الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في هبة الثواب إذا لم يشترط فيها العوض
إذا ادعى الواهب أنه أراد الثواب في الهبة المطلقة حمل على العرف.
[م-1863] اختلف العلماء في الهبة المطلقة، هل تقتضي عوضًا مع أنه لم يشترط في الصيغة؟ على قولين:
القول الأول:
الهبة المطلقة لا تقتضي عوضًا، ولكن العوض يسقط حق الرجوع فيها، فإن عوض الواهب عنها أصبحت لازمة، وسقط حق الواهب في الرجوع في هبته، وإن لم يعوض عنها فإن لصاحبها حق الرجوع فيها، ولو بعد القبض، ولا بد من التصريح بأن ما يدفعه الواهب عوض عن الهبة، كأن يقول: هذا عوض، أو بدل هبتك، ونحو ذلك، ويكون العوض مع ذلك له حكم الهبة، واليس حكم العوض، فيصح بما تصح به الهبة، ويبطل بما تبطل به، فأما إذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى فإنها تكون هبة مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين جميعًا؛ وذلك لأن التمليك المطلق يحتمل الابتداء، ويحتمل المجازاة، فلا يبطل حق الرجوع بالشك، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
وحق الرجوع في الهبة بعد القبض سيكون محل بحث في فصل مستقل، وهناك أستوفى إن شاء الله تعالى أدلة الحنفية على تلك المسألة.
(1)
. تحفة الفقهاء (3/ 167)، تبيين الحقائق (5/ 99)، البحر الرائق (7/ 292)، حاشية ابن عابدين (5/ 701).
القول الثاني:
إذا قال الواهب: إنه أراد الثواب من هديته صدق في ذلك، ما لم يشهد العرف ضده، كأن يهب لذوي رحم فقير، وهو غني، أو أن يهب غني لفقير أجنبي
(1)
.
وقال الشافعي في القديم: إن الهبة من الأدنى للأعلى يلزمه الثواب عليها
(2)
.
جاء في التهذيب في اختصار المدونة: «وما وهبت لقرابتك، أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثواباً، فذلك لك، إن أثابوك، وإلا رجعت فيها.
وما علم أنه ليس للثواب، كصلتك لفقيرهم، وأنت غني، فلا ثواب لك ولا تصدق أنك أردته .... وكذلك هبة غني لأجنبي فقير، أو فقير لفقير، ثم يدعي أنه أراد الثواب، فلا يصدق إذا لم يشترط في أصل الهبة ثواباً، ولا رجعة له في هبته، وأما إن وهب فقير لغني، أو غني لغني، فهو مصدق أنه أراد الثواب، فإن أثابوه وإلا رجع في هبته
…
»
(3)
.
(4)
.
(1)
. الذخيرة (6/ 272)، البيان والتحصيل (18/ 162)، القوانين الفقهية (ص: 242)،
(2)
. البيان للعمراني (8/ 132)،
(3)
. التهذيب في اختصار المدونة (4/ 359).
(4)
. الكافي لابن عبد البر (ص: 532).
وقال ابن رشد: «والهبة للثواب لا تخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يهب على ثواب يرجوه، ولا يسميه، ولا يشترطه.
والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه، ولا يسميه.
والثالث: أن يهب على ثواب يسميه، ولا يشترطه.
فأما الوجه الأول: وهو أن يهب على ثواب يرجوه، ولا يسميه، ولا يشترطه فهو على مذهب ابن القاسم كنكاح التفويض، يكون الموهوب له مخيرًا ما كانت الهبة قائمة لم تفت: بين أن يثيبه ما يكون فيه وفاء بقيمة الهبة، أو يردها عليه؛ ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوت .... »
(1)
.
وقال العمراني في البيان: «الواهبون على ثلاثة أضرب:
أحدها: هبة الأعلى للأدنى، مثل: أن يهب السلطان لبعض الرعية، أو يهب الغني للفقير .... أو يهب الأستاذ لغلامه، فهذه لا تقتضي الثواب؛ لأن القصد من هذه الهبة القربة إلى الله تعالى، دون المجازاة.
والثاني: هبة النظير للنظير، كهبة السلطان لمثله، أو الغني لمثله، فهذه لا تقتضي الثواب أيضًا؛ لأن القصد بهذه الهبة الوصلة والمحبة.
والثالث: هبة الأدنى للأعلى، مثل: أن يهب بعض الرعية للسلطان شيئًا، أو يهب الفقير للغني، أو يهب الغلام لأستاذه .. ففيه قولان:
قال في القديم: يلزمه أن يثيبه .... وقال في الجديد: لا يلزمه أن يثيبه»
(2)
.
