الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني المعتبر في دلالة ألفاظ الواقفين
أولًا: آراء العلماء في اعتبار العرف:
هذه المسألة مهمة؛ لما فيها من تحقيق إرادة الواقف، وما يترتب عليها من العدل بين الموقوف عليهم.
وفيها رأيان:
الرأي الأول: اعتبر عُرْف الشارع إن كان له عرف: حيث ذهب بعض العلماء - منهم السبكي - إلى أن المعتبر في ألفاظ الناس، ومنهم الواقف هو اللغة وعرف الشارع، فقال:"ولو كان فهم العوام حجة لم يُنظر في شيء من كتب الأوقاف، ولا غيرها مما يصدر منهم، ولكنا ننظر في ذلك، ونجري الأمر على ما يدل عليه لفظها لغة وشرعًا؛ سواء أعلمنا أن الواقف قصد ذلك أم جهله، وما ذاك إلا أن من تكلم بشيء التزم حكمه، وإن لم يستحضر تفاصيله حين النطق بها"
(1)
.
وكذلك الزركشي ذهب إلى أن ما له مسمي عرفي وشرعي يُحمل عند الإطلاق على الحقيقة الشرعية أولًا، ثم العرفية
(2)
.
وفصَّل في المنثور في تعارض العرف مع الشرع، ورأى أنه إذا لم يتعلق بالعرف الشرعي حكم فيُقدم عليه؛ فلا يحنث عنده من حلف لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا، وإن سماه الله تعالى لحمًا؛ فرأى تقديم عرف الاستعمال على عرف الشرع، وعلَّل ذلك بأن فيه تسمية لم يتعلق بها تكليف، ولأن الإنسان إنما يؤاخذ بما نواه وفعله ثم ذكر النوع الثاني، وهو تعلقُ حكمٍ بعرف الشرع، وأنه يُقدم الشرعي على عرف الاستعمال؛ كما إذا حلف لا يصوم؛ لم يحنث إلا بالإمساك بالنية في زمن قابل للصوم، ولا يحنث بمطلق الإمساك، وإن كان صومًا لغة، هذا كلام الزركشي باختصار
(3)
.
(1)
فتاوى السبكي، أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، دار المعارف، مصر، 1/ 356.
(2)
انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، 5/ 86.
(3)
انظر: الدر المنثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الفكر، بيروت، 2/ 378.
وهذا هو الذي رجحه معظم علماء المالكية، قال الحطاب: "واختلف فيها فتوى المتأخرين: فتاوى ابن رشد، وفتيا ابن الحاج، والراجح فيها فتيا ابن رشد؛ لأن لفظ الواقف لما كان قابلًا للاحتمالين وتعذر ترجيح أحدهما بتفسير الواقف؛ اعتمد ابن رشد في ترجيح أحدهما بعادة الناس وهي العرف، وباستصحاب الحالة السابقة، واعتمد مخالفه على ظاهر اللفظ، أو أنه أظهر الاحتمالين في اللفظ
(1)
.
الرأي الثاني: اعتبر عرف الواقف أو لغته: حيث قال به أكثر أهل العلم، وهو أن المعتبر عرف الاستعمال أو لغة المتكلم دون النظر إلى لغةٍ أو عرفٍ آخَرَيْن؛ لأن كلام الناس في عقودهم وإنشاءاتهم إنما يدل على مقاصدهم هم، فلا تكون لغة الشارع أو عرفه دليلا على مقاصدهم.
ويُقوَّى هذا من وجه آخر: بأنه إذا كانت اللغة الغالبة لبلد إنما تُعرف بها مقاصد المتكلمين بها، وأنه لا يجوز أن يُفسَّر بها كلام أقلية تتكلم بغيرها، فكذلك ألفاظ وعقود الناس إنما تُفسر بلغتهم، أو عرف استعمالهم، وليس بلغة الشارع أو عرفه.
ولا يُستثنى من هذه القاعدة ما استثناه الزركشي رحمه الله مما تعلق به حكمٌ بعرف الشرع، وذلك لأن مناط الحكم هو مراد المتكلم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بلغته، أو عرف استعماله.
وهذه المسألة - في أصلها - ضرورية ظاهرة؛ ولهذا بنى عليها العلماء في فهم ألفاظ الكتاب والسنة؛ فقرروا أن المعتبر في ذلك مصطلح الشارع؛ لأنه أقوى الدلالات على مراده؛ فإن لم يوجد له مصطلح فلغة العرب؛ لنزول القرآن بها؛ فإن لم توجد فعرف المخاطبين في ذلك.
فعلى ذلك: لو وقف على الفقراء من يرى أن عادم بيت المثل فقير، جاز لناظر وقفه أن يُعطي مَنْ هذه صفته من ريع هذا الوقف، ولو كان حد الفقر في الشريعة لا ينطبق عليه؛ لأننا استنبطنا مراده من عرفه المطرد.
(1)
انظر: أحكام الوقف، يحيى بن محمد الحطاب، دار ابن حزم، مصر، د، ط، 161.