الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوصف الفقهي للاستصناع
اختلف فقهاء الحنفية في تكييف الاستصناع اختلافا كبيرا أهو بيع أو وعد بالبيع ، أو إجارة؟ وإذا كان بيعا هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟
والصحيح الراجح في المذهب الحنفي أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا لعمل الصانع ، فهو ليس وعدا ببيع ولا إجارة على العمل إذ لو أتى الصانع بما لم يصنعه هو ، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة ، جاز ذلك.
والذى مال إليه جمع من الفقهاء في العصر الحاضر ، أن الاستصناع عقد مستقل لا يدخل تحت أي من العقود المسماة الأخرى المتعارف عليها ، بل هو عقد له شخصيته المستقلة وله أحكامه الخاصة.
القول الأول: الاستصناع مواعدة
أي أن الاستصناع مجرد وعد من الصانع بصنع الشيء المطلوب ، ووعد من الطالب بقبوله عند التسليم وبدفع المقابل ، فإذا تم ذلك يكون في النهاية بيعا بالتعاطي ، وأصبح لازما. أما إن نكث أحد الطرفين بوعده فلا يلزمه القضاء بشيء لأن القضاء لا يتدخل في المواعيد.
واستدل أصحاب هذا القول بثبوت الخيار للصانع وللمستصنع ، كما نص عليه أبو حنيفة ومتقدمو أصحابه حيث قد نصوا على أن لكل من الطرفين الخيار قبل أن يرى المستصنع الشيء المصنوع ويرضى به.
وثبوت الخيار للطرفين دليل أنه ليس هناك تعاقد ، فلا يبقى إلا أنها مجرد مواعدة.
وهذا الرأي عند الحنفية حكي عن الحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور ، فقد جاء عنهم: أن الاستصناع مواعدة ، وإنما ينعقد بيعا بالتعاطي عند الفراغ من العمل ، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه ، بخلاف السلم ، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به الصانع ، ويرجع عنه ، ولا تلزم المعاملة.
القول الثاني: الاستصناع عقد بيع على عين
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع عقد بيع على العين المستصنعة ، ولم ينظر إلى العمل ، بل نظر إلى أن الصانع باع شيئا في الذمة موصوفا بصفات كذا وكذا.
فالعمل ليس جزءا من المتعاقد عليه ، بل العقد على العين الموصوفة.
وأيدوا قولهم هذا بما كان معروفا لدى بعض الحنفية قديما من أن الصانع لو أحضر شيئا مما صنعه هو قبل الاستصناع ، أو صنعه غيره ، فقبله المستصنع ، جاز. فلو كان العقد منصبا على العمل أيضا لما جاز ذلك ، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي ، فالذي جاء به الصانع مما صنعه قبل الاستصناع لا يكون مما التزم فيه بالشرط ، وكذا ما صنعه غيره.
ثم اختلف أصحاب هذين القولين ، فقال بعضهم هو بيع عين فيه الخيار للطرفين قبل الصنع ، وقال آخرون لا خيار فيه.
القول الثالث: أنه بيع عمل أي إجارة
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع بيع عمل ، أي إجارة محضة ، لأن الاستصناع طلب الصنعة ، والصنعة عمل الصانع ، فهذا هو المعقود عليه.
وأما المادة التي يحتاج إليها في الصنعة فهي بمنزلة الآلة للعمل ، كما أن التعاقد على الصبغ إجارة ، وإن كانت عملية الصبغ تحتاج إلى أن يدخل الصباغ فيها من عنده المواد الملونة ، وذلك لا يخرج العقد عن أن يكون إجارة حقيقية ، فكذلك المواد التي يحتاج إليها الصانع تدخل تبعا ، ولا يخرج الاستصناع بذلك عن أن يكون إجارة حقيقية.
القول الرابع: الاستصناع إجارة ابتداء ، بيع انتهاء.
أي أن الاستصناع عقد بين الآمر والصانع على أن يقوم الأخير بالعمل في العين ، والعقد على العمل إجارة ، فإذا قام الصانع بالعمل وسلم العين مصنوعة إلى الآمر كان التسليم على أنه مبيع بالثمن ، وينعقد بيعا انعقادا تقديريا قبل رؤية الآمر له بفترة زمنية ، لا بعد الرؤية.