(1)
. المقدمات الممهدات (2/ 444).
(2)
. البيان للعمراني (8/ 133).
دليل من قال: إذا زعم الواهب أنه وهب للثواب صدق.
الدليل الأول:
(ح-1134) وقد روى الحميدي في مسنده من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، أن رجلا من أهل البادية أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول التفت، فرآني، فاستحيى، فقال: أو دوسي
(1)
.
[صحيح، وهذا إسناد حسن]
(2)
.
الدليل الثاني:
(ث-275) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري،
أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
(3)
.
[صحيح، وهذا إسناد حسن]
(4)
.
(1)
. مسند الحميدي (1082).
(2)
. سبق تخريجه، انظر (ح 1126).
(3)
. الموطأ (2/ 754)، ومن طريق مالك رواه الطحاوي في مشكل الآثار (13/ 32)، وفي شرح معاني الآثار (4/ 81)، والبيهقي في السنن (6/ 182)، وفي المعرفة (9/ 68).
(4)
. سبق تخريجه، انظر (ث 270).
الدليل الثالث:
أن المعروف كالمشروط، والهبة من الأدنى للأعلى معروف أنه لا يريد بذلك وجه الله، وإنما يلتمس من هبته أن ينال أكثر منها.
القول الثالث:
أن الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا، وهو القول الجديد للشافعي، وهو الأظهر في مذهبه، والمذهب عند الحنابلة
(1)
.
(2)
.
قال في كشاف القناع: «ولا تقتضى الهبة عوضًا، ولو مع عرف، كأن يعطيه أي يعطي الأدنى أعلى منه ليعاوضه، أو يقضي له حاجة»
(3)
.
وقال ابن قدامة: «والهبة المطلقة لا تقتضي ثواباً، سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى؛ لأنها عطية على وجه التبرع، فلم تقتض ذلك كالصدقة»
(4)
.
استدل أصحاب هذا القول:
الدليل الأول:
أن الهبة المطلقة عطية على وجه التبرع، فلا تقتضي عوضًا.
(1)
. روضة الطالبين (5/ 385)، البيان للعمراني (8/ 133)، أسنى المطالب (2/ 485)، المبدع (5/ 360)، المغني (5/ 399)، كشاف القناع (4/ 300)، مطالب أولي النهى (4/ 404).
(2)
. روضة الطالبين (5/ 385).
(3)
. كشاف القناع (4/ 300).
(4)
. الكافي لابن قدامة (2/ 468).
ونوقش هذا:
إن قصدتم أن كل هبة موضوعها التبرع فهو مصادرة على محل النزاع، لاندراجها في هذه الكلية، وإن أردتم أن بعض الهبات كذلك فمسلم، ولا يضر ذلك؛ لأن المخالف يرى أن هبة الأدنى للأعلى موضوعة للعوض، والأعلى للأدنى للتبرع بشهادة العرف
(1)
.
الدليل الثاني:
أن كل عقد اقتضى عوضًا غير مسمى، لا يفترق فيه الأعلى مع الأدنى، كالنكاح في التفويض، فلو اقتضته الهبة لاستوى الفريقان.
ويناقش:
بأن هناك فرقًا بين النكاح والهبة، فالعوض في النكاح لازم شرعًا، لا يتمكنان من إسقاطه، فلذلك اطرد في جميع الصورة، بخلاف الهبة، فإن اقترن بها ما يدل على اعتبار العوض لزم، وإلا سقط.
الدليل الثالث:
إنما أوجبنا العوض إذا اشترط، تقديمًا للمعنى على اللفظ، فلفظ الهبة يقتضي التبرع، وشرط العوض يجعلها بيعًا معنى، فإذا لم يشرط العوض بقيت الهبة على أصل العقد، وهو التبرع المحض.
ويجاب عنه بما أجيب به عن الدليل الأول، بأن القول بأن الهبة لا تقتضي عوضًا، هذه دعوى في محل النزاع.
(1)
. انظر الذخيرة (6/ 271).
الدليل الرابع:
قياس الهبة على الوصية فالوصية لا تقتضي العوض، فكذلك الهبة بجامع التبرع.
ويناقش:
بأن هناك فرقًا بين الوصية والهبة، فالوصية لا يريد منها الموصي العوض؛ لأنها تقع بعد موته، وغالبًا ما يراد منها الأجر؛ لذلك لم تقتض أعواض الدنيا كالصدقة
(1)
.
الراجح:
أن الهبة إذا دل العرف على قصد الثواب فهو معتبر، ولها حكم البيع، خاصة إذا كان الواهب لا يعرف الموهوب له، وكان الهبة من الأدنى للأعلى، والله أعلم.
(1)
. الذخيرة (6/ 272).