الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في اشتراط العوض في الهبة
الفرع الأول
أن يكون العوض معلوما
هبة الثواب بمنزلة البيع.
العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
[م-1861] إذا وهب الرجل عينًا، وشرط عليها ثوابًا معلومًا، كما لو قال: وهبتك هذا البستان بشرط أن تكافأني عليه بعقارك الفلاني، فقد اختلف الفقهاء في هذه الهبة على قولين:
القول الأول:
تصح الهبة، وتعطى حكم البيع، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والأظهر عند الشافعية
(1)
.
على خلاف بينهم هل تأخذ هذه الهبة حكم البيع قبل القبض، فلا يتوقف
(1)
. البحر الرائق (7/ 296)، بدائع الصنائع (6/ 132)، حاشية ابن عابدين (8/ 506)، الفتاوى الهندية (4/ 394)، التاج والإكليل (6/ 67)، منح الجليل (8/ 216)، شرح الخرشي (7/ 117)، مغني المحتاج (2/ 404 - 405)، نهاية المطلب (8/ 436)، الحاوي الكبير (7/ 232)، المهذب (1/ 447)، حاشية الرملي (2/ 47)، الوسيط (4/ 277)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (8/ 133)، الكافي لابن قدامة (2/ 468)، المغني (5/ 398)، الشرح الكبير على المقنع (5/ 464)، الإقناع في فقه الإمام أحمد (3/ 30).
الملك فيها على القبض، بل تلزم بالعقد، ولا تبطل بموت الواهب، ويدخلها الخيار، وترد بالعيب، وتنزع بالشفعة، وإذا وهبه ذهبًا وأثابه من جنسه اشترط التماثل والتقابض، وإذا أثابه عنه فضة اشترط التقابض في المجلس، ويصح بالعروض مع التفرق والتفاضل، وهذا مذهب الجمهور، وقول زفر من الحنفية
(1)
.
أو أن هذه المعاملة قبل القبض لها أحكام الهبة، ولها حكم البيع بعد التقابض: فتنزع بالشفعة، وترد بالعيب، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه
(2)
.
وهو قول في مذهب الشافعية في مقابل الأظهر، قال النووي:«وهل تثبت عقب العقد، أم عقب القبض؟ قولان. أظهرهما: الأول»
(3)
.
إذا علمت ذلك فإليك التدليل عليه من أقوال هؤلاء الفقهاء.
قال ابن القاسم من المالكية: إذا وهبه دراهم أو دنانير بشرط العوض، فيثاب عرضًا أو طعامًا.
وجاء في التاج والإكليل عن المدونة: «قال مالك: لا ثواب في هبة الدنانير والدراهم، وإن وهبها فقير لغني، وما علمته من عمل الناس.
قال ابن القاسم: إلا أن يشترط الثواب فيثاب عرضًا أو طعامًا»
(4)
.
(1)
. التاج والإكليل (6/ 67)، روضة الطالبين (5/ 386)، نهاية المحتاج (5/ 424)، الشرح الكبير على المقنع (5/ 464)، بدائع الصنائع (6/ 132).
(2)
. بدائع الصنائع (6/ 132)، حاشية ابن عابدين (8/ 506)، الفتاوى الهندية (4/ 394).
(3)
. روضة الطالبين (5/ 386).
(4)
. التاج والإكليل (6/ 67).
قال السبكي: «إذا وهب بشرط ثواب معلوم كان بيعًا على الصحيح اعتبارًا بالمعنى»
(1)
.
وقال إمام الحرمين: «الثواب إما أن يكون مقدرًا، وإما أن يكون مبهمًا، فإن كان مقدرًا، فالأصح الصحة»
(2)
.
وقال النووي: «المقيدة بالثواب، وهو إما معلوم، وإما مجهول.
فالحالة الأولى: المعلوم، فيصح العقد على الأظهر، ويبطل على قول. فإن صححنا، فهو بيع على الصحيح»
(3)
.
(4)
.
القول الثاني:
لا تصح الهبة، وهو قول في مذهب الشافعية
(5)
.
جاء في البيان للعمراني: «إن شرط ثوابًا معلومًا، فهل تصح الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها، فلم تصح، كما لو عقد النكاح بلفظ الهبة.
(1)
. الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 184)،
(2)
. نهاية المطلب (8/ 436).
