الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(118)}
قراءات:
33896 -
عن عكرمة بن خالد المخزومي -من طريق أبي عمرو- أنّه كان يقرؤها: (وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خَلَفُواْ) نصب، أي: بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
(1)
. (7/ 580)
نزول الآية، وسياق القصة:
33897 -
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أنّ عبد الله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعب مِن بنيه حين عَمِي- قال: سمعتُ كعب بن مالك يُحدِّث حديثَه حين تَخَلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتَخَلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ إلا في غزوة تبوك، غير أنِّي تَخَلَّفْتُ في غزاة بدر، ولم يُعاتِب أحدًا تَخَلَّف عنها، إنّما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدُوِّهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العَقَبَة حين تَواثَقْنا على الإسلام، وما أُحِبُّ أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها وأَشْهَر، وكان مِن خَبَرِي حين تَخَلَّفْتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أنِّي لم أكُن قطُّ أقوى ولا أيْسَرَ مِنِّي حين تَخَلَّفْتُ عنه في تلك الغزاة، واللهِ، ما جمعتُ قبلَها راحِلَتَيْن قطُّ حتى جَمَعْتُهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يُريدُ غزاةً إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبل عَدُوًّا كثيرًا، فجَلّى للمسلمين أمرَهم لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهم، فأخبرهم وجهَه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كِتاب حافِظٌ -يريد: الديوان-. قال كعب: فقلَّ رجلٌ يُريد أن يتغيَّبَ إلا ظنَّ أن ذلك سيخفى له، ما لم ينزِل فيه وحْيٌ مِن الله. وغزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابَتِ الثِّمارُ والظِّلُّ، وأنا إليها أصْعَرُ
(2)
، فتجهَّز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم 6/ 1905.
وهي قراءة شاذة، تنسب أيضًا إلى زر بن حبيش، وعمرو بن عبيد. انظر: مختصر ابن خالويه ص 60، والمحتسب 1/ 305.
(2)
أي: أميَل. النهاية (صعر).
والمؤمنون معه، وطفِقْتُ أغدو لكي أتَجَهَّزَ معهم، فأرجع ولا أقضي شيئًا، فأقول لنفسي: أنا قادِرٌ على ذلك إذا أردتُ. فلم يزل ذلك يَتَمادى بي حتى اسْتَمَرَّ بالناس الجِدُّ، فأصبح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غادِيًا والمسلمون معه، ولم أقْضِ مِن جَهازي
(1)
شيئًا، وقلت: الجَهازُ بعد يوم أو يومين ثم ألْحَقُه. فغَدَوْتُ بعدما فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فرجعتُ ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدوتُ فرجعتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتَهَوْا، وتَفارَطَ
(2)
الغزوُ، فهممتُ أن أرتحل فأُدركهم، وليت أنِّي فعلتُ، ثم لم يُقَدَّر ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرجتُ في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحْزِنُني أن لا أرى إلا رجلًا مَغْمُوصًا عليه في النِّفاق، أو رجلًا مِمَّن عَذَرَهُ الله. ولم يذكرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك:«ما فعل كعبُ بنُ مالك؟» . قال رجل مِن بني سَلِمةَ: حَبَسَهُ -يا رسول الله- بُرداه، والنَّظَرُ في عِطْفَيْه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلتَ، واللهِ، يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَوَجَّه قافِلًا من تبوك حَضَرَنِي بَثِّي، فطَفِقْتُ أتَفَكَّرُ الكَذِب، وأقول: بِماذا أخرج مِن سخطه غدًا؟ أستعين على ذلك كُلَّ ذي رَأْيٍ مِن أهلي. فلمّا قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادِمًا. زاح عَنِّي الباطِل وعرَفت أنِّي لم أنجُ مِنه بشيء أبدًا، فأجمعتُ صِدْقَه، وصبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قَدِم مِن سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع ركعتين، ثم جلس للناس، فلمّا فعل ذلك جاءه المُتَخَلِّفون، فطفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقَبِل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلانِيَتَهم، واسْتَغْفَر لهم، ويَكِل سرائِرهم إلى الله، حتى جئتُ، فلمّا سلَّمْتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَب، ثم قال لي:«تعال» . فجئتُ أمْشِي حتى جلست بين يديه، فقال لي:«ما خلَّفَكَ؟ ألم تكن قد اشتريتَ ظَهْرَك؟» . فقلتُ: يا رسول الله، لو جَلَسْتُ عند غيرك مِن أهل الدنيا لَرَأْيتُ أنْ أخْرُجَ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، لقد أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنَّه -واللهِ- لقد علمتُ لَئِن حدَّثتُك اليوم حَديثَ كَذِبٍ ترضى عنِّي به؛ لَيُوشِكَنَّ الله يُسخِطُك عَلَيَّ، ولَئِن حدَّثتُك الصِّدْقَ تَجِدُ عَلَيَّ فيه، إنِّي لأرجُو قربَ عُقْبى مِن الله، واللهِ، ما كان لي عذر، واللهِ، ما كنت قطُّ أفْرَغ ولا أيْسَر مِنِّى حين تخلَّفتُ عنك. فقال
(1)
ما يحتاجه في سفره
…
وجَهاز الراحلة: ما عليها. ينظر لسان العرب (جهز).
