالية:
الحال الأول:
أن يُعوَّض الواهب عن هبته، بشرط أن يصرح الموهوب له بأن يقول: خذ
(1)
. المبسوط (12/ 57)، النتف في الفتاوى للسغدي (1/ 516)، العناية شرح الهداية (9/ 38)، المبسوط (12/ 82، 53، 56)، تحفة الفقهاء (3/ 166 - 167)، بدائع الصنائع (6/ 128)، تبيين الحقائق (5/ 97 - 99)، الهداية شرح البداية (3/ 225)، البحر الرائق (7/ 292)، حاشية ابن عابدين (5/ 701).
(2)
. حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (5/ 97).
(3)
. تبيين الحقائق (5/ 97 - 98).
(4)
. المبسوط (12/ 53).
هذا عوض هبتك، أو بدلًا عنها، أو في مقابلتها، فإذا عوض عنها سقط حقه بالرجوع فيها؛ لأن المقصود من الهبة قد تم.
واستدلوا على لزوم العقد بالتعويض:
الدليل الأول:
(ح 1140) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عمرو بن دينار،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها
(1)
.
[ضعيف]
(2)
.
الدليل الثاني:
(ح-1141) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي، قال: وجدت في كتاب أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وهب هبة
(1)
. المصنف ـ تحقيق عوامة (22125).
(2)
. الحديث أخرجه ابن ماجه (2387) والدارقطني (3/ 43) من طريق وكيع.
وأخرجه الدارقطني (3/ 44) من طريق جعفر بن عون.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 118) من طريق عبيد الله بن موسى، ثلاثتهم، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية الأنصاري به.
وإبراهيم رجل ضعيف. قال البيهقي (6/ 118): إبراهيم بن إسماعيل ضعيف عند أهل العلم بالحديث وعمرو بن دينار عن أبي هريرة منقطع، والمحفوظ: عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، عن عمر قال: من وهب هبة فلم يثب فهو أحق بهبته إلا لذي رحم .... قال البخاري: هذا أصح. اهـ وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريج أثر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فهو أحق بهبته ما لم يثب منها، فإن رجع في هبته فهو كالذي يقيء ويأكل قيئه
(1)
.
[ضعيف]
(2)
.
الدليل الثالث:
(ث-284) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: هو أحق بها ما لم يرض منها
(3)
.
[إسناده صحيح].
الدليل الرابع:
(ث-285) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن
(1)
. المعجم الكبير للطبراني (11/ 147) رقم: 11317.
(2)
. ابن أبي ليلى سيء الحفظ، وله طريق آخر إلا أنه شديد الضعف أو موضوع، رواه الدارقطني (3/ 44) من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن عبيد الله، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من وهب هبة فارتجع بها فهو أحق بها ما لم يثب منها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه. وإبراهيم بن أبي يحيى متهم بالكذب، ومحمد بن عبيد الله هو العرزمي متروك. انظر بيان الوهم والإيهام (3/ 135).
وحديث ابن عباس في العائد في هبته في الصحيحين وليس فيه زيادة: من وهب هبة فارتجع بها فهو أحق بها ما لم يثبت منها. فهي زيادة منكرة، والله أعلم.
(3)
. المصنف (22126)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (22128) حدثنا ابن أبي زائدة، عن إبراهيم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر بنحوه. وإسناده صحيح.
وروي مرفوعًا ولم يصح.
سفيان، عن جابر، عن القاسم، عن ابن أبزى،
عن علي، قال: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها
(1)
.
[ضعيف جدًا]
(2)
الحال الثانية:
أن يزداد الموهوب زيادة متصلة؛ لأن تلك الزيادة لم تتناولها الهبة، ولا يتأتى الرجوع في الأصل بدون الزيادة المتصلة.
الحال الثالثة:
أن يخرج الموهوب عن ملك الموهوب له؛ لأن تبدل الملك كتبدل العين.
الحال الرابعة:
موت أحدهما، فإن مات الواهب فليس لوارثه الرجوع؛ لأن التمليك بعقد الهبة لم يكن منه، فلا يخلف مورثه فيما لم يكن على ملكه عند موته.
وإن مات الموهوب له لم يحق للواهب الرجوع؛ لأن الملك انتقل من الموهوب له إلى وارثه.
الحال الخامسة:
أن تكون الهبة لذي رحم محرم فلا يجوز الرجوع فيها، وكذا ما وهب أحد الزوجين للآخر.
