الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرط الاستبدال (التغيير) أو التبديل عند الزيدية:
اختلف فقهاء الزيدية في جواز استبدال الوقف على رأيين:
الأول: جواز نقل الوقف لمصلحة، وللواقف نقل المصرف المصلحة، لتشريكه صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه في هدية بعد أن نواه لنفسه، ولملكه صرفها إجماعًا.
الثاني: لا يجوز نقل الوقف، فقد حصل للهادوية من منعهم تحويل أوقاف مسجد خرب إلى غيره، ومنع علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من بيع حلي الكعبة للجهاد؛ منعهم نقل المصارف والمصالح، وكما يمتنع جعل المسجد طريقًا.
والراجح الجواز، لأن أدلة الجواز أظهر، ومنه: تحويله صلى الله عليه وسلم وقف عبد الله إلى والديه، وقد صرح أبو القاسم البخلي والوافي بالجواز محتجين بأنه لما سرق بيت المال نقل الصحابة المسجد إلى قربه؛ ليحفظ، وأما حيث الوقف عن حق فلا خلاف في الجواز إذ هي باقية على ملكه
(1)
.
ويجوز بيع الوقف وإبداله، فما بطل نقعه في المقصود بيع لإعاضته كعبد شاخ أو ثوب خلق أو شجر يبس، ويصرف الثمن في عوضه وفاء بغرض الواقف، وقيل: بل إلى المصالح إذ الرقبة ملك الله تعالى، والراجح أنه إلى الموقوف عليه عوضًا عن المنافع؛ لأن الوفاء بغرض الواقف أولى
(2)
.
مسألة: استبدال المسجد:
يختص المسجد بعدة أحكام لا تتوافر في غيره، فمثلًا عند أبي حنيفة لا يلزم الوقف في غير المسجد إلا بحكم الحاكم، أو الإيصاء به، أما المسجد فيلزم بمجرد وقفه حيث لا يبقى له حق الرجوع عنه؛ لذلك شدد الفقهاء في استبداله، ونذكر هنا بعض نصوصهم، قال المرغيناني الحنفي: (ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجدًا عند أبي يوسف .. وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وراثه بعد
(1)
انظر: البخر الزخار، البزار، 5/ 159 - 160.
(2)
انظر: المرجع السابق، 5/ 158.
موته؛ لأنه عينه لقربة وقد انقطعت؛ فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغنى عنه، إلا أبا يوسف؛ يقول في الحصير والحشيش: إنه ينقل إلى مسجد آخر
(1)
.
وقد اتفق المالكية، والشافعية، والإباضية
(2)
مع رأي أبي يوسف في أن المسجد يظلّ مسجدًا، فلا يجوز بيعه لظاهر النصوص الدالة على عدم جواز بيع الموقوف مثل قول عمر:"فلا يباع أصلها ولا يوهب"
(3)
؛ لأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها، ولكن يجوز نقل آلته وأنقاضه إلى مسجد آخر.
وأما الحنابلة فيرون عدم التفرقة بين المسجد وغيره حيث يباع ويشترى بثمنه مكانٌ آخر ليكون مسجدًا بدله، ولأهمية رأيهم ووجود تفاصيل فيه أنقل ما جاء في المغني:"إن الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتًا ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم يمكن عمارته، ولا عمارة بعضه إلّا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمّر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه"، وأضاف الحنابلة إلى ما سبق حالة الخوف من اللصوص في رواية صالح عن أحمد، وكذلك إذا كان موضعه قذرًا يمنع من الصلاة فيها
(4)
.
وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أحمد في هذه المسألة
(5)
: حيث ذكر أن مذهب أحمد في غير المسجد أنه يجوز بيعه للحاجة، وأما المسجد فيجوز بيعه أيضًا للحاجة في أشهر الروايتين عنه، وفي الأخرى: لا تباع عرصته، بل تنقل آلتها إلى موضع آخر.
(1)
انظر: العناية مع فتح القدير، 6/ 236 - 237.
(2)
انظر: اللُّمْعَةُ المرْضِيَّة من أشِعَّة الإباضيَّة، نور الدِّين عبد الله بن محمد السَّالِميّ، اعتنى بها: سُلطانُ بن مُبَارَك بن محمد الشَّيْبَانِيّ، مكتبة عُمان، ط 1، 1435 هـ/ 2014 م، 12/ 102، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 91، والغاية القصوى في أصول الفقه، الشهشهاني الأصفهاني، 2/ 649، وروضة الطالبين وعمدة المفتين، النووي، 5/ 357.
(3)
صحيح البخاري مع الفتح، 5/ 399، وصحيح مسلم، 3/ 1255.
(4)
انظر: المغني، ابن قدامة، 5/ 632.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 31/ 212.
