الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب) تقييد ولي الأمر الواقف في شروطه:
تمهيد: إن شروط الواقف سلاحٌ ذو حدين، فإذا احتُرمت إرادة الواقف، والتزمت شُرُوطه، وحوفظ على أمواله وعقاره من الموقوفات؛ فهذا يثير الاطمئنان في نفسه ونفوس غيره من أهل الخير والمعروف الذين يندفعون أيضًا للوقف، عندما يتأكدون بأن ما يريدونه يتحقق من خلال المُتَوَلِّين والنُّظّار القائمين على الأوقاف.
ومن ناحيةٍ أخرى؛ فإن الامتثال الأصمّ لشروط الواقف، وإقرارها بحذافيرها، وإضفاء القدسية عليها، حتى إن كانت لا تتلائم والظروف الاقتصادية والاجتماعية ولا تلبي الموقوفات بسبب هذه الشروط - حاجات المجتمع، والبغية من شريعة الوقف؛ فإن ذلك سيتسبب في انحسار مقاصد الوقف الأصلية في سد ثغرات المجتمع، وتطوير إمكاناته الاقتصادية، وصولًا إلى التكامل الاقتصادي الذي يزيل الفقر والفاقة عن طريقه، لذا كان لابد أن يكون لولي الأمر سلطان مدروسٌ شرعًا لمعالجة هذه المعضلة، وإلا سيدفع ما يضعه الواقف مِن شروط متعسّفة بالوقف إلى مهب الريح
(1)
.
فما هي إذن حدود سلطة ولي الأمر في تقييد الواقف في شروط وقفه؟
ابتداء؛ لابد من الفصل بين شروط الواقف الصحيحة التي يستحسنها الشرع، والعقل والمنطق والذوق السليم؛ على أن تكون قبل ذلك متوافقة مع أحكام الشريعة ومقاصدها، وبين الشروط الباطلة أو الفاسدة التي لا يقرها الشرع ولا يستسيغها العقل والذوق.
ولا شك أن المفترض هو أن تكون شروط الواقف دائرة حول المصالح العامة ومحققة لها؛ حيث إن الدافع الرئيسي إلى الوقف هو الإحساس الديني والهمّ الاجتماعي اللذان يدفعان بأهل الخير إلى وقف بعض أموالهم في أمور البر والإحسان، لكن ويسبب المستوى الثقافي والوعي الديني لبعض الواقفين تكون بعض شروطهم - أحيانا -
(1)
انظر: بحث الضوابط الشرعية في تغيير شروط الواقف ودور الناظر فيها، د. محسن القزويني، 2010 م.
مصطدمة مع فلسفة الوقف، ومتعارضة مع المصلحة التي يسعى مِن أجلها الواقف، ومتنافية مع الأحكام الشرعية التي ربما غابت عن الواقف لحظة وقفه؛ فكان لا بد أن نتلقى في البدء شروط الواقف بحسن نية؛ لأنه في الأساس لم يكُن مجبرًا على الوقف، فاختياره لهذا المسلك جاء عن قناعة وإرادة ذاتية مصدرها عوامل الخير التي جُبل عليها الواقف فقال تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
(1)
.
ثم إن من المعلوم فقهًا أن الولاية الخاصة للأوصياء والنُّظّار وغيرهم تنتقل إلى السلطان بمقتضى ولايته العامة، عند انعدام شروط الولاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له
(2)
؛ فيمارسها ولي الأمر الأكبر بنفسه أو بواسطة أحد نوابه؛ من ولاة وقضاة ونحوهم؛ لأجل قيام المصلحة المرجوة من المولى عليه؛ لأنه منوط به النظر في أمر المسلمين، والقيام بمصالحهم، وصار مشهورا غير منكور أن نوابه بمثابته
(3)
.
