الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم"
(1)
.
ثم إن أساس العقود - كما سبق - هو التراضي، وموجبها هو ما أوجبه العاقدان على أنفسهما، ويدل على هذا الأصل في التبرعات قوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(2)
فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فيكون ذلك الوصف سببًا لذلك الحكم فإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق، فكذلك سائر التبرعات قياسًا عليها بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن، كما يدل على هذا الأصل في المعاوضات قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(3)
حيث لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، فتثبت الإباحة في كل عقد توفر فيه التراضي لدلالة القرآن
(4)
.
ثانيًا: العمل بشرط الواقف (آثار الشرط):
الأصل هو وجوب العمل بشرط الواقف، وذلك لأن الواقف قد أخرج الموقوف من ملكه مقيدًا بشرطه، وبالتالي فإن لم يتحقق شرطة المشروع فكأنه لم يخرج من ملكه، وحينئذ لا يطيب للموقوف عليه - ولا سيما إذا كان معينًا كما في الوقف الأهلي - أن ينتفع بما ينتج منه من غلة، أو نحوها، وبعبارة أخرى فإن المال لا يخرج من عصمة مالكه إلا برضاه المشروط
(5)
(6)
.
(1)
مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 29/ 154 - 155، والقواعد النورانية الفقهية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، حققه وخرج أحاديثه: د. أحمد بن محمد الخليل، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1422 هـ، 53 و 203.
(2)
سورة النساء، آية 4.
(3)
سورة النساء، آية 29.
(4)
انظر: مجموع الفتاوي ابن تيمية، 29/ 154 - 155، والقواعد النورانية، ابن تيمية، 203.
(5)
انظر: مبدأ الرضا في العقود، د. علي محي الدين القره داغي، 2/ 1170.
(6)
سورة النساء، آية 29.
ويمكن أن يستدل لذلك بقوله تعالى في وجوب الحفاظ على وصية الموصي: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(1)
حيث دلت الآية الكريمة على وجوب الحفاظ على ما قاله الموصي وشروطه، وعلى حرمة التبديل بالإبطال، أو النقص، أو التعديل
(2)
إلا إذا كان في الوصية إجحاف وظلم، فحينئذ لا بد أن يرجع الأمر إلى مصلح يتوسط بين الورثة والموصى لهم؛ للوصول إلى العدل والإنصاف؛ فقال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(3)
فهذه الآية استثناء مما قبلها في موضوع التبديل، وقد قال المفسرون:"الجنف بالتحريك: الخطأ، والإثم: يراد به تعمد الظلم، والمعنى: إن خرج الموصي في وصيته عن المعروف والعدل خطأ، أو عمدًا فتنازع الموصى لهم فيه، أو تنازعوا مع الورثة فينبغي أن يتوسط بينهم من يعلم بذلك، ويصلح بينهم، ولا إثم عليه في هذا الإصلاح ولو أدى إلى تبديل ما وصّى به الموصي، لأنه تبديل إلى الحق والإنصاف وإزالة للظلم والاعتساف"
(4)
.
فهذه الأحكام الواردة في أحكام الوصية أصل عظيم في كل الشروط والقيود، وهو أنه يجب الالتزام بها إلا إذا كان الشرط فيه الإثم والظلم والإجحاف، وهكذا الأمر بالنسبة لشروط الواقف إلا إذا كانت الشروط باطلة، أو فاسدة، أو أنها لم تعد صالحة، أو وجدت مسوغات لمخالفتها؛ كما سيأتي تفصيلها.
وقد توسع الفقهاء في لزوم احترام شروط الواقف؛ حتى قالوا: أن شرط الواقف كنص الشارع؛ حثًا منهم للواقف بالإقدام على الوقف، من حيث إن إرادته محترمة، وإن شروطه مصونة حتى بعد موته، تأكيدًا لما ورد في قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ
(1)
سورة البقرة، آية 180 - 181.
(2)
انظر: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984 م، 2/ 152.
(3)
سورة البقرة، آية 182.
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن ملا علي خليفة القلموني الحسيني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م، 2/ 108 و 114.
سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}
(1)
بالإضافة إلى الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط والعقود، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون عند شروطهم"
(2)
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
(3)
.
وقد انطلق الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في توسعتهم لشروط الواقف من كون الوقف من الإحسان الذي لا قيود عليه إلا قيد العصيان
(4)
، قال تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
(5)
، وقد قرر ابن عابدين رحمه الله هذا المعنى بقوله:"شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع وهو مالك، فله أن يجعل ماله حيث شاء ما لم تكن معصية، وله أن يخص صنفًا من الفقراء، ولو كان الوضع في كلهم قربة"
(6)
، وجاء في مختصر خليل مع شرح الدردير:(واتبع) وجوبًا (شرطه) أي الوقف (إن جاز) شرعًا، ومراده بالجواز ما قابل المنع، فيشمل المكروه، ولو متفقًا على كراهته، فإن لم يجز لم يُتبع، وجاء في حاشية الدسوقي تعليقًا على قوله:"فإن لم يجز" أي اتفاقًا
(7)
، وهذا يدل على أن شرط الواقف بشيء مختلف في حرمته ينفذ، ما لم يكن دليل الحِلية واهيًا لا يعتد بمثله أهل العلم، ومثله ورد في كتب الشافعية، حيث ذكرت أن شرائط الواقف تجب مراعاتها ما لم يكن فيها ما ينافي مقتضى الوقف
(8)
.