فالمسجد الموجود ببلدة أو محلة إذا تعذر انتفاع أهلها بيع وبنى بثمنه مسجد آخر في موضع آخر كما في زيت المسجد وحصره إذا استغنى عنها المسجد صُرِف إلى مسجد آخر، بل يجوز عند أحمد صرفها في فقراء الجيران، واحتج على ذلك بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقسم كسوة الكعبة بين المسلمين، لأن المسلمين هم المستحقون لمنفعة المساجد، واحتج أيضًا لصرفها في نظير ذلك: بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جمع مالًا لمكاتب، ففضلت فضلة عن قدر كتابته فصرفها في مكاتب آخر، بأن المعطين أعطوا المال للكتابة، فلما استغنى المعين صرفها في النظير.
والمقصود أن أحمد بن حنبل اختلف قوله في بيع المسجد عند عدم بيع الانتفاع به، ولم يختلف قوله في بيع غيره عند الحاجة، قال في رواية ابنه عبد الله: إذا خرب المسجد يباع، وينفق ثمنه على مسجد آخر، وإذا كان الوقف دارًا فخربت وبطل الانتفاع بها بيعت، وشرف ثمنها إلى شراء دار ويجعل مكانها وقفًا
(1)
.
وأما إبدال المسجد بغيره للمصلحة مع إمكان الانتفاع بالأول ففيه قولان في مذهب أحمد، واختلف أصحابه في ذلك، لكن الجواز أظهر في نصوصه، وأدلته، منها ما ورد أنه لما قدم عبد الله بن مسعود رضون على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر، قال فنقب بيت المال، فأخذ الذي نقبه، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب عمر:(أن لا تقطع الرجل، وانقل المسجد، واجعل بيت المال قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصلي، فنقله عبد الله فخطّ له هذه الخطة) قال صالح: قال أبي: يقال إن بيت المال نقب من مسجد الكوفة فحول عبد الله بن مسعود المسجد، فوضع التمَّارين اليوم في موضع المسجد العتيق، وصار سوق التمَّارين في موضعه
(2)
.
قال صالح وسألت أبي عن رجل بنى مسجدًا، ثم أراد تحويله إلى موضع آخر، قال إن كان الذي بنى مسجدًا يريد أن يحوله خوفًا من اللصوص، أو يكون في موضع قذر فلا بأس أن يحوله، وسئل أبو عبد الله: هل يحول المسجد؟ قال إذا كان ضيقًا لا يسع أهله فلا بأس أن يجعل إلى موضع أوسع منه.
(1)
انظر: مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 31/ 214.
(2)
انظر: المرجع السابق، 31/ 215.
وقال عبد الله سألت أبي عن مسجد خرب: ترى أن تباع أرضه، وينفق على مسجد آخر أحدثوه؟، قال: إذا لم يكن له جيران ولم يكن أحد يعمره فلا أرى به بأسًا أن يباع وينفق على الآخر. وقال القاضي أبو يعلى: "في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك؟ قال: ينظر إلى قول أكثرهم، ولا بأس به، قال أبو يعلى: فظاهر هذا أنه أجاز أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود إلى المسجد"
(1)
.
ثم ذكر أن بعض أصحاب المذهب حاول التكلف في حمل رواية أحمد هذه حالة الابتداء قبل بناء المسجد، فقال:"وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصّه، فإنه نصّ صريح في المسجد المبني، وليس في ابتداء بناء المسجد، لأن الأخير لا نزاع فيه"
(2)
.
ثم ردّ ابن تيمية على من قال بعدم جواز النقل والإبدال إلا عند تعذر الانتفاع بأنه ليس لهم على ذلك حجة شرعية، ولا مذهبية، بل دلت الأدلة الشرعية وأقوال صاحب المذهب على خلاف ذلك، وقد قال أحمد: إذا كان المسجد يضيق بأهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه، وضيقه بأهله لم يعطل نفعه، بل نفعه باق كما كان، ولكن الناس زادوا، وقد أمكن أن يبني لهم مسجد آخر، وليس من شرط المسجد أن يسع جميع الناس، ومع هذا جوز تحويله إلى موضع آخر، لأن اجتماع الناس في مسجد واحد أفضل من تفريقهم في مسجدين، لأن الجمع كلما كان أكثر كان أفضل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله تعالى"
(3)
.
وقد أمر عمر رضي الله عنه بنقل مسجد الكوفة إلى مكان آخر، وصار الأول سوق التمارين للمصلحة الراجحة، لا لأجل تعطل منفعة تلك المساجد، فإنه لم يتعطل نفعها، بل ما زال باقيًا، وقد فعل عمر ذلك بمشهد الصحابة ولم يرد إلينا أنه
(1)
مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 31/ 217.