ومن المقرر فقها أيضًا أنّ الولاية الخاصة عند وجودها مقدّمة على الولاية العامة؛ لأنها أقوى منها؛ إذ قاعدة الفقهاء: "الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة"؛ فمثلا: متولي الوقف ووصيُّ اليتيم ووليُّ الصغير؛ ولايتهم خاصة، وولاية القاضي بالنسبة إليهم عامة، وأعمّ منها ولاية ولي الأمر الأكبر؛ فولاية المتولي والوصي أقوى من ولاية القاضي، وولاية القاضي أقوى من ولاية من ولاه؛ لأن كل ما كان أقل اشتراكًا؛ كان أقوى تأثيرا وامتلاكا؛ إذن فكلما كانت الولاية المرتبطة بشيء أخصّ مما فوقها بسبب ارتباطها به وحده، كانت أقوى تأثيرا في ذلك الشيء مما فوقها في العموم، فتكون الولاية العامة كأنها انفكت عما خصصت له الولاية الخاصة، ولم يبق لها إلا
(1)
سورة التوبة، آية 91.
(2)
مسند الإمام أحمد،51/ 319 برقم:24162.
(3)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 402، والإقناع، البهوتي، 4/ 52، والمنهاج وشرح الجلال،2/ 304، والمغني، ابن قدامة، 6/ 640 - 641، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 6/ 722.
الإشراف؛ إذ القوة بحسب الخصوصية لا الرتبة، وبناء على هذا الأصل فإنه عند الشافعية لا يتصرف القاضي مع وجود الولي الخاص وأهليته
(1)
.
فإذا وجدت الولاية الخاصة في شيء، فلا تأثير للولاية العامة فيه، وأن تصرف الولي العام عند وجود الولي الخاص غير نافذ.
هذا هو الأصل العام الذي يبنى عليه تعارض الولاية الخاصة والعامة. غير أنّ من المتقرر عند الفقهاء أن للوليّ العام عند الاقتضاء حقّ التدخل في الشؤون المتعلقة بالولاية الخاصة، كما إذا لاحظ خيانة أو تقصيرا أو تضييعًا؛ فالواجب عليه التدخل؛ لأنه منوط به القيام بمصالح المسلمين، وله حق الإشراف العام على سائر الولايات، وعلى ذلك؛ فإن له أن يحاسب الأوصياء والنّظّار والمتولّين، ويعزل الخائن منهم، أو يعذره، حتى لو شرط الموصي أو الواقف عدم مداخلته
(2)
.
ويمكن ضبط تدخل ولي الأمر لتقييد شروط الواقف بالضوابط الآتية
(3)
:
1 -
إذا كان شرط الواقف منافيًا لمقتضى الوقف أو العقد: فالوقف عقدٌ ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة؛ بحيث يتبرع بريعها لجهة خيرية؛ سواء كان الوقف مؤبدًا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، أو كان مؤقتًا - عند من يرتضي تأقيته - فلا يقطع حق الملكية وإنما يقطع حق التصرف فيها؛ فإذا خالف شرط الواقف مقتضى العقد ونافى مصلحة وجوده فهذا الشرط باطل شرعًا؛ فلولي الأمر التدخل بمنعه، أو إبطاله عمليًا.
(1)
انظر: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، 4/ 402، والإقناع، البهوتي،4/ 52، والمنهاج وشرح الجلال،2/ 304، والمغني، ابن قدامة، 6/ 640 - 641، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 6/ 722.
(2)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين،5/ 451، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، الشربيني، 3/ 78، والكافي، ابن قدامة،2/ 521.
(3)
هذه الضوابط مقتبسة من بحث: الضوابط الشرعية في تغيير شروط الواقف، ودور الناظر فيها، د محسن القزويني، 2010 م.
