الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في رجوع الأم والجد والجدة
ذكرنا خلاف العلماء في رجوع الأب في هبته، فمنعها الحنفية وأجازها الجمهور، وذكرنا أدلتهم في المسألة السابقة.
[م-1876] واختلف القائلون بجواز رجوع الأب هل هذا خاص بالأب، أو يلحق به سائر الأصول من أم وجد وجدة؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
ذهب المالكية إلى أن الجد والجدة ليس لهما حق الرجوع في الهبة مطلقًا. وأما الأم فيجوز لها الرجوع في الهبة بشرطين:
أحدهما: ألا تريد بالهبة الأجر؛ لأنها تكون حينئذ صدقة، والصدقة لا يجوز الرجوع فيها عندهم.
الثاني: أن تكون الهبة على ولد كبير مطلقًا، أو على صغير ليس باليتيم، بحيث يكون والده حيًا، ولو كان الأب مجنونًا، ولها الرجوع حتى لو طرأ عليه اليتم بعد الهبة؛ لأن الهبة حينئذ لا تكون بمعنى الصدقة حيث كان له أب حين الهبة، أما إن كان الولد الصغير حين الهبة يتيمًا، فليس لها أن ترجع؛ لأنها تكون بمعنى الصدقة. هذا ملخص مذهب المالكية
(1)
.
(1)
. الخرشي (7/ 114)، التاج والإكليل (6/ 63)، الفواكه الدواني (2/ 155)، منح الجليل (8/ 205)، القوانين الفقهية (ص: 242)، الذخيرة (6/ 266)، الشرح الكبير (4/ 110).
جاء في التهذيب في اختصار المدونة: «وليس لغير الأبوين أن يعتصر هبة، لا جد، ولا جدة، ولا غيرهما، إلا الأبوان من الولد»
(1)
.
استدلال من ألحق الأم بالأب في الرجوع بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث (إلا الوالد فيما يعطي ولده) وسبق تخريجه
(2)
.
والأم أحد الوالدين.
الدليل الثاني:
وقوله في حديث النعمان: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)
(3)
.
فيدخل في هذا الحديث الأم، لكونها مأمورة بالتسوية والعدل، وقد يتعين الرجوع في الهبة طريقًا للتسوية بين الأولاد في العطية.
الدليل الثالث:
أن الأم لما ساوت الأب في تحريم التفضيل، وكلهم والد فيه البعضية وفضل الحنو فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع تخليصًا لها من الإثم، وإزالته للتفضيل المحرم
(1)
. التهذيب في اختصار المدونة (4/ 357)، واعتصار الهبة يقصد به الرجوع في الهبة.
(2)
. انظر تخريجه (ح 1145).
(3)
. هذا الحديث رواه البخاري (2586) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما حدثاه،
عن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه. ورواه مسلم (1623).
الدليل الرابع:
أن الأم منعت من الرجوع في هبتها لولدها اليتيم؛ لأن الهبة له بمعنى الصدقة يراد بها وجه الله، وما أريد به وجه الله لا يجوز الرجوع فيه.
واستدلوا على منع الجد والجدة من الرجوع في الهبة:
بأن الحديث ورد في رجوع الوالد، وهذا يختص بالأب، والجد لا يطلق عليه والد.
ولأن الأصل تحريم الرجوع في الهبة، والأب هو المتيقن دخوله في الحديث.
القول الثاني:
ذهب الشافعية إلى أنه لا فرق بين الأب والجد، وبين الأم والجدة على المشهور، ولا رجوع لغير الأصول كالإخوة والأعمام، وغيرهم من الأقارب
(1)
.
جاء في منهاج الطالبين: «وللأب الرجوع في هبة ولده، وكذا لسائر الأصول على المشهور»
(2)
.
قال في الحاوي: «وإذا ثبت أن ليس لغير الوالد أن يرجع فيما وهب لولده فلا فرق بين الأب والأم
…
لأن كلهم والد فيه بعضية»
(3)
.
