الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني
العمرى المطلقة
صورتها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، أو هذه الدار لك عمرى، ويطلق، والمقصود بالإطلاق: ألا يشترط رجوعها بعد موته، ولا يثبت ولا ينفي العمرى لعقبه.
[م-1881] اختلف العلماء في هذه الصورة على قولين:
القول الأول:
أنها تمليك للرقبة والمنفعة، وهذا مذهب الحنفية، والقول الجديد للشافعي، والمشهور من مذهب الحنابلة
(1)
.
جاء في الهداية: «والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده
…
ومعناه: أن يجعل داره له عمره. وإذا مات ترد عليه، فيصح التمليك، ويبطل الشرط
…
وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة»
(2)
.
استدل الجمهرور بأدلة منها:
الدليل الأول:
(ح-1155) ما رواه مسلم من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير،
عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من
(1)
. فتح القدير لابن همام (9/ 55)، المبسوط (12/ 94)، بدائع الصنائع (6/ 116)، الهداية شرح البداية (3/ 228)، نهاية المطلب (8/ 418)، البيان للعمراني (8/ 137)، الإنصاف (7/ 134)، المغني (5/ 399)، كشاف القناع (4/ 307)، مطالب أولي النهى (4/ 398).
(2)
. الهداية (3/ 228).
أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا، ولعقبه
(1)
.
الدليل الثاني:
(ح-1156) ما رواه مسلم من طريق سعيد، عن قتادة، عن عطاء،
عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العمرى ميراث لأهلها
(2)
.
الدليل الثالث:
(ح-1157) ما رواه مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير،
عن جابر، قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها، ثم توفي، وتوفيت بعده، وتركت ولدًا وله إخوة بنون للمعمرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال: بنو المعمر، بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدعا جابرًا، فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك، فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم
(3)
.
القول الثاني:
أن العمرى صحيحة، وتفيد الملك للمنفعة دون الرقبة، وترجع بعد موت الموهوب إلى الواهب، وهذا مذهب المالكية، وقول ضعيف للشافعية، وقول في مذهب الحنابلة
(4)
.
(1)
. صحيح مسلم (1625).
(2)
. مسلم (1625).
(3)
. صحيح مسلم (1625).
(4)
. الذخيرة (6/ 216)، حاشية الصاوي مع الشرح الصغير (4/ 162)، الشرح الكبير (4/ 108)، منح الجليل (8/ 201 - 202)، الوسيط (4/ 266)، روضة الطالبين (5/ 370)، البيان للعمراني (8/ 137)، نهاية المطلب (8/ 418)، الكافي لابن قدامة (2/ 472).
(1)
.
واستدل المالكية على ذلك:
الدليل الأول:
(ث-290) روى مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي، يسأل القاسم بن محمد، عن العمرى وما يقول الناس فيها؟
فقال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس، إلا وهم على شروطهم في أموالهم. وفيما أعطوا
(2)
.
ويناقش:
بأن الشرط الذي يخالف النص فإنه شرط باطل غير معتبر، وقد جاء في الصحيح كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
والشرط في العمرى صح عن رسول الله أنه باطل.
(1)
. الذخيرة (6/ 216).
(2)
. الموطأ (2/ 756).
الدليل الثاني:
(ح-1158) وقال صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه
(1)
.
وإذا كان الرضا شرطًا في العقود المالية، فإن المعمر لم يهب المال مطلقًا، وإنما وهبه مقيدًا، وهذا هو معنى العمرى، وهو أن يقول الرجل للرجل: هو لك ما عشت، أي مدة عمرك، فكيف نخالف شرط الواهب، ونقول: قد خرجت العين من ملكك، حتى ولو كان قصدك أن يكون ذلك مؤقتًا، ولا عبرة بشرطك، ولا رضاك، مع أن المحكم في المعاملات المالية المقاصد والمعاني وليست الألفاظ والمباني، فإذا أعار المالك عينًا بلفظ (العمرى) مدة معينة، أو مدة حياته، كان المعتبر قصده وما أراد؛ لأنه مالك للعين، متبرع بها، لا نتجاوز قصده وإرادته.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن العمرى لا تقتضى نقل الملك عن الرقبة بدليل أنه لو قال: بعتك شهرًا، أو تصدقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الرقبة بهذا اللفظ لم يصح، كذلك إذا قال: أعمرتكه شهرًا؛ أو مدة عمرك؛ لأنه علقه بوقت مقيد.
(2)
.
(1)
. معنى الحديث ثابت في الصحيحين من حديث أبي بكرة عند البخاري (1741) ومسلم (1679)، ورواه البخاري (1739) من حديث ابن عباس (1739)، ومسلم من حديث جابر (1218). وحرمة مال المسلم مقطوع به، مجمع عليه. هذا من حيث الفقه
وأما دراسة الحديث من حيث الإسناد فقد خرجت طرقه في عقد الشفعة، انظر (10/ 159).
(2)
. المغني (5/ 400).
ويناقش:
ليس المحكم حقيقة العمرى عند العرب، وإنما المحكم حقيقة العمرى عند الشرع، فإذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة بطل حكم العرب، كما نقل الشرع الصلاة والدعاء، والزكاة وغيرها من الحقيقة اللغوية إلى الحقيقة الشرعية، والله أعلم.
ورد هذا:
بأن الخصم يدعي بأن الشرع نقل العمرى إلى التمليك المؤبد، والأصل عدم النقل؛ لأن تمليك الرقاب متى اشترط فيه التأقيت فسد كالبيع، وههنا لم يفسد، فيصرف إلى المنافع؛ لأنه لا يفسدها التأقيت، والخصم يدعي أن الشرع أبطل التأقيت تصحيحًا للملك، ونحن ندعي أن الشرع اعتبره، والإبطال على خلاف الدليل.
الراجح:
اللفظ يؤيد ما يقوله مالك، إلا أن النص يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، ولا أستطيع تجاوز النص بالفهم اللغوي، لكن لو ادعى الواهب أنه يجهل الحكم الشرعي، فإن له الخيار بالرجوع في الهبة، أو إمضائها تمليكًا، والله أعلم.
* * *