الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
في شروط الإجارة
الفصل الأول
في شروط الإجارة المتعلقة بالعاقد
الشرط الأول
في أهلية العاقد
عند الكلام على شروط الإجارة تجد الفقهاء يحيلون تفاصيل شروط الإجارة على ما سبق لهم أن قرروه في عقد البيع
(1)
.
(2)
.
وقد فصلت الكلام على شروط البيع إلا أنني لم أجمع الشروط في مبحث واحد، فذكرت شروط البيع المتعلقة بالصيغة عند الكلام على الإيجاب والقبول.
وذكرت شروط البيع المتعلقة بالعاقدين عند الكلام على أحكام العاقدين.
(1)
حاشية الجمل (3/ 532).
(2)
جواهر العقود (1/ 224).
وذكرت شروط البيع المتعلقة بالمعقود عليه عند الكلام على أحكام المبيع وأحكام الثمن، فجاءت شروط البيع مفرقة على هذه الأحكام الكثيرة والمختلفة، لذا سوف أذكر هنا بعض الشروط، وأحيل ما بقي منها على ما هو مقرر في عقد البيع ..
الشرط الأول: أهلية العاقد.
[م-827] وقد سبق لنا في عقد البيع تعريف الأهلية وأقسامها بما يغني عن إعادته هنا.
والأهلية قد تكون كاملة، وقد تكون ناقصة، وقد تكون معدومة.
فالكاملة: في حق البالغ الحر الرشيد غير المحجور عليه. فمن اتصف بهذه الصفات تحققت له أهلية الأداء الكاملة، ويكون حرًا طليقًا في تصرفاته إلا فيما نهى عنه الشرع أو قيده.
وتكون الأهلية ناقصة في حق الصبي المميز، والسفيه، والعبد.
وتكون معدومة في حق الصبي غير المميز، والمجنون ونحوهما.
[م-828] فمن كانت أهليته معدومة كالمجنون والصبي غير المميز فإن إجارتهما لا تنعقد، ولا فرق في الصبي غير المميز بين أن يأذن له الولي أو لا يأذن.
لأن أهلية العاقد شرط انعقاد التصرف، والأهلية لا تثبت بدون عقل ولا تمييز فلا يثبت الانعقاد بدونهما
…
(1)
.
(1)
بدائع الصنائع (5/ 135)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 494 - 495)، الخرشي (7/ 3)، الفواكه الدواني (2/ 110)، الشرح الكبير (4/ 3).
ولأن المجنون وغير المميز أقوالهما وأفعالهما ملغاة لا اعتداد بها شرعًا فلا تصح بهما عبادة ولا تجب بهما عقوبة ولا ينعقد معهما بيع ولا شراء، ولا إجارة.
حتى تلك العبادات التي تصح من غير المميز كالحج والعمرة، لا تصح منه النية، وإنما ينوي عنه وليه.
وإذا لم يصح منهما قصدٌ (النية)، فكيف يقع منهما إيجاب أو قبول، وكيف يتصور وقوع الرضا منهما، وهو شرط أساسي في صحة العقود، ومنها الإجارة.
[م-829] وأما البلوغ فهل يكون شرطًا للانعقاد؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
تصح إجارة الصبي المميز، ويكون موقوفًا على إجازة الولي، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية
(1)
.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: «وأما الصبي العاقل فتصح منه التصرفات النافعة بلا خلاف، ولا تصح منه التصرفات الضارة المحضة بالإجماع، وأما الدائرة بين الضرر والنفع، كالبيع، والشراء، والإجارة، ونحوها فينعقد عندنا موقوفًا على إجازة وليه، فإن أجاز جاز، وإن رد بطل. وعند الشافعي رحمه الله لا تنعقد أصلًا .. »
(2)
.
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 410)، بدائع الصنائع (4/ 175)، تبيين الحقائق (4/ 104)، الشرح الكبير (4/ 3)، الخرشي (7/ 3)، المنتقى للباجي (6/ 194).
(2)
بدائع الصنائع (7/ 171).
القول الثاني:
لا تصح إلا أن يكون مبنيًا على إذن سابق، وهذا مذهب الحنابلة
(1)
.
لأن الصبي إذا لم يؤذن له في التصرف كان محجورًا عليه، وتصرفات المحجور عليه باطلة غير صحيحة قياسًا على السفيه
(2)
.