2 -
إذا كان شرطًا يضر بمصالح البلاد العامة، مثل اشتراط الواقف، أن يكون ريع الوقف لدولة أو جهة معادية، أو لشخص معاد، أو نحو ذلك مما يعود بتقوية العدو، أو بأن تترتب بذلك درائع للفساد، ففي هذه الحالات يجوز لولي الأمر منع هذه الشروط مؤبدًا، أو مؤقتًا حسب بقاء المصلحة ودرء المفسدة.
3 -
إذا كان شرطا غير سائغ عقلًا: وهو الشرط الذي لا يجلب المصلحة للموقوف عليه، ولا يُسهل الطريق للانتفاع من الموقوف؛ فإذا شرط مثلًا وقف المدرسة بدون إقامة الدروس فيها، أو وقف مكانًا للنوم ومنع نوم الزوار فيه؛ فهذا الشرط فاسد؛ ينبغي على ولي الأمر إن اقتضى الحال أن يتدخل لتقييده؛ بتغييره أو نقضه أو غير ذلك.
4 -
إذا كان شرط الواقف مخالفًا لحكم شرعي: كأن يشترط في ريع وقفه أو جزءٍ منه معونةً عصاة، ونحو ذلك.
5 -
إذا كان الشرط يفضي إلى تلف الموقوف في حالة النزاع بين المستفيدين: فإذا وقع بين الموقوف عليهم اختلاف لا يؤمَن به تلف العين الموقوفة إن بقيت، وشرْط الواقف حائلٌ دون التصرف فيها بالبيع، وليس ثمة مخرج غيره، فلولي الأمر بيعه والاستفادة من ثمنه في وقفٍ مثله، لا يكونُ محلّ خلاف بين المستحقين.
6 -
عندما ينشأ الفساد بسبب بقاء شرط الواقف: كما لو وقف حوضًا للأغسال الواجبة والمندوبة، ثم تحول الحوض بمرور الزمن إلى مكان لتجمع الحشرات الضارة المتسببة في الأمراض، أو وقف ساقية ماء وقد ملأ العمران أطرافها بحيث لا يُستفاد منها، بل تشكّل ضررًا على البناء وعلى أهالي الدور السكنية؛ ففي المثالين يصبح جائزًا بيع النهر والحوض والاستفادة من ثمنهما في مصالح أخرى.
7 -
إذا كان الوقف على من لا يجوز الوقف عليهم وكان الشرط مثبتًا لذلك: كأن يقف على المعدوم، أو المجهول، أو الكافر الحربي، ونحوهم.
8 -
عند تعرض الوقف إلى التلف: فليس للناظر ولا لمن فوقه أن يُغير شيئًا من شروط الواقف، إلا أن يخْرب الوقف، ولا يوجد مَن يُراعيه بعمارة من سلطان وغيره، فإن وقع وكان شرط عدم المساس بالوقف ساريًا؛ فإن لولي الأمر أن يقيّده بما لا يتسبب في تلف الموقوف.
9 -
انتهاء أمد المنفعة أو أمد المِلك: فإن أوقف إنسان على مصلحةٍ ما فانقرضت؛ جعلت منافعها على وجه من وجوه البر، وهذا الأمر من أكثر الحالات شيوعًا في تغيير شروط الواقف، فهناك الكثير من الموقوفات التي وُقفت على أمور لم يعُد لها وجود خارجيّ ولا أثر لها يُذكر، أو انتفت الحاجة إليها، كاستخدام الحمير لنقل ماء الشرب إلى البيوت أو الحمامات العامة في بعض البلاد التي لا حاجة إليها.
ولم نجد من القرارات والتوصيات التي صدرت عن منتدى قضايا الوقف الفقهية ما يتعلق بشكل مباشر بمسألة تقييد ولي الأمر الواقف في شروطه، ولكن يمكن أن يستوحى ما يدل عليه من القرار (5) "من الموضوع الثاني: وقف النقود والأوراق المالية": يلزم مراعاة شرط الواقف ما لم توجد مصلحة معتبرة شرعًا، وبضوابط محددة تضمن بقاء الوقف.