وحجة الشافعية:
أن لفظ (الوالد) يشمل كل الأصول إن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، وإلا
(1)
. الحاوي الكبير (7/ 545)، البيان للعمراني (8/ 124)، روضة الطالبين (5/ 379)، تحفة المحتاج (6/ 309)، مغني المحتاج (2/ 401).
(2)
. منهاج الطالبين (ص: 82).
(3)
. الحاوي الكبير (7/ 547).
ألحق به بقية الأصول بجامع أن لكلٍ ولادة، وكما ألحق به في النفقة، وحصول العتق، وسقوط القود.
القول الثالث:
اختار الخرسانيون من الشافعية أن الأجداد من قبل الأب لهم حق الرجوع، وأما الجدات فلا يحق لهن الرجوع مطلقًا، وأما الأجداد من قبل الأم، ففي رجوعهم قولان.
وجه القول بعدم الرجوع:
أنهم لما كانوا لا يملكون التصرف في مال الولد بأنفسهم، فليس لهم الرجوع في هبتهم
(1)
.
القول الرابع:
قال أبو العباس ابن سريج من الشافعية: إنما يرجع الأب في هبته لولده إذا قال: إنما قصدت بالهبة ليزيد في بري، أو يترك عقوقي، ولم يفعل. فأما إذا أطلق الهبة. فإنه لا يرجع فيها
(2)
.
القول الخامس:
وذهب الحنابلة في المشهور أن الجد ليس له الرجوع في هبته، واختلفوا في الأم
(3)
.
(1)
. البيان للعمراني (8/ 124).
(2)
. البيان للعمراني (8/ 124)، روضة الطالبين (5/ 379).
(3)
. مطالب أولي النهى (4/ 409).
وفي قول للشافعية في مقابل المشهور: لا رجوع لغير الأب
(1)
.
وجه القول بذلك:
أن الخبر يتناول الوالد حقيقة، وليس الجد في معناه؛ لأنه يدلي بواسطة، ويسقط بالأب.
وأما الأم فاختلف الحنابلة في إلحاقها بالأب على قولين:
القول الأول: وهو المنصوص عن أحمد أن هبة الأم لازمة، ليس لها حق الرجوع فيها.
قال أحمد: هي عندي ليست كالأب؛ لأن للأب أن يأخذ من مال ولده، والأم لا تأخذ، ولأن للأب الولاية دونها
(2)
.
القول الثاني: أن الأم كالأب في الرجوع عن الهبة؛ لأن الأم داخلة في قوله: (إلا الوالد فيما يعطي ولده)
(3)
، وفي قوله (سووا بين أولادكم) ولأن رجوع الأم عن هبتها قد يكون طريقًا إلى التسوية بين الأولاد، وقد لا تملك طريقًا غيره كما رجع النعمان في هبته لولده.
ولأنها ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها، فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضلته به، تخليصًا لها من الإثم، وإزالة التفضيل
(1)
. مغني المحتاج (2/ 402).
(2)
. انظر المغني (5/ 390)، شرح منتهى الإرادات (2/ 438).
(3)
. البخاري (2586)، ومسلم (1623).
المحرم كالأب، قال ابن قدامة: ظاهر كلام الخرقي أن الأم كالأب في الرجوع
(1)
.
الراجح:
رجحت فيما سبق أن الوالد لا يصح له الرجوع فيما وهب إلا أن يحتاج إلى مال ولده للنفقة عليه، ولو قلنا بالقول المرجوح، فإن الحديث الوارد لم يأت بلفظ الأب حتى تخرج الأم، وإنما جاء بلفظ (الوالد) والوالد يعم الوالدة.
قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، والله أعلم.
* * *
(1)
. انظر المغني (5/ 390)، المبدع (5/ 377)، شرح منتهى الإرادات (2/ 438).