القول الثالث:
منع الشافعية الصبي من التصرف مطلقًا، سواء أكان مأذونًا له أم لا، وإنما الذي يباشر العقد عنه وليه.
وقد فصلت أدلتهم في عقد البيع من المجلد الأول فأغنى عن إعادتها في كتاب الإجارة.
إذا علم ذلك ترتب على هذا ما يلي:
الأول: أن الصبي غير المميز والمجنون لو أجرا أنفسهما فلا أجرة لهما مطلقًا؛ لأن العقد لم ينعقد أصلًا عند الجمهور.
واختار المالكية أن الإجارة إن وقعت فالأكثر من المسمى أو أجرة المثل.
جاء في الذخيرة: «إذا استأجر صبيًا أو مجنونًا بغير إذن وليه امتنع، فإن وقع فالأكثر من المسمى أو أجرة المثل»
(3)
.
الثاني: إذا أجر الصبي المميز نفسه بإذن وليه فله الأجرة على مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة.
(1)
كشاف القناع (3/ 458)، قال ابن قدامة في المغني (4/ 168):«أما إن تصرف بغير إذن وليه لم يصح تصرفه، ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة وليه» .
(2)
كشاف القناع (3/ 458).
(3)
الذخيرة (5/ 373).
وإن أجر نفسه بلا إذن، فأجازه الولي صحت الإجارة عند الحنفية والمالكية، ولم تصح عند الحنابلة.
لأن الحنابلة يشترطون الإذن المسبق، والحنفية والمالكية يشترطون الإجازة، والفرق بينهما أن الإجازة تكون بعد انتهاء العقد، والإذن لا بد أن يكون سابقًا للعقد.
وإن أجر نفسه بلا إذن وليه فلم يعلم الولي إلا بعد انقضاء المدة، فهل يستحق الصبي المميز الأجر لما عمل؟ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
له الأجر المسمى، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
القول الثاني:
له الأكثر من الأجر المسمى وأجر المثل، وهذا مذهب المالكية
(2)
.
القول الثالث:
إذا أجر الصبي نفسه لم تصح إجارته، فلا يستحق الأجر المسمى، وهل يستحق أجرة المثل؟ قولان في مذهب الشافعي.
أحدهما: لا يستحق.
والثاني: له أجر المثل، باعتبار أن الإجارة فاسدة، والشافعية يوجبون في
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 437)، حاشية ابن عابدين (6/ 145)، تبيين الحقائق (6/ 34)، المبسوط (16/ 42 - 43).
(2)
المدونة (3/ 44)، منح الجليل (7/ 435)، مواهب الجليل (5/ 392)، المنتقى للباجي (6/ 194)، الفواكه الدواني (2/ 110).
الإجارة الفاسدة أجرة المثل بخلاف الإجارة الباطلة فلا يجب فيها شيء، وهذه من المواضع التي يفرق فيها الشافعية بين الفاسد والباطل
(1)
.
وجاء في الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي: «سئل عما إذا رد الصبي العين المجعول عليها جعل، فهل يستحق الجعل؟
فأجاب بقوله: نعم يستحقه كما اقتضاه إطلاقهم، وأفتى به البارزي وقاسه على ما لو قال له: خط هذا الثوب ولك أجرة.
وله احتمال أنه يستحق أجرة المثل، كما لو عقد الإجارة مع الصبي على عمل
…
»
(2)
.
وأما الإجارة الباطلة فلا يجب فيها شيء عند الشافعية.
قال في مغني المحتاج بعد أن بين أن الإجارة الفاسدة يجب فيها أجرة المثل، قال:«وخرج بالفاسدة الباطلة، كاستئجار صبي بالغًا على عمل فعمله، فإنه لا يستحق شيئًا»
(3)
.
والقائلون بأن له الأجر أقوى؛ لأن الحجر على الصبي المميز إنما هو من أجل مصلحته، وعدم أخذ الأجرة في مقابل عمله إضرار به، وليس من قبيل المحافظة على ماله، وأخذ الأجرة نفع محض لا ضرر فيه، والحجر عليه إنما كان من أجل حظه، فلا يحرم أجرة ما عمله، ولأنه بمثابة ما لو احتطب الصبي ملك ذلك بالاحتطاب.
