الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثالث:
هناك من يشترط أن تكون الإجارة بأجرة المثل حتى يمكن توصيف العقد بأنه هبة، وإلى هذا ذهب الباحث الشيخ خالد الحافي
(1)
.
ولم يقبل مجمع الفقه الإسلامي هذا التوصيف، وجعل صورة الإجارة المنتهية بالتمليك تلقائيًا، وصورة الإجارة المنتهية بالهبة صورتين، وليست صورة واحدة، وحرم الأولى كما سبق، وجوز الثانية بشروط كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
رأيي في الموضوع:
الإجارة المنتهية بالهبة لا تجوز مطلقًا عندي فهو عقد بيع مستتر بعقد الإجارة من غير فرق بين أن تكون الأجرة بثمن المثل أو بأقل أو بأكثر.
لأن الإجارة إن كانت بأكثر من ثمن المثل، وقدم الثمن باسم الأجرة، بينما هو في الواقع قيمة المبيع مؤجلًا جعل على شكل أقساط حماية لحق البائع، فإن العقد لا يجوز لما علمت سابقًا.
فإن قيل: ألا يجوز أن تكون الأجرة بأكثر من ثمن المثل إذا كان هناك تراض بين العاقدين، ولم يكن هناك تغرير أو خداع من المؤجر قياسًا على البيع؟
فالجواب: نعم يجوز أن تكون الإجارة بأكثر من ثمن المثل لو كان عقد الإجارة منفردًا، ولم يقترن بعقد آخر، وهو الهبة، فالمستأجر لم يقبل أن تكون الأجرة أكثر من أجرة المثل إلا من أجل اقتران العقد بالهبة، وهذا يجعل عوض الهبة مستترًا بعقد الإجارة، فتكون الهبة ليست هبة محضة، وإنما من قبيل ما
(1)
الإجارة المنتهية بالتمليك - الحافي (ص: 261).
يسمى بهبة الثواب، وهي من عقود المعاوضات، وليست من عقود التبرع، ولها أحكام البيع. فتؤول هذه الصورة إلى إحدى صورتين:
إما أن نقول: هي إجارة منتهية بالبيع، وليست منتهية بالهبة، والإجارة المقترنة بالبيع بثمن بات معلق على سداد الأقساط لا تجوز على الصحيح، وسوف تأتينا إن شاء الله تعالى هذه الصورة في مبحث مستقل، وأذكر أدلة المجيزين والمانعين، أسأل الله وحده عونه وتوفيقه.
أو نقول: إنه بيع مستتر بعقد الإجارة، وهذا الأقرب.
وإن كانت الأجرة بثمن المثل فإن الهبة جزء من عقد الإجارة، وليست هبة محضة.
فالموهوب له لم يقدم على الإجارة، ولم يرغب فيها إلا لأنها جاءت مقرونة بعقد الهبة، فهذا الذي أغراه بالإجارة، وحمله عليها حتى ولو كانت الإجارة بثمن المثل، فأصبحت هذه العدة جزءًا من المعاوضة لا يجوز الخروج منها، أو التحايل على إسقاطها، لأن البنك عندما وعد ببذل السلعة لا يبذلها هدية للمشتري أو إحسانًا عليه، فالبنوك كل البنوك إسلامية أو ربوية ما قامت من أجل الأعمال الخيرية فالغاية من الهدية والباعث عليها ترويج السلع، وإغراء الناس في الشراء، وهذا يلحقها بعقود المعاوضات لا عقود التبرعات؛ لأن التبرع والهبة إذا رتب على عمل خرج من كونه تبرعًا إلى كونه معاوضة.
قال ابن تيمية: «الواهب لا يهب إلا للأجر فتكون صدقة، أو لكرامة الموهوب له فتكون هدية، أو لمعنى آخر فيعتبر ذلك المعنى»
(1)
.
(1)
إقامة الدليل على إبطال التحليل (3/ 147).
وجاء في القواعد لابن رجب: «تعتبر الأسباب في عقود التمليكات، كما تعتبر في الأيمان، ويتخرج على هذا مسائل متعددة .... » ذكر منها:
هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك، فإن سببها طلب استدامة النكاح، فإن طلقها فلها الرجوع فيها، نص عليه أحمد في رواية عبد الله ....