ومن الصور التي ذكرها فقهاء الحنفية في تقييد ولي الأمر الواقفَ في شروط وقفه، ما يأتي:
1 -
إذا جعل الواقف النظر لشخص أو أشخاص، واشترط أن لا يعزلوا ولو خانوا، فإن اشتراط عدم عزلهم مع ثبوت خيانتهم مخالف للمقررات الشرعية؛ لما فيه من إقرار الخائن على خيانته، وهو أيضا منافٍ لمصلحة الوقف والمستحقين
(1)
.
2 -
إذا شرط الواقف أن للمتولي أن يؤجر الوقف بما يشاء، ولو كان أقل من أجرة المثل، فهذا الشرط غير معتبر، لما فيه من إضرار بالوقف وبالمستحقين، حتى ولو كان المتولي هو المستحق
(2)
.
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 389.
(2)
انظر: المرجع السابق،3/ 551.
3 -
إذا اشترط الواقف في وقفه أن لا يُعَمَّر أو يرمم حتى ولو تهدم وتعطلت منافعه، أو اشترط أن عطاء الموقوف عليهم مقدم على عمارة الوقف وصيانته، فهذه الشروط وأمثالها باطلة، لا يلتفت إليها، لما فيها من الإضرار بالوقف وبالمستحقين.
4 -
إذا أصبح العمل بشرط الواقف مفوتًا لغرض الواقف، فيجوز للقاضي أن يغير شرط الواقف
(1)
.
إلى غير ذلك من الصور التي ستتبين معنا من خلال نصوصهم.
وفيما يأتي بعض تلك النصوص التي ذكرها فقهاء الحنفية في ذلك:
1 -
فقال ابن نجيم: " (وينزع) المتولي (لو خائنًا) أي: يجب على الحاكم نزعه إذا كان غير مأمون على الوقف وكذا لو كان عاجزًا نظرًا للوقف وصرح بأن مما يخرج به الناظر ما إذا ظهر به فسق كشرب الخمر ونحوه كذا في (الفتح) وكأنه لأنه قد يصرف مال الوقف فيه فلم يكن مأمونًا ونحوه كإن ظهر أنه زان وينبغي أنه لو كان يصرف ماله في الكيمياء أن يعزل أيضًا لما قلنا ومن خيانته امتناعه من العمارة كما في الخصاف ومنها بيعه للوقف بلا مسوغ وظاهر (الذخيرة) أنه لابد من هدم المشتري البناء حيث قال: فإن باع بعض الوقف لترميم الباقي فالبيع باطل فإن هدم المشتري البناء ينبغي للقاضي عزله لأنه صار خائنًا والظاهر الإطلاق لما في (القنية) باع شيئًا منه أو رهنه فهو خيانة (كالوصي) أي: كما أنه ينزعه لو خائنًا؛ نظرًا للصغار (وإن شرط) الواقف (أن لا ينزع) لأنه شرط مخالف الحكم الشرع فيبطله ولو كان الواقف نفسه قيد بكونه خائنًا لأنه لا ينزع المأمون المشروط له النظر"
(2)
.
(1)
انظر: حاشية الطحاوي على الدر المختار، 2/ 545.
(2)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 3/ 327.
2 -
وقال ابن الهمام في فتح القدير: "إذا شرط الواقف الولاية لنفسه، وكان غير مأمون على الوقف فللقاضي أن يخرجه؛ نظرًا للفقراء، كما له أن يخرج الوصي نظرًا للصغار، وكذا لو شرط أن ليس لسلطان ولا لقاض أن يخرجه عنه ويوليها غيره لا يلتفت إلى شرطه إذا كان غير مأمون؛ لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فيبطل، وصرح بأن مما يخرج به الناظر ما إذا ظهر به فسق كشرب الخمر ونحوه"
(1)
.