(2)
أي: فات وقته. النهاية (فرط).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هذا فقد صَدَق، فقُم حتى يقضِي اللهُ فيك» . فقمتُ، وبادرني رجال مِن بني سلِمة، واتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ، ما علِمناك كنتَ أذْنَبْتَ ذنبًا قبل هذا، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعْتَذر به المُتَخَلِّفون! فلقد كان كافيك مِن ذنبك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فواللهِ، ما زالوا يُؤَنِّبونني حتى أردتُ أن أرجع فأُكَذِّب نفسي. ثم قلت لهم: هل لقِي هذا معي أحدٌ؟. قالوا: نعم، لَقِيَه معك رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: مَن هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهِدا بدرًا، لي فيهما أُسْوَة، فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا -أيُّها الثلاثة- مِن بين مَن تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناسَ، وتغيَّروا لنا، حتى تَنَكَّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التى كنت أعرفُ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأمّا أنا فكُنتُ أشدَّ القومِ وأجْلَدَهم، فكنت أشهد الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ بالأسواق، فلا يُكَلِّمني أحد، وآتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في مَجْلِسه بعد الصلاة فأُسَلِّم وأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا؟ ثم أُصَلِّي قريبًا منه وأُسارِقُه النَّظَر؛ فإذا أقْبَلْتُ على صلاتى نظر إلَيَّ، فإذا التَفَتُّ نحوَه أعْرَض. حتى إذا طال عَلَيَّ ذلك مِن هجر المسلمين مَشَيْتُ حتى تَسَوَّرْتُ حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحبُّ الناسِ إلَيَّ، فسلَّمت عليهِ، فواللهِ، ما ردَّ السلام عَلَيَّ، فقلتُ له: يا أبا قتادة، أنشُدُك الله، هل تعلم أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ. قال: فعُدت فنشَدته، فسكتْ، فعدت فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتَوَلَّيْتُ حتى تَسَوَّرْتُ الجدارَ. وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيُّ مِن أنباط الشام مِمَّن قدِم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: مَن يدُلُّ على كعب بن مالك؟ فطفِق الناس يُشيرون له إلَيَّ، حتى جاء فدفَع إلَيَّ كتابًا مِن مَلِك غَسّان، وكُنتُ كاتِبًا، فإذا فيه: أمّا بعدُ، فقد بَلَغَنا أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضْيَعة، فالحَقْ بِنا نُواسِكَ. فقلتُ حين قرأتُها: وهذا أيضًا مِن البلاء. فتَيَمَّمْتُ بها التَّنُّورَ، فَسَجَرتُه فيها
(1)
. حتى إذا مضت أربعون ليلة مِن الخمسين إذا برسولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تَعْتَزِل امرأتَك. فقلت: أُطَلِّقُها أم ماذا أفعل؟ قال: بلِ
(1)
سجر التنور: أوقده وأَحماه. لسان العرب (سجر).