(3)
. روضة الطالبين (5/ 386).
(4)
. المغني (2/ 468).
(5)
. نهاية المطلب (8/ 436)، المهذب (1/ 447).
فعلى هذا: إذا قبضه كان حكمه حكم البيع الفاسد.
والثاني: تصح الهبة، ويلزم الموهوب الثواب المشروط ....
قال الخراسانيون: هل حكمه على هذا القول حكم البيع، أو حكم الهبة؟ فيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم البيع اعتبارا بالمعنى؛ لوجود العوض فيه.
والثاني: حكمه حكم الهبة اعتبارا باللفظ»
(1)
.
سبب الخلاف في المسألة:
يرجع الخلاف في هبة الثواب إلى الخلاف في مسألة أخرى حررتها في عقد البيع:
هل العبرة في العقود بالمعاني أو بالألفاظ:
فلو أعار رجلًا شيئًا، وشرط عوضًا، فهل يعتبر العقد إعارة، أو إجارة.
ولو قال: بعتك هذا الثوب بلا ثمن، فهل ينعقد هبة، أو بيعًا؟
فإن نظرنا إلى اللفظ، فإن الإيجاب صادر بلفظ البيع، وإذا نظرنا إلى المعنى، وكون التمليك بدون عوض فهو يدل على أن العقد من عقود التبرعات.
ولو قال العاقد: وهبتك هذه الدابة بألف، فهل ذكر العوض يجعل العقد من عقود المعاوضات، فيكون بيعًا، أو نعتبر اللفظ، ونفسد العقد؛ لأن عقود التبرعات لا عوض فيها؟
(1)
. البيان للعمراني (8/ 133).
دليل من قال: الهبة بشرط العوض بيع اعتبارًا بالمعنى:
الدليل الأول:
(ح-1127) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول:
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن الواهب إذا شرط عوضًا فقد نوى البيع، والعبرة بما نوى، وليس الاعتبار للفظ.
الدليل الثاني:
(ح-1128) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك - إن كنت صادقاً- ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل
(1)
. البخاري (1)، ورواه مسلم (1907).
بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه، يقول: اللهم هل بلغت، بصر عيني وسمع أذني، ورواه مسلم
(1)
.
وجه الاستدلال:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى لفظ المعطي، وإنما نظر إلى قصده ونيته، فلما كان الحال يدل على أن المعطي إنما أعطى نظراً لولاية المعطى؛ لينتفعوا منه تخفيفًا عنهم، أو تقديمًا لهم على غيرهم، أو لغيرها من الأسباب لم يعتبر ذلك هدية، وكان هذا الحديث أصلاً في اعتبار المقاصد ودلالات الحال في العقود
(2)
.
الدليل الثالث:
النية لها أثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته، وفي الثواب والعقاب، بل لها أثر في الفعل الذي ليس بعقد، فيصير حلالاً تارةً، وحراماً تارة، باختلاف النية والقصد، فالحيوان حلال أكله إذا ذبح لله، ويحرم إذا ذبح لغير الله وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه، ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري، وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد، وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمراً معصية، ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصره بنية
(1)
. البخاري (6979)، ومسلم (1832).
(2)
. انظر إقامة الدليل (6/ 157 - 158).
أن يكون خلا أو دبسًا جائز، وصورة الفعل واحدة .... وكذلك قول الرجل لزوجه:«أنت عندي مثل أمي» ينوي به الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه .... والأمثلة كثيرة، وهي غير محصورة
(1)
.
الدليل الرابع:
(2)
.
قال ابن القيم: «
…
الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها»
(3)
.
الدليل الخامس:
(ح-1129) روى البخاري من طريق عن هشام، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها
(4)
.
(1)
. انظر أعلام الموقعين (3/ 89).
(2)
. المرجع السابق (3/ 78).
(3)
. انظر قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام (2/ 120)، المنثور في القواعد (2/ 13)، الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 123).
(4)
. صحيح البخاري (2585).
الدليل السادس:
(ح-1130) وقد روى الحميدي في مسنده من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،
عن أبي هريرة، أن رجلا من أهل البادية أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثًا، فرضي بالتسع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد هممت ألا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي. قال سفيان: وقال غير ابن عجلان: قال أبو هريرة: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول التفت، فرآني، فاستحيى، فقال: أو دوسي
(1)
.