3 -
وقال برهان الدين بن مازه الحنفي: "وإذا كان الوقف على الفقراء وشرط الواقف الولاية لنفسه، وكان هو منهما غير مأمون على الوقف، فللقاضي أن ينزعها من يده؛ لأن القاضي نصب ناظرًا للفقراء لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وبالوقف زال ملكه وثبت الحق فيه للفقراء، فإذا كان متهمًا كان للقاضي أن يخرجه نظرًا للفقراء كما له أن يخرج الوصي نظرًا للصغار، وكذلك لو ترك العمارة وفي يده من غلته ما يمكنه أن يعمره فالقاضي يجبره على العمارة، فإن فعل وإلا أخرجه من يده. ولو شرط الواقف ولايتها لنفسه وأن ليس للسلطان ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره، فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن الشرع أطلق للقاضي إخراج من كان متهمًا دافعًا للضرر عن الفقراء"
(2)
.
4 -
ونقل الحصكفي صاحب الدر المختار من معروضات المفتي أبي السعود قوله: "لو شرط الواقف العزل والنصب وسائر التصرفات لمن يتولى من أولاده ولا يداخلهم أحد من القضاة والأمراء، وإن داخلوهم فعليهم لعنة الله، هل يمكن مداخلتهم؟ " فأجاب: بأنه في سنة أربع وأربعين وتسعمائة قد حررت هذه الوقفيات المشروطة هكذا، فالمتولون يعرضون على مقتضى الشرع فلو أراد الواقفون الفساد ولعنوا من خالفهم، فهم الملعونون لما تقرر أن الشرائط المخالفة للشرع جميعها لغو
(1)
فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 232.
(2)
المحيط البرهاني في الفقه النعماني في فقه الإمام أبي حنيفة، أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مَازَةَ البخاري الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1424 هـ/ 2004 م، 6/ 134.
وباطل. وعلق عليه ابن عابدين بالقول بأن: حاصله أن الواقفين إذا شرطوا هذا الشرط، ولعنوا من يداخل الناظر من الأمراء والقضاة، كانوا هم الملعونين؛ لأنهم أرادوا بهذا الشرط أنه مهما صدر من الناظر من الفساد لا يعارضه أحد، وهذا شرط مخالف للشرع، وفيه تفويت المصلحة للموقوف عليهم، وتعطيل الوقف، فلا يقبل
(1)
.
5 -
وقال ابن نجيم: "وفي شرح منظومة ابن وهبان: لو شرط الواقف أن لا يستبدل أو يكون الناظر معزولا قبل الاستبدال أو إذا همَّ بالاستبدال انعزل، هل يجوز استبداله؟، قال الطرسوسي: إنه لا نقل فيه، ومقتضى قواعد المذهب أن للقاضي أن يستبدل إذا رأى المصلحة في الاستبدال؛ لأنهم قالوا إذا شرط الواقف أن لا يكون للقاضي أو السلطان كلام في الوقف أنه شرط باطل، وللقاضي الكلام؛ لأن نظره أعلى، وهذا شرط فيه تفويت المصلحة للموقوف عليهم، وتعطيل للوقف؛ فيكون شرطا لا فائدة فيه للوقف ولا مصلحة فلا يقبل اهـ"
(2)
.
6 -
وقال في الأشباه والنظائر: "شرط الواقف يجب اتباعه لقولهم: شرط الواقف كنص الشارع أي: في وجوب العمل به وفي المفهوم والدلالة كما بيناه في شرح الكنز إلا في مسائل:
الأولى: شرط أن القاضي لا يعزل الناظر فله عزل غير الأهل.
الثانية: شرط أن لا يؤجر وقفه أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجاره سنة أو كان في الزيادة تقع للفقراء فللقاضي المخالفة دون الناظر.
الثالثة: لو شرط أن يقرأ على قبره فالتعيين باطل.
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 388 - 389.
(2)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 5/ 241.