(2)
المرجع السابق، 31/ 219.
(3)
سنن أبي داود، كتاب الصلاة مع عون المعبود، 2/ 260، ومسند أحمد، 5/ 145.
اعترض عليه أحد، بل نفذه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فكان ذلك إجماعًا؛ لأن الصحابة رضي الله عنه ما كانوا يسكتون لو كان ذلك غير جائز، والتأريخ شاهد على اعتراضاتهم على كلّ ما كان منكرًا حتى ولو في نظر بعضهم، فقد اعترضت المرأة على عمر حينما أراد تحديد المهر، واعترضوا على عثمان لأنه كان يتم الصلاة في الحج.
واحتج ابن تيمية أيضًا بما روى أبو حفص في المناسك عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها: يا أم المؤمنين، إن كسوة الكعبة قد يداول عليها؟ فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير، فأمرت عائشة ببيع كسوة الكعبة مع أنها وقف، وصرف ثمنها في سبيل الخير، لأن ذلك أصلح للمسلمين
(1)
.
وقد انتهى شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن بيع الوقف والتعويض بثمنه يجوز إذا كان ذلك أصلح وأنفع دون الحاجة إلى تقيد الجواز بالضرورة، أو تعطل الانتفاع بالكلية، فالمسوغ للبيع والتعويض هو نقص المنفعة وذلك يتحقق بكون العوض أصلح وأنفع، أو للحاجة التي يقصد بها هنا تكميل الانتفاع، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها فهذه هي الحاجة من مثل هذا مثلما أجيز لبس الحرير المحرم على الرجال لأجل الحكة
(2)
(الحساسية).
وقد استدل كذلك بما فعله عمر وعثمان من تغيير بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه الاستدلال بذلك أن اللبن والجذوع التي كانت وقفًا أبدلها الخلفاء الراشدون بغيرها، وهذا من أعظم ما يشتهر من القضايا ولم ينكره منكر، ولا فرق بين إبدال البناء ببناء، وإبدال العرصة بعرصة، إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ لهذا أبدل عمر مسجد الكوفة بمسجد آخر، أبدل نفس العرصة، وصارت العرصة الأولى سوقًا للتمّارين بعد أن كانت مسجدًا، وهذا أبلغ ما يكون في إبدال الوقف للمصلحة
(3)
.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 31/ 222 - 223.
(2)
انظر: المرجع السابق، 31/ 225 - 226.
(3)
انظر: المرجع السابق، 31/ 244.
ويدل على ذلك أيضا ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوَّز إبدال المنذور بخير منه فقد روى أحمد وأبو داود والدارمي، وابن الجارود، وأبو يعلى، والبيهقي بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلًا قام يوم الفتح، فقال: يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال:"صلّ ههنا"، ثم أعاد عليه، فقال:"صل ههنا"، ثم أعاد عليه، فقال:"شأنك إذن"
(1)
.
وهناك أحاديث وآثار أخرى تدل على ذلك منها ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة شكت شكوى، فقالت: لو شفاني الله فلأخرجنَّ فلأصليَّن في بيت المقدس، فبرأت، ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها، وأخبرتها بذلك، فقالت: اجلسي، فكلي ما صنعت، وصلِّي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا مسجد الكعبة"
(2)
.
قال ابن تيمية من الحنابلة: "وهذا هو مذهب عامة العلماء
…
ومعلوم أن النذر يوجب عليه ما نذره لله تعالى من الطاعة، ومع ذلك فإن الشارع بيّن أن البدل الأفضل يقوم مقام هذا، وكذلك الأمر بالنسبة للحيوانات التي تجب فيها الزكاة حيث تجزئ سنٌّ أعلى من الواجب في مذهب عامة أهل العلم، فثبت أن إبدال الواجب بخير منه جائز، بل يستحب فيما وجب بإيجاب الشرع، وبإيجاب العبد، والخلاصة أن الإبدال للحاجة، أو المصلحة راجحة، ويما هو خير من الأصل جائز تظافرت عليه الأدلة المعتبرة"
(3)
.
وقد استدل الحنابلة على ذلك بالآثار والمعقول:
أما الآثار فمنها "أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لا يزال في المسجد مصلى"
(4)
، قال ابن قدامة:"وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعًا"
(5)
.
(1)
سنن أبي داود، 3305، وقد صحح الحديث ابن دقيق العبد، والألباني في الإرواء الحديث، 2597.
(2)
صحيح مسلم، 2/ 1012.
(3)
انظر: مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 31/ 246 و 249.
(4)
المغني لابن قدامة، 5/ 632 - 633.
(5)
المرجع السابق، 5/ 633.