ومنها ما نص عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحمًا، ثم استزاد البائع فزاده، ثم رد اللحم بعيب، فالزيادة لصاحب اللحم؛ لأنها أخذت بسبب اللحم، فجعلها تابعة للعقد في الرد؛ لأنها مأخوذة بسببه، وإن كانت غير لاحقة به»
(1)
.
فأنت ترى أن المرأة أجاز لها الإمام أحمد الرجوع بالهبة مع أن الرجوع بالهبة بعد القبض من كبائر الذنوب إعمالًا للسبب.
ومنه ما يحصل في عصرنا، فيقول البائع: اشتر واحدًا، وخذ واحدًا مجانًا. فالهبة هنا ليست هبة محضة، ويستطيع المشتري أن يرد الموهوب بالعيب، ويأخذ بدلًا منه، وإذا فسخ البيع رد العين الموهوبة، ولا يصح له أن يقول: هذا كان هبة وقد لزمت بالقبض، وهذا يدل على أن الهبة أخذت أحكام البيع، ولم يطبق عليها أحكام الهبة المحضة؛ لأن الهبة هنا ارتبطت بسبب، وهو الشراء، فأخذت حكمه، وكان قصد البائع هو تخفيض المبيع إلا أنه أراد أن يحافظ على ثمن المبيع بلا تخفيض فلجأ إلى التخفيض عن طريق زيادة المبيع، أو أنه أراد أن يسوق قطعتين بدلًا أن يكون التخفيض في قطعة واحدة، فيضمن نفاق البضاعة؛ لأن التخفيض لو كان للقطعة الواحدة فربما لا يأخذ المشتري إلا قطعة واحدة، فيبقى عنده قدر من المبيع.
(1)
انظر القاعدة: رقم (150)(ص: 321).
نعم لو وهبه العين بعد لزوم عقد الإجارة فإنه واضح أنها هبة محضة منفكة عن عقد الإجارة، ولم تكن سببًا في تسويق عقد الإجارة، ومرغبة فيه.
ومما يدل على أن الهبة جزء من عقد المعاوضة:
أن الإنسان لو وهبه أحد شيئًا وعلق ذلك على أمر مستقبل، ولم يتحقق الشرط لم تنفذ الهبة على الورثة.
فلو قال رجل: إذا دخل الشهر الفلاني فقد وهبتك كذا وكذا، ثم مات الواعد قبل دخول الشهر لم يستحق الموعود الهبة من مال الوارث؛ لأن دخول الشهر كان بعد موته.
أما المؤجر فلو مات قبل سداد الأقساط، فهل تسقط الهبة باعتبار أن الوعد بالهبة عقد مستقل، وقد توفي الواهب قبل سداد الأقساط فلا يستحق الهبة من مال الورثة.
أو يكون هذا الوعد وعدًا نافذًا على الورثة إذا سدد المستأجر آخر قسط من أقساط الإجارة باعتبار أن الهبة جزء من عقد الإجارة.
وإن كنت لم أقف على كلام لأهل العلم المتقدمين في هذه المسألة إلا أن الشيخ محمد المختار السلامي أشار إليها في بحث له، ورجح أن الورثة ملزمون بتنفيذ الوعد باعتبار أنهم وارثون للمورث فيما له، وفيما عليه من حقوق
(1)
.
فجعلها من الحقوق اللازمة مع أن الهبة معلقة على شرط لم يتحقق في حياة المورث، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط، وهذا دليل على أن الهبة جزء من عقد المعاوضة، وإن أعطيت اسم الهبة، والله أعلم.
(1)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني عشر (1/ 345).
وعليه أرى أن عقد الإجارة إذا انتهى بالتمليك أنه عقد بيع استتر في عقد الإجارة، وأن ما يقدم على شكل أقساط هو في حقيقته ثمن، وليس أجرة، وإذا كان كذلك فلا أرى أنه قد توفر في العقد شروط البيع الصحيح؛ لوجود الشرط المفسد، وهو احتفاظ البائع بالملكية إلى حين سداد الأقساط، وهذا شرط مخالف لمقتضى العقد، والبديل عنه أن يبيعه السلعة ويشترط عليه رهنها إلى حين سداد الأقساط، وبهذا يتحقق مقصود البائع من ضمان حقه، والله أعلم.
* * *