الرابعة: شرط أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا كل يوم لم يراع شرطه فللقيم التصدق على سائل غير ذلك المسجد أو خارج المسجد أو على من لا يسأل.
الخامسة: لو شرط للمستحقين خبزًا أو لحمًا معيَّنًا كل يوم؛ فللقيم أن يدفع القيمة من النقد وفي موضع آخر: لهم طلب العين وأخذ القيمة.
السادسة: تجوز الزيادة من القاضي على معلوم الإمام إذا كان لا يكفيه وكان عالمًا تقيًّا.
السابعة: شرط الواقف عدم الاستبدال فللقاضي الاستبدال إذا كان أصلح"
(1)
.
1 -
وقال الطرابلسي: "ولو شرط أن لا تؤجر أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجارها سنة، وإيجارها أكثر من سنة أدر على الوقف وأنفع للفقراء .. لا يجوز له مخالفة شرطه بإيجارها أكثر، بل يرفع الأمر إلى القاضي ليؤجرها أكثر من سنة؛ لكونه أنفع للوقف، فإن للقاضي ولاية النظر للفقراء والغائبين والموتى"
(2)
.
2 -
وقال ابن نجيم في البحر: "ويعزل القاضي الواقف المتولّي على وقفه لو كان خائنًا، كما يعزل الوصي الخائن نظرًا للوقف واليتيم، ولا اعتبار بشرط الواقف أن لا يعزله القاضي أو السلطان، لأنه شرط مخالف لحكم الشّرع فبطل"
(3)
.
ومن صور تقييد شرط الواقف عند المالكية: أنه إذا شرط في مدرسة أن لا يشتغل المعيد بها أكثر من عشر سنين ففرغت سنوه، ولم يوجد في البلد معيد غيره؛ جاز له تناول الجامكية؛ لأن العرف يشهد بأن الواقف لم يرد شغور مدرسته، وإنما أراد أن هذا المعيد إذا انتفع جاء غيره، وهذا ينظر في كل شرط شهد العرف بتخصيصه
(4)
.
(1)
الأشباه والنظائر، ابن نجيم، 163، وانظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 387.
(2)
الإسعاف في أحكام الأوقاف، الطرابلسي، 63 - 64.
(3)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم، 5/ 265.
(4)
انظر: الذخيرة، القرافي، 6/ 337.
ومنها: جواز كراء العين الموقوفة أكثر من المدة التي اشترطها الواقف إن كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، كما: لو انهدم الوقف فيجوز كراؤه بما يبنى به ولو طال الزمان كأربعين عامًا، أو أزيد بقدر ما تقتضي الضرورة وهو خير من ضياعه واندراسه
(1)
.
والأصل وجوب العمل بشرط الواقف عند الحنابلة؛ لأن نص الواقف كنص الشارع، ويجب العمل بجميع ما شرطه ما لم يفض إلى الإخلال بالمقصود الشرعي، لكن يستثنى من ذلك بعض الصور، منها: إذا شرط استحقاق ريع الوقف للعزوبة، فالمتأهل أحق من المتعذب، إذا استويا في سائر الصفات
(2)
.
ومنها: إن شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنة؛ لم تجز الزيادة عليها لكن عند الضرورة يزاد بحسبها، ولم يزل عمل القضاة عليه من أزمنة متطاولة. وقال الشيخ تقي الدين: والشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم تفض إلى الإخلال بالمقصود الشرعي. وعن بعضهم جواز الزيادة بحسب المصلحة. كما يستثنى من ذلك تعطل منافع الموقوف، ولم يمكن تعميره إلا بذلك؛ جاز
(3)
.
(1)
انظر: الشرح الكبير، الشيخ الدردير، 4/ 96.
(2)
انظر: منار السبيل في شرح الدليل الشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم ضويان، دار اليقين ومكتبة أهل الأثر، السعودية، 1425 هـ./ 2004 م، 2/ 430.
(3)
انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي، 4/ 260.