اعتزِلها ولا تقربْها. وأرسل إلى صاحِبَيَّ مثلَ ذلك، فقلتُ لامرأتى: الحقي بأهلِك، فكوني عندهم حتى يقضي اللهُ في هذا الأمر. فجاءت امرأةُ هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ هلالًا شيخ ضائع، وليس له خادِم، فهل تكره أن أخدمه؟. قال:«لا، ولكن لا يَقْرَبَنَّكِ» . قالت: وإنّه -واللهِ- ما بِه حَرَكَةٌ إلى شيء، واللهِ، ما زال يبكي مِن لدن أن كان مِن أمرِك ما كان إلى يومِه هذا. فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذنتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؛ فقد أذِن لامرأة هلال أن تخدمه. فقلتُ: واللهِ، لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقولُ إذا استأذنتُه وأنا رجل شابٌّ. قال: فلبِثنا عشرَ ليال، فكمل لنا خمسون ليلة مِن حين نهى عن كلامنا. قال: ثُمَّ صليتُ صلاةَ الفجر صباح خمسين ليلة على ظهرِ بيتٍ مِن بيوتنا، فبينا أنا جالِسٌ على الحال التى ذكر الله عَنّا؛ قد ضاقت عَلَيَّ نفسي، وضاقت عَلَيَّ الأرض بما رَحُبَت، سَمِعْتُ صارِخًا أوْفى على جبل سَلْعٍ يقولُ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبْشِرْ. فخررتُ ساجِدًا، وعرفتُ أن قد جاء فَرَجٌ، فآذَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتوبةِ الله علينا حين صلّى الفجرَ، فذهب الناسُ يُبَشِّرُوننا، وذهب قِبَل صاحِبَيَّ مُبَشِّرون، وركض إلَيَّ رجلٌ فرسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلم وأَوْفى على الجبل، فكان الصوتُ أسرعَ مِن الفرس، فلمّا جاءنى الذي سمعتُ صوتُه يُبَشِّرُني نَزَعت له ثوبَيَّ فكسوتُهما إيّاه ببشارته، واللهِ، ما أملك غيرَهما يومئذ، فاستعرتُ ثوبين فلبستُهما، فانطلقت أؤُمُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَتَلَقّاني الناسُ فَوْجًا بعد فَوْجٍ يُهَنِّئوني بالتوبة، يقولون: لِيَهْنِكَ توبةُ الله عليك. حتى دخلتُ المسجدَ، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حولَه الناس، فقام إلَيَّ طلحةُ بن عبيد الله يُهَرْوِل حتى صافَحني وهنَّأني، واللهِ، ما قام إلَيَّ رجل مِن المهاجرين غيرُه -قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة-. قال كعب: فلمّا سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يَبْرق وجهُه مِن السرور: «أبْشِرْ بخير يومٍ مرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك» . قلتُ: أمِن عندِك -يا رسول الله- أم مِن عند الله؟ قال: «لا، بل مِن عند الله» . وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ اسْتَنار وجهُه حتّى كأنه قِطْعَةُ قَمَر، فلمّا جلَستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله، إنّ مِن توبتى أن انْخَلِعَ مِن مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. قال:«أمْسِكْ بعضَ مالِك فهو خيرٌ لك» . قلتُ: إنِّي أُمْسِك سهمِي الذي بخيبر. وقلتُ: يا رسول الله، إنّما نجّاني الله بالصِّدق، وإنّ مِن توبتي ألّا أُحَدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ. قال: فواللهِ، ما أعلمُ أحدًا مِن المسلمين أبلاه الله مِن الصدق في الحديث منذُ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
أحسن مِمّا أبلاني الله تعالى، واللهِ، ما تعمَّدتُ كِذبةً منذُ قلتُ ذلك إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: وأنزل الله: {لقد تاب الله على النَّبِىّ والمهاجرين والأنصار} إلى قوله: {وكونوا مع الصادقين} . فواللهِ، ما أنعم الله عَلَيَّ مِن نعمة قطُّ بعد أن هداني الله للإسلام أعْظَمَ في نفسي مِن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألّا أكون كذَبتُه فأهلِكَ كما هلَك الذين كذبوه، فإنّ الله قال للذين كَذَبُوه حين أنزل الوحيَ شرَّ ما قال لأحد، فقال:{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتُعرِضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس} إلى قوله: {الفاسقين} [التوبة: 95]. قال: وكُنّا خُلِّفنا -أيُّها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلَفُوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجَأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال:{وعلى الثلاثة الذين خُلِّفُوا} . وليس تخليفُه إيّانا وإرجاؤه أمرَنا -الذي ذكر مما خُلِّفنا- بتخلُّفِنا عن الغزو، وإنّما هو عمَّن حلَفَ له واعتذر إليه فقَبِل منه
(1)
. (7/ 569)
33898 -
عن أنس بن مالك، قال: لَمّا نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذِي أوانٍ
(2)