والذين ذهبوا إلى هذا الرأي أرادوا أن يجمعوا بين ما ورد عن أئمة الحنفية أن الصانع إذا مات قبل تسليم المعمول بطل الاستصناع ، فلو كان الاستصناع بيعا من أول انعقاده لما بطل ، كالسلم ، لا يبطل بموت المسلم ، لأن عقد البيع لا يبطل بالموت ، بل يكون للمشتري حق استيفاء المبيع من التركة.
والأمر الثاني ما ورد عن محمد بن الحسن أن للمستصنع الخيار إذا رأي المصنوع. قالوا فلو كان الاستصناع إجارة على الإطلاق لما كان له الخيار ، لأن خيار الرؤية إنما هو في البيع لا في الإجارة.
وكان الجمع بين الأمرين بأن قالوا: ينعقد الاستصناع إجارة من أول الأمر ، فتنطبق عليه أحكام الإجارة ، ثم إذا أتم الصانع صنعته وأحضر المصنوع واستلمه الآمر ، كان التسليم له على أنه مبيع لا مأجور فيه ، إذ المبيع هو الذي فيه خيار الرؤية للمشتري.
وقدر انعقاد البيع قبل الرؤية لأنه لو انعقد بيعا بعد الرؤية لم يكن للمشترى الخيار ، لأن حديث خيار الرؤية جعل الخيار لمن اشترى ما لم يره.
القول الخامس: الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل
والقائلون بهذا أرادوا أن حقيقة الاستصناع أنه بيع حقيقي ، أي بيع للمواد التي تدخل في المصنوع ، لكن اشترط المستصنع على الصانع أن يقوم في المواد العينية بعمل هو تركيبها وتهيئتها على الصورة التي يريدها المستصنع ، وطبقا للأصول الفنية التي يعتبرها أهل تلك المهنة.
فالعمل ليس من حقيقة الاستصناع ، لكنه مشروط فيه كما قد يشترط مشتري الأثاث على البائع إيصاله إلى منزل المشترى. وهذا النوع من الشروط ممنوع عند الحنفية من حيث الأصل ، لأنه خارج عن حقيقة البيع ، لكنهم يجيزون من ذلك ما جرت العادة والعرف بأن يقوم به أحد العاقدين لمصلحة الآخر. والاستصناع من هذا النوع عند القائلين بهذا القول.
القول السادس: الاستصناع عقد مستقل
بعد النظر في الأقوال المتقدمة لعلماء الحنفية في تكييف حقيقة الاستصناع ، يتبين أن الاستصناع وإن كان جائزا عندهم اتفاقا - ما عدا زفر - إلا أنهم ذهبوا في تكييفه مذاهب لم يسلم أي منها عن اعتراض.
والذي مال إليه جمع من الفقهاء في العصر الحاضر ، أن الاستصناع عقد مستقل لا يدخل تحت أي من العقود المسماة الأخرى المتعارف عليها ، بل هو عقد له شخصيته المستقلة ، وله أحكامه الخاصة.
فقد جاء في بحث الشيخ مصطفى الزرقا في الاستصناع: أن الاستصناع نوع من البيوع مستقل لا يدخل في أحد الأنواع الأخرى كالصرف والسلم ، وليس أيضا من البيع العادي (المطلق) . فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيع ، وهما عقدان مستقلان ، ولهما أحكام خاصة لا تجرى في البيع المطلق ، فكذلك الاستصناع.
وجاء في بحث الدكتور على محيي الدين القره داغي الاستصناع هو ما إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء موصوف في الذمة خلال فترة قصيرة أو طويلة ، سواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أم لا ، وسواء كان المصنوع منه موجودا أثناء العقد أم لا. فمحل عقد الاستصناع هو العين والعمل معا من الصانع. فالعقد بهذه الصورة ليس بيعا ، ولا سلما ، ولا إجارة ، ولا غيرها ، وإنما هو عقد مستقل خاص له شروطه الخاصة به ، وآثاره الخاصة به ، ولا ينبغي صهره في بوتقة عقد آخر. فالاستصناع عقد مستقل خاص محله العين والعمل معا ، وبذلك يمتاز عن البيع الذي محله العين ، وعن الإجارة التي محلها العمل ، وعن السلم الذي محله العين الموصوفة في الذمة.
وجاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع بجدة (1412هـ الموافق 1992م) : إن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ، ملزم للطرفين ، إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
ويمكن أن يقال إن القوانين المعاصرة اعتبرته كذلك فإنها حين ذكرت أحكامه لم تذكرها ضمن أحكام البيوع ، ولا ضمن أحكام الإجارة ، بل جعلته نوعا من أنواع (المقاولة) ، والمقاولة منها ما هو إجارة محضة ، ومنها ما هو استصناع حيث تكون المواد من الصانع.
ولعل أقرب من اقترب من هذا القول من الفقهاء صاحب المحيط البرهاني حيث يرى أنه لا بد من اعتبار العمل والعين في الاستصناع. فقد جاء في ج 2 ص 575: المستصنع طلب منه العمل والعين جميعا فلا بد من اعتبارهما جميعا.
أهمية القول بأن الاستصناع عقد مستقل
يتضح بأن الرأي المعاصر القائل بكون الاستصناع عقد مستقل ، يختلف هذا عن القول الذي يجعل الاستصناع بيعا حقيقيا والعمل شرط فيه ، أي زائد على حقيقته وهو قول فيه من المؤاخذة ما فيه لسببين:
- المستصنع لم يشتر المواد ، ولو أنه اشتراها وجب أن تكون معلومة متميزة وتدخل في ملك المستصنع ، وهذا مجاف لطبيعة الاستصناع ، فإن الذي يدخل في ملك المستصنع هو الشيء المصنوع بعد تمام صنعه وتسليمه ، أما المواد فلا تدخل في ملكه قبل ذلك ، ولا علاقة له بها.
- العمل وهو الصنعة أمر أساسي مطلوب في الاستصناع ، وليس شرطا ملحقا ، كما في نقل الأثاث لمن اشتراه.
وعلى أساس هذا النظر المعاصر ، يكون المعقود عليه في الاستصناع المادة والعمل دون فصل لأحدهما عن الآخر ، ودون تميز ، فكلاهما داخل في حقيقة الاستصناع. ولكنه يكون:
- أشبه بعقد البيع لدخول المادة فيه.
- أشبه بعقد الإجارة لدخول العمل فيه ،
- أشبه بعقد السلم لكونه في الذمة.
وإنما اختلفت أقوال الفقهاء ، فحمله بعضهم على البيع ، وبعضهم على الإجارة ، وبعضهم - وهم غير الحنفية - على السلم ، لملاحظة تلك الأنواع من الشبه ، لكن لكونه في الحقيقة ليس أيا من هذه الأنواع الثلاثة من العقود (البيع والإجارة والسلم) لم يسلم أي من الأقوال عن الاعتراض.
وبناء على ذلك ، لا ينبغي في الاستصناع استعمال عبارات: البائع ، والمشتري ، والثمن. وإنما يقال: المستصنع ، والصانع أو المقاول ، والبدل النقدي. كما لا يقال في الإجارة: البائع ، والمشتري ، والثمن ، وإن كانت الإجارة في حقيقتها نوعا خاصا من البيع ، هو بيع المنفعة ، لكن لتميزها عن البيع المطلق انفردت باصطلاحاتها الخاصة. وإن كان يمكن في الاستصناع استعمال العبارات المذكورة على سبيل التساهل.
جاء في المبسوط (12 / 139)
كان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة ، وإنما ينعقد بيعا بالتعاطي إذا جاء به مفروغا منه.
وجاء في المحيط البرهاني (2 / 575)
(مخطوطة أوقاف بغداد)
إذا جاز الاستصناع فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة ، بدليل أن محمدا رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان ، ولو كان مواعدة لما احتاج إلى ذلك ، وأن محمدا قال: إذا فرغ الصانع من العمل ، وأتى به كان المستصنع بالخيار ، لأنه اشترى ما لم يره. فقد سماه شراء. وكذلك قال: إذا قبض الأجر فإنه يملك. ولو كانت مواعدة لكان لا يصير الأجر ملكا له. فدل على أنها تنعقد معاقدة لا مواعدة.
وجاء في بدائع الصنائع للكاساني (5 / 2)
قال بعضهم: الاستصناع مواعدة ، وليس ببيع ، ولا يصح ، بدليل أن محمدا رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان ، وذلك لا يكون في العادات ، وكذلك أثبت فيه خيار الرؤية ، وهو يختص بالبياعات ، وكذا يجري فيها التقاضي ، وإن ما يتقاضى فيه الواجب لا الموعود.
وجاء في الاختيار لتعليل المختار (2 / 38)
وقد قيل: الاستصناع مواعدة ، حتى يكون لكل منهما الخيار.