(1)
سورة البقرة، آية 181.
(2)
صحيح البخاري مع فتح الباري، 4/ 451.
(3)
سورة المائدة، آية 1.
(4)
انظر: فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، دار ابن كثير، دمشق، ط 1، 1414 هـ، 5/ 58، والذخيرة، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1994 م، 6/ 329، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ، 385/ 2، ومجموع الفتاوي، ابن تيمية، 31/ 13.
(5)
سورة التوبة، آية 91.
(6)
رد المحتار على الدر المختار، وتسمى حاشية ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 3/ 361.
(7)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، دار الفكر، بيروت، 4/ 88.
(8)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، الشربيني، 2/ 386.
يقول القرافي المالكي: "ويجب اتباع شروط الواقف
…
لأنه ماله، ولم يأذن في صرفه إلا على وجه مخصوص، والأصل في الأموال العصمة"
(1)
، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي:"والمقصود إجراء الوقف على الشروط التي يقصدها الواقف؛ ولهذا قال الفقهاء: إن نصوصه كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة، فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة، كما يفهم مقصود الشارع"
(2)
.
يقول الشيرازي من الشافعية: "وتصرف الغلة على شرط الواقف من الأثرة والتسوية والتفصيل
…
"
(3)
.
وقد منح الله تعالى الإنسان الحق في التصرف في أمواله بما ينفع دينه ودنياه وآخرته ما دام لا يتعارض مع نص شرعي ثابت صريح، وبالنسبة للوقف فله الحق في تحديد المقدار الذي يريد وقفه، فله الحق أن يقف ما شاء من أمواله دون حد، ما لم يكن مريضًا مرض الموت؛ حيث يتقيد بالثلث عند جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، أو مدينًا حيث لا يجوز له أن لا يترك ما يفي بديونه كاملة؛ لأنها مقدمة على الصدقات
(4)
.
ولكن الأفضل للمسلم أن لا يقف أو يتصدق بجميع أمواله ما دام له ورثة يحتاجون إليها، ويدل على ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما استأذنه أن يتصدق بأمواله؟ فقال سعد: "إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى،
(1)
الذخيرة، القرافي، 6/ 326.
(2)
مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 31/ 98.
(3)
المهذب في فقة الإمام الشافعي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، دار الكتب العلمية، القاهرة، 1/ 443.
(4)
انظر: لسان الحكام في معرفة الأحكام، أحمد بن محمد بن محمد أبو الوليد لسان الدين بن الشِّحْنَة الثقفي الحلبي، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، ط 2، 1393 هـ/ 1973 م، ص 378، وحاشية الدسوقي، 3/ 306، وشرح الخرشي، 5/ 304، والمهذب، الشيرازي، 1/ 453، والمغني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة، بدون رقم أوتاريخ الطبيعة، 6/ 71، والمحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، دار الفكر، بيروت، د. ط، د. ت، 3/ 203، ويراجع لمزيد من التفصيل: مبدأ الرضا في العقود، د. علي القره داغي، 1/ 499 و 546.
وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا" فقلت: بالشطر؟ فقال: "لا" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "الثلث، والثلث كثير"
(1)
(2)
.
وكما له الحق في إنشاء الوقف؛ فله الحق كذلك أن يُضمِّن عقده أو وقفه ما شاء من شروط تتعلق بنظام النظارة والإدارة، والاستحقاق والاستغلال والتوزيع
(3)
، ما دامت لا تتعارض مع نصوص الشرع، أو مقتضى الوقف.
هذا وقد اعتبر بعض العلماء - منهم الهيتمي - مخالفة شرط الواقف من الكبائر، قال الهيتمي:"وذكري لهذا من الكبائر ظاهر، وإن لم يصرحوا به؛ لأن مخالفته يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل، وهو كبيرة"
(4)
.
وعند الزيدية يجب العمل بشرط الواقف، فإذا عين الواقف موضعًا للصرف أو الانتفاع أو زمانًا أو كيفية أو نحو ذلك تعيَّن؛ إذ الظاهر أنه لم يقصد إلا بعد تصوره القربة فيه
(5)
.
ويتقيد الوقف والمصرف بما يشترطه الواقف ويستثنيه؛ إذ هو إخراج ملك أشبه العتق والطلاق، فيصح وقف أرض لما شاء، واستثناء غلتها لما شاء، كأن يقول: على أولادي، فإذا انقرضوا فلكذا، فلا يصير إلى الثاني إلا بعد انقراض الأول
(6)
.
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 6/ 147، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، دار الحديث، القاهرة، 1425 هـ/2004 م، 2/ 284، والأم، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي، دار المعرفة، بيروت، د. ط، 1410 هـ/ 1990 م، 3/ 176، وروضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، ط 3، 1412 هـ/ 1991 م، 4/ 127، والمغني، ابن قدامة، 4/ 425.
(2)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز 3/ 164، وصحيح مسلم، كتاب الوصية، 5/ 263.
(3)
انظر: أحكام الأوقاف، أحمد مصطفى الزرقاء، دار عمار، الأردن، 1419 هـ، 141.
(4)
الزاوجر عن اقتراف الكبائر، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام أبو العباس، دار الفكر، بيروت، دمشق، ط 1، 1407 هـ/ 1987 م، 1/ 439.
(5)
انظر: ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار، الحسن بن أحمد الجلال، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، 6/ 103.
(6)
مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله وعادل بن سعد وصبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1988 م، 5/ 153 - 154.