(1)
المجموع (7/ 98)، مغني المحتاج (2/ 359).
(2)
الفتاوى الفقهية الكبرى (3/ 375) و انظر شرح البهجة للأنصاري (3/ 345)، أسنى المطالب (4/ 479)، حاشية الجمل (5/ 474).
(3)
مغني المحتاج (2/ 359).
واعتبار الأكثر من الأجر المسمى أو أجر المثل أقوى من اعتبار أجر المثل؛ لأن الأجر المسمى إن كان أكثر من أجر المثل فقد رضي المؤجر ببذله، وما رضي ببذله وجب عليه، وإن كان الأجر المسمى دون أجر المثل فلا يقبل منه استغلاله للصبي، فيعطى له أجر المثل، والله أعلم.
[م-830] وفي إجارة المعتوه:
صحح الحنفية إجارته إذا أجازه الولي.
جاء في مجلة الأحكام: «المعتوه في حكم الصغير المميز»
(1)
، وقد علمنا حكم تصرف الصبي المميز عند الحنفية.
وأما المالكية والحنابلة فلا يصححون إجارته.
جاء في الشرح الصغير: «ولا تصح - يعني الإجارة - من مجنون ومعتوه ومكره»
(2)
.
وقال ابن قدامة في تعريف المعتوه: «وهو زائل العقل بجنون مطبق»
(3)
.
وإذا كان بحكم المجنون لم تصح إجارته.
والمدار على التمييز، فإن كان مع العته تمييز صار بمنزلة الصبي المميز، وإن كان ليس معه تمييز كان بمنزلة الصبي غير المميز، لا تصح إجارته، وقد فصلت الكلام على بيع المعتوه، والإجارة في حكم البيع، فأغنى عن الإعادة، والحمد لله.
(1)
انظر مادة (978).
(2)
الشرح الصغير (4/ 7).
(3)
المغني (7/ 38).
[م-831] وفي إجارة السكران:
لم يتكلم الفقهاء في إجارته، ولكن تكلموا عن بيعه وسائر تصرفاته، والإجارة مقيسة عليه، وقد اختلف في بيعه على قولين.
القول الأول:
يصح بيعه، وسائر تصرفاته، وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة في المشهور
(3)
،
واختيار ابن نافع من المالكية
(4)
.
(1)
البحر الرائق (3/ 266)، كشف الأسرار (4/ 354)، المبسوط (24/ 34).
(2)
قال في المجموع (9/ 181 - 182): «وأما السكران فالمذهب صحة بيعه وشرائه، وسائر عقوده التي تضره والتي تنفعه. والثاني: لا يصح شيء منها. والثالث: يصح ما عليه دون ماله» . اهـ وقال السيوطي في الأشباه والنظائر (ص: 216): «اختلف في تكليفه - يعني السكران- على قولين، والأصح المنصوص في الأم أنه مكلف» .
وقال في روضة الطالبين (3/ 342): «ويصح بيع السكران وشراؤه على المذهب، وإن كان غير مكلف» وانظر الوسيط (5/ 390 - 391)، مغني المحتاج (2/ 7)، نهاية المحتاج (3/ 386).
(3)
جاء في الإنصاف (8/ 433 - 435): «تعتبر أقواله وأفعاله - يعني السكران - في الأشهر عن الإمام أحمد رحمه الله» . وانظر قواعد ابن رجب: القاعدة الثانية بعد المائة، والكافي في فقه ابن حنبل (3/ 164 - 165)، شرح منتهى الإرادات (3/ 75)، الفتاوى لابن تيمية (33/ 103) وما بعدها، منار السبيل (2/ 209).
وجاء في مسائل أحمد رواية عبد الله في طلاق السكران (1504): «قلت لأبي: فالسكران؟ قال: كنت أجترئ عليه، فأما اليوم فلا، قلت: لم؟ قال: لأنه ليس بمرفوع عنه القلم، قال أبي: وكذا كان الشافعي يقول: وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم» .
(4)
مواهب الجليل (4/ 242)، الشرح الصغير (3/ 17)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 5 - 6)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (3/ 7)، الخرشي (5/ 8).
