الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، والله ما أصبت مالًا قط هو أنفس عندي منها، فما تأمرني؟ قال:"إن شئت تصدَّقت بها وحبَّست أصلها"؛ فجعلها عمر أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وتصدق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي سبيل الله والرقاب، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متموِّل فيه، ثم أوصى به إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، ثم إلى الأكابر من آل عمر
(1)
.
وجه الدلالة:
دلَّ الحديث على أن للواقف أن بيشترط في وقفه ما شاء إذا أخرجه من يده إلى متولى النظر فيه، وكل ما كان نظير الأرض التي حبسها عمر مما يحدُّ بوصف ويوصف بصفة، وله منافع تُدرك بالعمارة والإصلاح؛ ففي حكمها في جواز تحبيسه
(2)
.
2 -
عمل الصحابة: قال الشافعي: أخبرني واحد من آل عمر وآل علي أن عمر ولي صدقته حتى مات، وجعلها بعده إلى حفصة، وإن عليًّا ولي صدقته حتى مات، ووليها بعده حسن بن علي، وإن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: وليت صدقتها حتى ماتت، وبلغني واحد من الأنصار أنه ولي صدقته حتى مات، وقال في القديم: ولي الزبير صدقته حتى قبضه الله، وولي عمرو بن العاص صدقته حتى قبضه الله، وولي المسور بن مخرمة صدقته حتى قبضه الله
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، حديث رقم 2493، والبيهقي في سننه، 6/ 161، حديث رقم 11682، والدارقطني، باب كيف يكتب الحبس، حديث رقم 4465، وقال الدارقطني:"قال أبو مسعود: قالوا: هذا أجود حديث رواه ابن عون"، وصحَّحه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح أبي داود، حديث رقم 2879.
(2)
انظر: شرح صحيح البخاري، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط 2، 1423 هـ/ 2003 م، 8/ 140.
(3)
أخرجه البيهقي في سننه، كتَابُ الْوَقْف، بَابُ جَوَاز الصَّدَقَة الْمُحَرَّمَة وإنْ لَمْ تُقْبَضْ، 6/ 161، حديث رقم (11902).
علَّق الإمام الشافعي والإمام ابن القيم على فعل الصحابة؛ فقال الشافعي: "إنا أجزناها اتباعًا لمن كان قبلنا؛ مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. . وغيرهما، وهم ولوا صدقاتهم حتى ماتوا، فلا يجوز أن نخالفهم في أن لا نجيزها إلا مقبوضة، وهم قد أجازوها غير مقبوضة بالكلام بها، فتوافقهم في إجازتها"
(1)
، وقال ابن القيم من الحنابلة:"وهو اتفاق من الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه كان يلي صدقته، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة"
(2)
.
3 -
المعقول: وبيانه من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الوقف متلقىً من جهته؛ فاتُّبع شرطه ونصُّه؛ لأن شرط الواقف كنصِّ الشارع
(3)
(4)
، ثم إن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهته بشرطه، فيستحيل أن لا يكون
(1)
انظر: الأم، الشافعي، 4/ 59.
(2)
إعلام الموقعين، ابن القيم الجوزية، 3/ 371.
(3)
المراد بكون شروط الواقف كنصوص الشارع: في الفهم والدلالة، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتقديم خاصها على عامها، والأخذ فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا أن يراد كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها، فهذا باطل، بل يبطل منها ما لم يكن طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينفذ منها ما كان قربة وطاعة، فهذا الواجب في الاعتماد في شروط الواقفين، قال ابن نجيم الحنفي:"وبهذا عُلم أن قولهم: شرط الواقف كنص الشارع. . ليس على عمومه، قال العلامة قاسم في فتاواه: أجمعت الأمة أن من شروط الواقفين ما هو صحيح معتبر يُعمل به، ومنها ما ليس كذلك، ونص أبو عبد الله الدمشقي في كتاب الوقف، عن شيخه شيخ الإسلام: "قول الفقهاء: نصوصه كنصِّ الشارع، يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل، مع أن التحقيق أن لفظه ولفظ الموصي والحالف والناذر، وكل عاقد. . يُحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشرع أم لا، ولا خلاف أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي. . ونحوه لم يصح". انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين بن إبراهيم بن نجيم، 5/ 265، وانظر مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، 31/ 47، وإعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر المشهور بـ "ابن القيم الجوزية"، 4/ 186.
(4)
انظر: الدر المختار على تنوير الأبصار، علاء الدين بن الحصكفي، 4/ 433، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي الحنفي، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م، 201، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 366، وإعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح =
للواقف ولاية وغيره يستفيد الولاية منه
(1)
، والواقف هو المتقرب بالصدقة؛ فيُتَّبع شرطه، كما يُتَّبع في مصارفها وغيرها
(2)
، كما أن الواقف أقرب الناس إلى الوقف، فكان أولى بولايته، فهو أحقُّ من القاضي؛ لأنه وإن زال الملك فهو على وجه تعود منفعته للواقف، يصرفه إلى الجهات التي عيَّنها، وهو أنصح لنفسه من غيره، فينتصب وليًا
(3)
.
وقال ابن القيم: "وأي غرض للشارع في ذلك (أي في عدم تولية الواقف)، وأي مصلحة للواقف أو الموقوف عليه، بل المصلحة خلاف ذلك؛ لأنه أَخْبرُ بماله، وأقْومُ بعمارته ومصالحه، وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه، وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبي ويده، ولا سيَّما إن كان متبرعًا، فأي مصلحة في أن يُقال له: لا يصح وقفك حتى تجعله في يد من لست على ثقة من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه؟! "
(4)
.
الوجه الثاني: أن الواقف أَوْلى من غيره بالولاية والتصرُّف جزاء لإحسانه
(5)
، ومكافأة على برِّه، كما جعل الولي للمعتق
(6)
.
= المعين، أبو بكر عثمان بن محمد شطا البكري الدمياطي الشافعي، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م، 3/ 169، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج، عبد الحميد الشرواني، دار الفكر، دمشق، د. ت، 9/ 305، والمبدع شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، دار عالم الكتب، الرياض، 1423 هـ/ 2003 م، 5/ 333. وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، 4/ 259.
(1)
انظر: الهداية في شرح بداية المبتدي، أبو الحسن برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، تحقيق: طلال يوسف، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، 3/ 18، وشرح فتح القدير، محمد بن عبد الواحد السيواسي المشهور بـ "ابن الهمام"، 6/ 231.
(2)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد بن أحمد الشربيني، 2/ 393.
(3)
انظر: شرح فتح القدير، محمد بن عبد الواحد السيواسي المشهور بـ "ابن الهمام"، 6/ 231.
(4)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر المشهور بـ "ابن القيم الجوزية"، 3/ 372.
(5)
انظر: التاج المذهب لأحكام المذهب، القاضي صفي الدين أحمد بن قاسم الصنعاني، 8/ 378، والوسائل (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة)، أبو جعفر محمد بن الشيخ الحسن الحرُّ العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، إيران، د. ت، 19/ 175.
(6)
انظر: شرح الأزهار، عبد الله بن أبي القاسم الشهير بـ "ابن مفتاح"، 8/ 246.
الوجه الثالث: أن عموم أدلة لزوم الوفاء بالشرط يقتضي العمل بها هنا، وعموم ما دلَّ على أن الوقوف على حسب ما أوقفها أهلها، فقد روى محمد بن الحسن بن الصفار أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي في الوقف وما روي فيه عن آبائه، فوقَّع:"الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله"
(1)
، وأيضًا مما يدل على ذلك المسيرة الخارجية الممضاة، فإن السيرة جارية على جعل الولاية للواقف على العين الموقوفة
(2)
.
أدلة أصحاب القول الثاني: أن الواقف إذا اشترط النظارة لنفسه وكان الوقف على غير صغار ولده أو من في حجره؛ فالشرط باطل، ويلزم الواقف إقباض الوقف للموقوف عليه، فإن امتنع من ذلك أجبر عليه، فإن لم يقبض عنه ولا خرج عن يده حتى مات؛ فالوقف باطل، ويكون موروثًا عنه.
المعقول وبيانه من وجهين:
الوجه الأول: أن الحيازة من شرط تمام الوقف؛ لأنه لو أجيز دون حيازة؛ لكان ذلك ذريعة إلى أن ينتفع الإنسان بماله طول حياته، ثم يخرجه عن ورثته بعد وفاته، وذلك ممنوع؛ لأن الله تعالى فرض فرائض لأهلها، وتوعَّد على تعديها، حيث قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
(3)
.
الثاني: الوقف دون حيازة يؤدي إلى الشقاق والاختلاف عند وفاة الواقف، قال الحطَّاب:"سُئلت عن رجل أوقف وقفًا وشرط النظر لنفسيه مدة حياته، وحكم بصحة الوقف قاضٍ مالكي، فانتقل القاضي المذكور والواقف بالوفاة بعد مدَّة، فدعت زوجة الواقف أولاده إلى قاضٍ مالكي آخر في ميراثها من الأرض الموقوفة، فأظهروا كتاب الوقف، فأبطله وحكم لها بإرثها"
(4)
.
(1)
الوسائل، الحر العاملي، مؤسسة آل البيت، 19/ 175.
(2)
مستند القضاء الجعفري، السيد عبد الله فحص، 499 - 500.
(3)
سورة البقرة، آية 229، وانظر: المقدمات الممهدات، محمد بن أحمد القرطبي المشهور بـ "ابن رشد"، 2/ 410.
(4)
انظر: مواهب الجليل شرح مختصر خليل، محمد بن عبد الرحمن الحطاب، 6/ 25.