وجاء في شرح فتح القدير لابن الهمام (7 / 115)
اختلف المشايخ أنه مواعدة أو معاقدة ، فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور: هو مواعدة ، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي ، ولهذا كان للصانع أن لا يعمل ، ولا يجبر عليه ، بخلاف السلم ، وللمستصنع أن لا يقبل ما يأتي به ، ويرجع عنه.
في الدر المختار (4 / 213)
صح الاستصناع بيعا لا عدة ، على الصحيح ، فيجبر الصانع على العمل ، ولا يرجع الآمر عنه ، ولوكان عدة لما لزم.
وجاء في حاشية ابن عابدين عليه: هو بيع لا مواعدة ثم ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي إذ لو كان كذلك لم يختص بما فيه تعامل.
مراجع القول الثاني
جاء في بدائع الصنائع للكاساني (6 / 2677)
قال بعضهم: الاستصناع عقد على مبيع في الذمة. ووجهة أن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع جاز ، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز ، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي.
(وصحح الكاساني القول الآتي: وهو أنه عقد على مبيع في الذمة شرط فيها العمل)
ثم قال: العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما ، وهذا العقد يسمى استصناعا ، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل. وأما إذا أتي الصانع بعين صنعها قبل العقد ، ورضي المستصنع ، فإنما جاز لا بالعقد الأول ، بل بعقد آخر ، وهو التعاطي بتراضيهما.
وجاء في شرح فتح القدير (7 / 115)
الصحيح من المذهب جواز الاستصناع بيعا ، لأن محمدا ذكر فيه القياس والاستحسان وهما لا يجريان في المواعدة ،. . . وإثبات الخيار لكل منهما لا يدل على أنه ليس بيعا ، ألا ترى أن في بيع المقايضة لو لم ير كل منهما عين الآخر كان لكل منهما الخيار ، وحين لزم جوازه علمنا أن الشارع اعتبر فيها المعدوم موجودا ، وفي الشرع كثير كذلك ، كطهارة المستحاضة ، وتسمية الذابح إذا نسيها.
ثم قال: والمعقود عليه العين دون العمل. . والدليل عليه قول محمد لأنه اشترى ما لم يره ، ولذا لو جاء به مفروغا منه لا من صنعته ، أو من صنعته قبل العقد جاز.
وجاء في الاختيار (2 / 38)
الأصح أن الاستصناع معاقدة لأن فيه قياسا واستحسانا ، وذلك من خصائص العقود. وينعقد على العين دون العمل حتى لو جاء بعين من غير عمله جاز.
وجاء في الدر المختار (4 / 213)
يصح الاستصناع بيعا لا عدة على الصحيح ، فيجبر الصانع على عمله ، ولا يرجع الآمر عنه ولو كان عدة لما لزم ، والمبيع هو العين لا عمله خلافا للبردعي فإن جاء الصانع بمصنوع غيره ، أو بمصنوعه هو قبل العقد فأخذه صح ولو كان المبيع عمله لما صح.
وجاء في حاشية ابن عابدين عليه: المبيع في الاستصناع هو العين الموصوفة في الذمة ، وليس بيع عمل ، أي ليس إجارة على العمل. وفيها قال في النهر: وأورد على كونه بيعا أنه يبطل بموت الصانع ، وهذا ينافي كونه بيعا. وأجيب بأنه إنما بطل لشبهه بالإجارة.
مراجع القول الثالث
جاء في الهداية وفتح القدير (7 / 115)
قال أبو سعيد البردعي المعقود عليه في الاستصناع العمل ، لأن الاستصناع ينبئ عنه (أي لأن معنى اللفظ طلب الصنعة) ، والأديم (أي الجلد في صناعة الحذاء) بمنزلة مادة الصبغ للصباغ ، واستعمال الصباغ لتلك المادة لا يجعل المعقود عليه العين ، بل المعقود عليه هنا العمل فقط.
وجاء في العناية أيضا (7 / 115)
قال أبو سعيد البردعي المعقود عليه في الاستصناع هو العمل ، لأن الاستصناع طلب الصنعة ، وهو العمل.
وجاء في العناية أيضا (7 / 116)
فإن قيل: أي فرق بين الاستصناع وبين عمل الصباغ؟ فإن في الصبغ العمل والعين (من العامل) ، كما في الاستصناع ، وذلك إجارة محضة.