القول الثاني:
لا يصح شيء من تصرفاته، وهو قول أبي يوسف، وأبي الحسن الكرخي، وأبي جعفر الطحاوي من الحنفية
(1)
،وهو مذهب مالك وعامة أصحابه
(2)
، وقول في مذهب الشافعية
(3)
، وقول في مذهب الحنابلة
(4)
، واختيار ابن حزم
(5)
.
وقد فصلت أدلة الأقوال في عقد البيع فأغنى عن إعادته هنا، والذي أميل إليه أن الذي لا يتأثر بالسكر مطلقًا؛ لكونه قد شرب قليلًا منه، أو لكونه قد اعتاد شربه حتى أصبح لا يؤثر في عقله، أنه لا فرق بينه وبين الصاحي؛ لأن الحكم يدور مع علته، فالعلة هي الخوف من تأثير السكر على العقل، فإذا انتفى التأثير انتفى الحكم. ولذلك قال تعالى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] فجعل غاية النهي هي إدراك ما يقول.
وأما من أثر فيه السكرـ ولو لم يذهب عقله بالكلية، فإنه لا يصح تصرفه؛ لأنه معروف أن من يشرب الخمرة فقد تدفعه إلى الإقدام على الصفقة من غير إدراك لعواقبها، وإن كان لا يزال معه بقية من عقله، وقد تحول البخيل إلى كريم، والجبان إلى شجاع كما قال حسان:
ونشربها فتتركنا ملوكًا وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء
(1)
كشف الأسرار (4/ 354).
(2)
مواهب الجليل (4/ 242)، شرح ميارة (2/ 21)، تفسير القرطبي (5/ 203)،.
(3)
المجموع (9/ 181 - 182).
(4)
كشاف القناع (3/ 151)،.
(5)
المحلى مسألة (1523).
وقال آخر:
فإذا شربت فإنني
…
رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وفي إجارة السفيه:
[م-832] اختلف الفقهاء في إجارته على ثلاثة أقوال:
فيرى أبو حنيفة أن تصرفه نافذ؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل، وإن كان سفيهًا
(1)
.
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن تصرفه لا يصح إلا بإذن وليه كالصبي المميز
(2)
.
(1)
الجوهرة النيرة (1/ 242)، بدائع الصنائع (7/ 169 - 171)، وقال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 668):«كان أبوحنيفة رضي الله عنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه، ولا لتبذير، ولا لدين وإفلاس وإن حجر عليه القاضي، ثم أقر بدين، أو تصرف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما جاز تصرفه، وإن لم يؤنس منه رشد .... » .
وقال في العناية شرح الهداية (9/ 259): «قال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ العاقل السفيه، وتصرفه في ماله جائز، وإن كان مبذرًا مفسدًا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة، كالإلقاء في البحر، والإحراق بالنار» .
(2)
وقال في القوانين الفقهية (ص: 163): «ويشترط في البائع أن يكون رشيدًا، فإن بيع السفيه والمحجور عليه لا ينفذ، وشراؤه موقوف على نظر وليه» .
وانظر الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي (3/ 294)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (3/ 384)، وحاشية الدسوقي (3/ 294)، وحاشية العدوي (2/ 246)، ومواهب الجليل (4/ 245)، ومنح الجليل (6/ 89). وفي مذهب الحنابلة، قال المرداوي (4/ 267):«قوله: إلا الصبي المميز والسفيه فإنه يصح تصرفهما بإذن وليهما في إحدى الروايتين، وهي المذهب وعليه الأصحاب» . وانظر شرح الزركشي (4/ 92)، الفروع (4/ 318)، مطالب أولي النهى (3/ 10).
ويرى الشافعية أن تصرفه باطل مطلقًا أذن له وليه، أو لم يأذن له
(1)
.
وقد تكلمنا على ذلك في عقد البيع، وذكرنا أدلة كل قول، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله.
* * *
(1)
الأم (3/ 218)، وقال في أسنى المطالب (2/ 209): «ولا يصح من السفيه المحجور عليه شرعًا، أو حسًا عقد مالي، كالبيع والشراء ولو بغبطة
…
ولو بإذن الولي أو الموكل».
وانظر شرح البهجة للأنصاري (3/ 125)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 377 - 278)، تحفة المحتاج (5/ 170 - 171)، المنثور في القواعد (2/ 204).