(1)
. المصنف (22124).
(2)
. ومن طريق سفيان أخرجه عبد الرزاق في المصنف (16526)، والدارقطني (3/ 44). وفي إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًا.
دليل المنع من الرجوع إذا كانت الهبة لذي رحم:
الدليل الأول:
(ث-286) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري،
أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
(1)
.
[صحيح، وسبق تخريجه]
(2)
.
ويناقش:
بأن عمر رضي الله عنه قسم الهبة إلى قسمين:
قسم أراد به الثواب، فلها حكم البيع. وقسم أراد به الإحسان فلا يرجع فيها، ومثل لها بالهبة لذي الرحم، والفقير.
الدليل الثاني:
(ح-1142) ما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن،
عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها.
قال الدارقطني: انفرد به عبد الله بن جعفر
(3)
.
هذه الحالات التي يمتنع فيها الرجوع عن الهبة عند الحنفية، وأدلتهم على ذلك.
(1)
. الموطأ (2/ 754).
(2)
. سبق تخريجه، انظر (ث 270).
(3)
. سنن الدارقطني (3/ 44)، ومن طريق عبد الله بن جعفر أخرجه الحاكم (2/ 60).
قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 231): فيه عبد الله بن جعفر، وقد ضعفوه. اهـ اعتقادًا منه أن عبد الله بن جعفر هو المديني والد علي بن المديني. وهو خطأ منه يرحمه الله.
قال ابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 229): «واعلم أن حديث سمرة هذا رواته كلهم ثقات، فإن عبد الله بن جعفر هو: الرقي، وهو ثقة، من رجال الصحيحين، وأخطأ المؤلف في قوله:(وقد ضعفوه) ـ يعني ابن الجوزي ـ فإن الذي ضعفوه هو: المدني، والد علي، وهو متقدم على هذا.
وعبد العزيز بن عبد الله الهاشمي: روى عنه جماعة، ووثقه الدارقطني، لكن الحديث منكر جداً، وهو أنكر ما روي عن الحسن، عن سمرة، والله أعلم. اهـ
القول الثاني:
إذا وهب الرجل هبته لأجنبي فلا يجوز الرجوع في الهبة مطلقًا قبل القبض وبعده، وهذا مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة
(1)
.
وهذا القول مبني على أن الهبة تلزم بالعقد، وتملك به، وقد سقنا الأدلة على لزوم الهبة بالعقد عند الكلام على توصيف عقد الهبة، فارجع إليه غير مأمور.
القول الثالث:
إذا وهب الرجل هبته لأجنبي جاز له الرجوع قبل القبض، ولا يجوز له الرجوع بعد القبض، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية، والحنابلة
(2)
.
وهذا القول مبني على أن الهبة لا تلزم ولا تملك إلا بالقبض، وقد سقت
(1)
. الخرشي (7/ 114)، التاج والإكليل (6/ 63)، الفواكه الدواني (2/ 155)، منح الجليل (8/ 205)، القوانين الفقهية (ص: 242).
(2)
. الحاوي الكبير (7/ 545)، البيان للعمراني (8/ 124)، روضة الطالبين (5/ 379)، شرح منتهى الإرادات (2/ 437)،
الأدلة على لزوم الهبة بالقبض عند الكلام على توصيف عقد الهبة فارجع إليه إن شئت.
الراجح:
أنه لا يجوز الرجوع في الهبة سواء قلنا: يحرم الرجوع بعد العقد، أو بعد القبض ومذهب الحنفية قول ضعيف،
(ح-1143) لما رواه البخاري من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: حملت على فرس في سبيل الله، فابتاعه أو فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تشتره وإن بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه
(1)
.
فإذا كان الواهب ممنوعًا من شراء ما وهبه، فما بالك بالرجوع في هبته.
وقد رواه الشيخان بلفظ: (العائد في صدقته)، وفي مسلم: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك.
ولأن الغالب أنك إذا اشتريت الهبة فسوف يخفض لك السعر ويستحي أن يماكسك وأنت قد أحسنت عليه.
وإذا كان شراء الواهب ما وهبه ممنوعًا منه فما بالك بالرجوع في هبته إلا أن ذلك بشرط ألا يكون قد أهدى للثواب، فإن أهدى للثواب فله الرجوع إذا لم يعوض منها، والله أعلم.
* * *
(1)
. صحيح البخاري (3003)،