الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
في التسوية بين الأولاد في العطية
[م-1877] اتفق العلماء على مشروعية العدل بين الأولاد في العطية، فلا يخص أحدهم أو بعضهم بشيء دون الآخر.
قال ابن قدامة في المغني: «ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية وكراهة التفضيل، قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل»
(1)
.
ونص الحنفية على أنه لا بأس بتفضيل بعض الأولاد على بعض في المحبة؛ لأنها عمل القلب.
جاء في الدر المختار نقلًا من الخانية «لا بأس بتفضيل بعض الأولاد في المحبة لأنها عمل القلب»
(2)
.
وإن كان الإنسان قد لا يؤاخذ على عمل القلب، إلا أنه يؤخذ على إظهار ذلك، وقد دل القرآن على أن إظهار حب بعض الأولاد على بعض قد يكون سببًا في ارتكاب الكبائر.
قال تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9].
وأجاز المالكية التفضيل بالشيء القليل بلا كراهة
(3)
.
(1)
. المغني (5/ 388).
(2)
. حاشية ابن عابدين (5/ 696).
(3)
. الفواكه الدواني (2/ 159).
واختلفوا في حكم التفضيل بالشيء الكثير على قولين:
القول الأول:
التسوية مستحبة، ويكره التفضيل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة
(1)
وترتفع الكراهة عند الحنفية والمالكية إذا كان التفضيل لزيادة حاجة.
ولا بأس بالتفضيل عند أبي يوسف إذا لم يقصد بالتفضيل الإضرار.
ومحل الكراهة عند الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة عند الاستواء في الحاجة وعدمها، فإن كان التفضيل لزيادة حاجة لم تكره عندهم.
ومنع مالك التصدق بجميع ماله كله لولده، وليس هذا خاصًا بالولد؛ لأنه بمنزلة من تصدق بماله كله، فإنه ينهى عنه.
وإليك النصوص عنهم في هذا:
جاء في حاشية ابن عابدين نقلًا من الخانية: «ولو وهب شيئًا لأولاده في الصحة، وأراد تفضيل البعض على البعض روي عن أبي حنيفة لا بأس به إذا كان التفضيل لزيادة فضل في الدين، وإن كانوا سواء يكره.
(1)
. عمدة القارئ (13/ 143)، حاشية ابن عابدين (4/ 444)، الفتاوى الهندية (4/ 391)، بدائع الصنائع (6/ 127)، البحر الرائق (7/ 288)، البيان والتحصيل (13/ 370)، الفواكه الدواني (2/ 159)، شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 82)، بداية المجتهد (2/ 246)، التمهيد (7/ 225)، شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 66)، إحكام الأحكام (2/ 154)، فتح الباري (5/ 214)، روضة الطالبين (5/ 378)، الحاوي الكبير (7/ 544)، نهاية المحتاج (5/ 415).
وروى المعلى عن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا لم يقصد الإضرار، وإلا سوى بينهم، وعليه الفتوى»
(1)
.
(2)
.
وقال النووي: «ينبغي للوالد أن يعدل بين أولاده في العطية، فإن لم يعدل فعل مكروهًا، لكن تصح الهبة»
(3)
.
وجاء في تحفة المحتاج: «(ويسن للوالد) أي: الأصل وإن علا (العدل في عطية أولاده) .... سواء أكانت تلك العطية هبة، أم هدية، أم صدقة، أم وقفًا، أم تبرعًا آخر، فإن لم يعدل لغير عذر كره عند أكثر العلماء وقال جمع: يحرم»
(4)
.
وقال الخطيب في مغني المحتاج: «محل الكراهة عند الاستواء في الحاجة أو عدمها، وإلا فلا كراهة، وعلى ذلك يحمل تفضيل الصحابة»
(5)
.
وقال ابن قدامة في المغني: «والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.
(1)
. حاشية ابن عابدين (4/ 444).
(2)
. المنتقى للباجي (6/ 93).
(3)
. شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 66).
(4)
. تحفة المحتاج (6/ 307).
(5)
. مغني المحتاج (3/ 267).
وقال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى
…
فإن خالف، فسوى بين الذكر والأنثى، أو فضلها عليه، أو فضل بعض البنين أو بعض البنات على بعض، أو خص بعضهم بالوقف دون بعض، فقال أحمد، في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة، فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال، وبه حاجة. يعني فلا بأس به ..... وعلى قياس قول أحمد، لو خص المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه، تحريضًا لهم على طلب العلم، أو ذا الدين دون الفساق، أو المريض، أو من له فضل من أجل فضيلته، فلا بأس»
(1)
.
حجة الجمهور على أن التفضيل غير محرم:
الدليل الأول:
(ث-288) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقاً من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقاً، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث ....
(2)
.
[إسناده صحيح].
قال الشافعي: وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه، وفضل
(1)
. المغني (6/ 18).
(2)
. الموطأ (2/ 752).
عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم
(1)
. ونسبه البيهقي للشافعي، ولم أقف على إسناد لهذين الأثرين
(2)
.
وأجيب بأكثر من جواب:
الجواب الأول:
قول الصحابي رضي الله عنه لا يعارض به السنة المرفوعة، وإنما تفهم السنة من خلال فهم عمل الصحابة، لا أن تطرح السنة بفعل بعضهم.
الجواب الثاني:
جاء في الفتح: «أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثل ذلك عن قصة عمر»
(3)
.
الجواب الثالث:
يحتمل أنه فضلها لحاجتها أو لفضلها، فلا يدخل في التحريم.