أجيب بأن الصبغ (أي عملية الصبغ) أصل ، والصبغ (أي المادة التي يصبغ بها) آلتة. فكان المقصود منه العمل ، وذلك إجارة وردت على العمل في عين المستأجر. وها هنا (أي في الاستصناع) الأصل هو العين المستصنع المملوك للصانع ، فيكون بيعا. ولما لم يكن له وجود من حيث وصفه إلا بالعمل أشبه الإجارة في حكم واحد لا غير.
مراجع القول الرابع
جاء في شرح فتح القدير (7 / 116)
وفي الذخيرة: هو إجارة ابتداء بيع انتهاء ، لكن قبل التسليم بساعة ، لا عند التسليم ، بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع لا يستوفى المصنوع من تركته ، ذكره محمد في كتاب البيوع. ولا يجبر الصانع على العمل لأنه لا يمكنه إلا بإتلاف عينه من قطع الأديم ونحوه ، والإجارة تفسخ بالعذر ، وهذا عذر ، ألا ترى أن المزارع له أن لا يعمل إذا كان البذر من جهته.
وجاء في حاشية ابن عابدين على الدر (4 / 213)
وفي الذخيرة الاستصناع إجارة ابتداء بيع انتهاء ، لكن قبل التسليم بساعة لا عند التسليم. وأورد عليه أنه لو انعقد إجارة لأجبر الصانع على العمل ، والمستصنع على إعطاء المسمى.
وأجيب بأنه إنما لا يجبر لأنه لا يمكنه (العمل) إلا بإتلاف عين له من قطع الأديم ونحوه ، والإجارة تفسخ بهذا العذر ، ألا ترى أن الزارع له أن لا يعمل - أي في المزارعة - إن كان البذر من جهته ، وكذا رب الأرض. ومثله في البحر والزيلعي.
وجاء في المحيط البرهاني (ج2 / ق 575)
ينعقد الاستصناع إجارة ابتداء ، ويصير بيعا انتهاء متى سلم ، قبل التسليم بساعة ، بدليل أنهم قالوا بأن الصانع إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع ، ولا يستوفى المصنوع من تركته ، ولو انعقد بيعا ابتداء وانتهاء لم يبطل بموته كما في بيع العين ، والسلم.
وقال محمد إن أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار ، لأنه اشترى شيئا لم يره ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية ، كما في الخياط والصباغ ، ولو كان ينعقد بيعا عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية ، لأنه يكون مشتريا ما رآه وخيار الرؤية لا يثبت في المشتري (كذا في الأصل ولعله: المرئي) ، فعلمنا أنه ينعقد إجارة ابتداء وإن كان القياس يأباه ، لأنه إجارة على العمل في ملك الآخر ثم يصير بيعا انتهاء قبل التسليم بساعة ، وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعا. لكنا تركنا القياس في الكل ، لمكان التعامل. والمعنى في ذلك أن المستصنع طلب منه العين والعمل جميعا ، فلا بد من اعتبارهما جميعا ، واعتبارهما جميعا في حالة واحدة متعذرة ، لأن بين البيع والإجارة تنافيا ، فجوزناها إجارة ابتداء ، لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة ، ويمنع انعقاد البيع ، فاعتبرناها إجارة ابتداء ، وجعلناها بيعا قبل التسليم ، كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض: اعتبرناها هبة ابتداء عملا باللفظ ، بيعا انتهاء عملا بالمعنى. ولذلك قلنا: لو مات قبل التسليم يبطل ، كالإجارة ، ومتى سلم كان المستصنع بالخيار ، لأنه اشترى ما لم يره.
مراجع القول الخامس
المبسوط للسرخسي (15 / 84 ، 85)
الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل.
تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي (2 / 538)
الاستصناع عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع.
بدائع الصنائع للكاساني (6 / 2677)
قال بعضهم: الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. قال: وهو الصحيح. لأن الاستصناع طلب الصنع ، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعا ، فكان مأخذ الاسم دليلا عليه ، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما ، وهذا العقد يسمى استصناعا ، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل.
وأورد الكاساني على هذا القول اعتراضا ، قال: إن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع جاز ، فلو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز ، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي.
ورد على ذلك قائلا: إذا أتى الصانع بعين قد صنعها قبل العقد ، ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول ، بل بعقد آخر ، وهو التعاطي ، بتراضيهما.