[صحيح، وهذا إسناد حسن]
(2)
.
الدليل السابع:
(ث-270) ما رواه مالك في الموطأ، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري،
أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
(3)
.
[صحيح، وهذا إسناد حسن]
(4)
.
(1)
. مسند الحميدي (1082).
(2)
. سبق تخريجه، انظر (ح 1126).
(3)
. الموطأ (2/ 754)، ومن طريق مالك رواه الطحاوي في مشكل الآثار (13/ 32)، وفي شرح معاني الآثار (4/ 81)، والبيهقي في السنن (6/ 182)، وفي المعرفة (9/ 68).
(4)
. وقد رواه الطحاوي في مشكل الآثار (13/ 32) من طريق مكي بن إبراهيم، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 181)، من طريق ابن وهب، كلاهما عن حنظلة، عن سالم قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: من وهب هبة فهو أحق بها، حتى يثاب منها بما يرضاه. وهذا إسناد صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (22121) قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (12671) عن الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب، قال: كتب عمر بن الخطاب .. وفيه: ومن وهب هبة لذي رحم جازت هبته، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فلم يثبه من هبته فهو أحق بها. وهذا إسناد ضعيف من أجل يزيد بن أبي زياد.
الدليل الثامن:
(ث-271) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: هو أحق بها ما لم يرض منها
(1)
.
[إسناده صحيح].
الدليل التاسع:
(ث-272) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم، عن ابن أبزى،
عن علي، قال: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها
(2)
.
[ضعيف جدًا]
(3)
.
(1)
. المصنف (22126)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (22128) حدثنا ابن أبي زائدة، عن إبراهيم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر بنحوه. وإسناده صحيح.
(2)
. المصنف (22124).
(3)
. فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًا.
دليل من قال: يقدم اللفظ.
الدليل الأول:
اعتبار المعنى يؤدي إلى إهمال اللفظ، وهذا لا يصح؛ لأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود.
ويجاب عن ذلك:
بأن القول بأن ألفاظ اللغة لا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، هذه دعوى في محل النزاع، فأين الدليل على ذلك، بل قد ذكرنا في أدلة القول الأول تقديم النية على اللفظ في أحكام متفرقة، وكيف كانت النية مؤثرة في التحليل والتحريم والصحة والفساد، والثواب والعقاب.
الدليل الثاني:
العقود تفسد باقتران شرط مفسد، ففسادها بتغير مقتضاها أولى.
ويجاب:
بأن الشرط مؤثر في صحة العقد، فقد يشترط ما يخالف الشرع، وقد يشترط ما ينافي مقتضى العقد، بخلاف اللفظ فلا يشترط له لفظ معين، وإنما اللفظ وسيلة لمعرفة حصول الرضا من العاقدين، فإذا تحقق الرضا بأي لفظ كان فقد حصل المقصود.
الدليل الثالث:
الأصل حمل الكلام على ظاهره، ولو حملنا الكلام على غير ظاهره بطلت فائدة اللغة وفائدة التخاطب.
ويجاب:
نعم الأصل حمل الكلام على ظاهره إلا إذا تعذر ذلك لقرينة حالية أو عرفية، فكما أن الأصل حمل الأمر على الوجوب والنهي على الكراهة إلا لقرينة صارفة، فكذلك هنا، فنحن لم نترك ظاهر اللفظ إلا عند تعذره، وكنا بين أمرين إما أن نأخذ بهذا الظاهر والذي تيقنا أنه غير مراد للعاقدين، وبالتالي نبطل العقد، وإما أن نترك هذا الظاهر لقرينة صارفة، ونعمل بالمعنى الذي أراده العاقدان، ولا شك أن إمضاء العقود خير من إبطالها بسبب لفظ ظاهر غير مراد، وإعمال الكلام خير من إهماله.
الراجح:
أنه إذا شرط ثوابًا معلومًا فإنه بيع صحيح، له أحكام البيع، وليس له شيء من أحكام الهبة، وتركيب العقد من البيع والهبة مع اختلاف أحكامهما ليس قولًا صائبًا فأحكام الهبة تختلف عن أحكام البيع، وعقد واحد لا يحتمل أن يوصف بأنه عقدان مختلفان، والله أعلم.
* * *