الدليل الثاني:
مما احتج به الشافعي وغيره: أن العلماء قد أجمعوا على جواز عطية الرجل ماله لأجنبي، وإخراج جميع أولاده من ماله، فإذا جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج بعضهم.
ويناقش:
بأن هذا قياس في مقابل النص، ولأن تفضيل الأجنبي ليس فيه تفضيل لبعض
(1)
. اختلاف الحديث (8/ 630).
(2)
. السنن الكبرى (6/ 178)، المعرفة للبيهقي (5/ 15).
(3)
. فتح الباري (5/ 215).
الأولاد على بعض، فلا يؤثر البغضاء بين الأولاد.
القول الثاني:
يحرم التفضيل، وتجب التسوية، وبه قال طاوس وأحمد وإسحاق وداود
(1)
.
فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين: إما رد عطية الأول، أو إعطاء الآخر مثله.
(2)
.
حجة الحنابلة على تحريم التفضيل:
(ح-1148) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما حدثاه،
عن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه
(3)
.
وفي رواية للبخاري: (لا أشهد على جور)
(4)
.
(1)
. المغني (6/ 18)، الكافي لابن قدامة (2/ 464).
(2)
. المغني (5/ 387).
(3)
. البخاري (2586)، ومسلم (1623).
(4)
. البخاري (2650).
ولفظ مسلم: (فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور)
(1)
.
وفي رواية للبخاري ومسلم: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)
(2)
.
وجه الاستدلال:
أن التفضيل مناف للتقوى، وهو من الظلم لتسميته جورًا، ولقوله: اعدلوا بين أولادكم، ولأن التفضيل سبب في الوقوع في العقوق، والعقوق محرم، وما كان سببًا في محرم، فهو محرم.
وأجيب الجمهور عن هذا الحديث بعدة أجوبة:
الجواب الأول:
أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، ولذلك منعه، وهو بمنزلة التصدق بجميع المال، فليس فيه حجة على منع التفضيل.
ورد هذا الجواب بأمرين:
الأمر الأول:
أن الرد لو كان بسبب أن الموهوب كان جميع المال لما كان لقوله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلت مثله معنى.
الأمر الثاني:
أن في بعض ألفاظه في الصحيحين: (سألت أمي بعض الموهبة لي من ماله)
(3)
.
(1)
. مسلم (1623).
(2)
. البخاري (2587)، ومسلم (13 - 1623).
(3)
. البخاري (2650)، ومسلم (1623).
وقال القرطبي: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلامًا، وأنه وهبه له لما سألته الأم الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره.
الجواب الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان أمره لبشير بالرد قبل إنفاذ بشير الصدقة، لأن بشيرًا إنما جاء يستشير الرسول صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن لا يفعل، فترك
(1)
.
ويجاب:
بأن أكثر طرق الحديث تخالف هذا التأويل.
الجواب الثالث:
أن النعمان كان كبيرًا، ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي.
ورد هذا الجواب:
أنه ورد في مسلم (قال النعمان فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام
…
)
(2)
.
هذا خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضا خصوصا قوله ارجعه، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره، فأمر برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوض.
(1)
. انظر شرح معاني الآثار (4/ 87).
(2)
. صحيح مسلم (1623).
الجواب الرابع:
أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أرجعه) دليل على صحة الهبة، لأن الهبة لو كانت باطلة لم يحتج الأمر إلى إرجاعه، وإنما أمره بالرجوع؛ لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، ومن أجل استحباب التسوية رجح الرجوع على لزوم الهبة.
ورد هذا الجواب:
الذي يظهر أن معنى قوله: (أرجعه) أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة.
الجواب الخامس:
أن قوله (أشهد على هذا غيري) يدل على صحة الهبة؛ لأنه لم يأمره بردها، وإنما أمره بتأكيدها بإشهاد غيره عليها، وإنما لم يشهد عليه السلام عليها؛ لتطلبه الأفضل
(1)
.
وربما امتنع من الإشهاد لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار
(2)
.
ورد هذا الجواب:
أن الصيغة وإن كان ظاهرها الإذن إلا أنها مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل، حيث امتنع الرسول عليه السلام من المباشرة لهذه الشهادة، معللا بأنها جور،
(1)
. انظر التمهيد (7/ 227).
(2)
. فتح الباري (5/ 214).
فتخرج الصيغة عن ظاهر الإذن بهذه القرائن. وقد استعملوا مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير.
ومما يستدل به على المنع أيضا: قوله (اتقوا الله) فإنه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى، وأن التسوية تقوى، وفي رواية: لا أشهد إلا على حق، وما لم يكن حقًا فهو باطل، و لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، ولأن ما لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد فيه لا يجوز لغيره أن يشهد فيه
(1)
.
واعترض على هذا الرد:
بأن الجور: هو الميل عن الاستواء والاعتدال، وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور، سواءكان حرامًا أو مكروهًا وقد وضح بما قدمناه أن قوله صلى الله عليه وسلم أشهد على هذا غيري يدل على أنه ليس بحرام فيجب تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه
(2)
.
والأول أصح.
الراجح:
تحريم التفضيل بين الأولاد إلا أن يكون التفضيل بالوصف، وليس بالعين، كأن يقول: من يطلب العلم فله كذا، ومن يحفظ القرآن يستحق كذا، فهذا التفضيل ليس للشخص، وإنما هو للوصف، والله أعلم.
* * *
(1)
. انظر الحاوي الكبير (7/ 545)، شرح الزرقاني (4/ 83)، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 155).
(2)
. شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 67).