خرج عامَّةُ المنافقين الذين كانوا تخلَّفوا عنه يَتَلَقَّوْنَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«لا تُكلِّمُنَّ رجلًا تَخَلَّف عنا، ولا تُجالِسوه حتى آذَنَ لكم» . فلم يُكلِّموهم، فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه الذين تَخَلَّفوا يُسَلِّمون عليه، فأعرض عنهم، وأعرض المؤمنون عنهم، حتى إنّ الرجل ليُعرِضُ عنه أبوه وأخوه وعمُّه، فجعلوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتذرون بالجهد والأسقام، فرحِمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فبايعهم، واستغفر لهم، وكان مِمَّن تَخَلَّف عن غير شكٍّ ولا نِفاق ثلاثةُ نَفَر؛ الذين ذكر الله تعالى في سورة التوبة: كعب بن مالك السُلمي، وهلال بن أمية الواقفى، ومُرارة بن ربيعة العامري
(3)
. (7/ 568)
33899 -
عن الحسن البصري -من طريق المبارك- قال: لَمّا غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تبوك تخلَّف كعب بن مالك، وهلال بن أُمَيَّة، ومُرارة بن الربيع، قال: أمّا أحدُهم فكان له حائِط حين زَها، قد فشَتْ فيه الحُمْرَة والصُّفْرَة، فقال: غزوتُ، وغزوتُ، وغزوتُ، مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلو أقمتُ العامَ في هذا الحائطِ فأَصَبْتُ مِنه. فلمّا خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه دخَل حائطَه، فقال: ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبَق
(1)
أخرجه البخاري 6/ 3 - 7 (4418)، ومسلم 4/ 2120 - 2129 (2769)، وابن جرير 12/ 58 - 66، وابن أبي حاتم 6/ 1899 - 1903 (10085).
(2)
ويقال: ذات أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. معجم البلدان 1/ 369.
(3)
عزاه السيوطي إلى ابن مردويه.
المؤمنون مِن الجهاد في سبيل الله إلا ضنٌّ بِكَ أيُّها الحائط، اللَّهُمَّ، إنِّي أُشهِدُك أنِّي قد تصدَّقتُ به في سبيلك. وأَمّا الآخَرُ فكان قد تفرَّق عنه مِن أهله ناسٌ، واجتمعوا له، فقال: قد غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوتُ، فلو أنِّي أقمتُ العام في أهلي. فلمّا خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه قال: ما خَلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق إليه المؤمنون من الجهاد في سبيل الله إلا ضنٌّ بكم أيها الأهل، اللَّهُمَّ، إنّ لك عَلَيَّ ألّا أرجع إلى أهلي ومالي حتى أعلم ما تَقْضِي فِيَّ. وأَمّا الآخَر فقال: اللَّهُمَّ، إنّ لك عَلَيَّ أن ألحق بالقوم حتى أدركهم، أو أنقطع. فجعَل يتبَع الوَقْعَ
(1)
والحُزُونَة
(2)
حتى لَحِق بالقوم؛ فأنزل الله: {لقد تاب الله على النبى} إلى قوله: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} . قال الحسن: يا سبحان الله، واللهِ، ما أكلُوا مالًا حرامًا، ولا أصابوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، غير أنّهم أبطئوا عن شيء مِن الخير؛ الجهاد في سبيل الله، وقد -واللهِ- جاهدوا، وجاهدوا، وجاهدوا، فبلغ منهم ما سمِعْتُم، فهكذا يبلغُ الذَّنبُ مِن المؤمن
(3)
. (7/ 578)
33900 -
عن محمد ابن شهاب الزهري -من طريق يونس- قال: غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة، ولَقِيَه بها وفْدُ أذْرُحَ ووَفْدُ أيْلَةَ، فصالحهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجزية. ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يُجاوِزْها، وأنزل الله:{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} الآيةَ. والثلاثةُ الذين خُلِّفُوا رهطٌ، منهم كعب بن مالك، وهو أحد بني سلِمة، ومرارة بن ربيعة، وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، وهو من بني واقف، وكانوا تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلًا، فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صدَقَه أولئك حديثهم، واعترفوا بذنوبهم، وكذَب سائرُهم، فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حَبَسَهُم إلا العُذْرُ، فقَبِل منهم رسولُ الله، وبايعهم، ووكَلَهم في سرائرهم إلى الله، ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كلام الذين خُلِّفوا، وقال لهم حين حَدَّثوه حديثَهم، واعترفوا بذنوبهم:«قد صَدَقْتُم، فقوموا حتى يقضي الله فيكم» . فلمّا أنزل الله القرآن تاب على الثلاثة، وقال للآخرين: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم
(1)
الوقع: المكان المرتفع. لسان العرب (وقع).
(2)
الحزونة: المكان الغليظ الخشن. النهاية (حزن).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم 6/ 1904. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ.