الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(44)}
57528 -
عن وهب بن مُنَبِّه -من طريق محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم- قال:
…
فلمّا وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله، وعاتبها في عبادتها الشمسَ دون الله، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمانُ ساجدًا إعظامًا لِما قالت، وسجد معه الناس، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلمّا رفع سليمانُ رأسَه قال: ويحكِ، ماذا قلتِ؟ قال: وأنسيت ما قالت، فقالت:{رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} . وأسلمت، فحسن إسلامها
(1)
. (ز)
57529 -
عن يزيد بن رومان -من طريق محمد بن إسحاق-، مثله
(2)
. (ز)
57530 -
قال مقاتل بن سليمان: {وأسلمت} يعني: أخلصت {مع سليمان} بالتوحيد {لله رب العالمين} . خرَّت لله عز وجل ساجدة، وتابت إلى الله عز وجل مِن شِرْكها
(3)
. (ز)
آثار متعلقة بالآية:
57531 -
عن عون بن عبد الله بن عتبة، أنّ أباه سُئِل: هل كان سليمان تزوج المرأة صاحبة سبأ؟ فقال: عهدي بها وهي تقول: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}
(4)
. (ز)
آثار مطولة في القصة
57532 -
عن عبد الله بن عباس -من طريق عطاء بن السائب، عن مجاهد- قال: كان سليمان بن داود عليه السلام إذا أراد سفرًا قَعَد على سريره، ووُضِعت الكراسي يمينًا وشمالًا، فيُؤذَن للإنس عليه، ثم أذن للجن عليه بعد الإنس، ثم أذن للشياطين بعد الجن، ثم أرسل إلى الطير فتُظِلّهم، ثم أمر الريح فحملتهم وهو على سريره، والناس على الكراسي، والطير تظلهم، والريح تسير بهم، غدوها شهر ورواحها شهر، رخاء
(1)
أخرجه ابن جرير 18/ 81.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2896.
(3)
تفسير مقاتل بن سليمان 3/ 309 - 310.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم 9/ 2896. وفي تفسير البغوي 6/ 168: قال عون بن عبد الله: سأل رجلٌ عبدَ الله بن عتبة: هل تزوجها سليمان؟ قال: انتهى أمرها إلى قولها: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. يعني: لا علم لنا وراء ذلك.
حيث أراد، ليس بالعاصف ولا باللين، وسطًا بين ذلك. وكان سليمان يختار مِن كل طير طيرًا، فيجعله رأسَ تلك الطير، فإذا أراد أن يُسائل تلك الطير عن شيء سأل رأسها. فبينما سليمان يسير إذ نزل مفازة، فسأل: كم بُعْد الماء ههنا؟ فسأل الإنس، فقالوا: لا ندري. فسأل الشياطين، فقالوا: لا ندري. فغضب سليمان، وقال: لا أبرح حتى أعلم كم بعد مسافة الماء ههنا؟ فقالت له الشياطين: يا رسول الله، لا تغضب، فإن يكُ شيءٌ يعلم فالهدهد يعلمه. فقال سليمان: عليَّ بالهدهد. فلم يوجد، فغضب سليمان، فقال:{لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} . يقول: بعذر مبين، غاب عن مسيري هذا! قال: ومرَّ الهدهد على قصر بلقيس، فرأى لها بستانًا خلف قصرها، فمال إلى الخضرة، فوقع فيه، فإذا هو بهدهد في البستان، فقال له هدهد سليمان: أين أنت عن سليمان؟ وما تصنع ههنا؟ فقال له هدهد بلقيس: ومَن سليمان؟ فقال: بعث الله رجلًا يُقال له: سليمان، رسولًا، وسخر له الجن والإنس والريح والطير. فقال له هدهد بلقيس: أي شيء تقول؟! قال: أقول لك ما تسمع. قال: إنّ هذا لَعجب! وأعجب من ذلك أنّ كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة، وأوتيت مِن كل شيء، ولها عرش عظيم، جعلوا الشكر لله أن يسجدوا للشمس مِن دون الله. قال: وذكر لهدهد سليمان، فنهض عنه، فلما انتهى إلى العسكر تلقته الطير، فقالوا: توعدك رسولُ الله. وأخبروه بما قال، وكان عذاب سليمان للطير أن ينتفه، ثم يشمسه، فلا يطير أبدًا، ويصير مع هوام الأرض، أو يذبحه فلا يكون له نسلٌ أبدًا، قال الهدهد: وما استثنى نبيُّ الله؟ قالوا: بلى؛ قال: أو ليأتيني بعذر مبين. فلما أتى سليمان قال: وما غيبتك عن مسيري هذا؟ فاعتلَّ له بشيء، وأخبره عن بلقيس وقومها ما أخبره الهدهد، فقال سليمان: بل اعتللت، {سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم}. وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى بلقيس، ألا تعلوا علَيَّ، وأتوني مسلمين. فلما ألقى الهدهدُ الكتاب إليها ألقي في رُوعها أنّه كتاب كريم، وأنه من سليمان، وألا تعلوا عليَّ، وأتوني مسلمين. قالوا: نحن أولو قوة. قالت: إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإني مرسلة إليهم بهدية. فلما جاءت الهدية سليمان قال: أتمدونني بمال؟! ارجع إليهم. فلما رجع إليها رسلها خرجت فزعة، فأقبل معها ألف قَيْل، مع كل قَيْل مائة ألف. قال: وكان سليمان رجلًا مَهيبًا، لا يُبْتَدَأُ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يومئذ، فجلس على سريره، فرأى
رَهَجًا قريبًا منه، قال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، يا رسول الله. قال: وقد نزلت مِنّا بهذا المكان؟
قال ابن عباس: وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَن معها حين نظر إلى الغبار كما بين الكوفة والحيرة. قال: فأقبل على جنوده، فقال:{أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} ؟ -قال: وبين سليمان وبين عرشها حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين- قال عفريت من الجن: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} . قال: وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما تجلس الأمراء ثم يقوم، قال سليمان: أريد أعجلَ مِن ذلك. قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا أنظر في كتاب ربي، ثم آتيك به {قبل أن يرتد إليك طرفك} . فنظر إليه سليمان، فلما قطع كلامه ردَّ سليمان بصره، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسيٍّ كان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير، فلما رأى سليمان عرشها مستقرًّا عنده قال:{هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر} إذ أتاني به قبل أن يرتد إليَّ طرفي، {أم أكفر} إذ جعل مَن هو تحت يدي أقدر على المجيء مني. ثم {قال نكروا لها عرشها} . {فلما جاءت} تقدمت إلى سليمان، قيل لها:{أهكذا عرشك} ؟ قالت: {كأنه هو} . ثم قالت: لقد تركته في حصوني، وتركت الجنود محيطين به، فكيف جيء بهذا؟! ثم قالت: يا سليمان، إني أريد أن أسألك عن شيء، فأخبرني به. قال: سلي. قالت: أخبِرني عن ماء رواء لا مِن الأرض ولا مِن السماء. قال: وكان إذا جاء سليمان شيء لا يعلمه يسأل الإنس عنه، فإن كان عند الإنس منه علم وإلا سأل الجن، فإن لم يكن عند الجن علم سأل الشياطين، فقالت له الشياطين: ما أهون هذا، يا رسول الله، مُر بالخيل فتجري، ثم لتملأ الآنيةَ مِن عرقها. فقال لها سليمان: عرق الخيل. قالت: صدقت. قالت: فأخبِرني عن لون الرب.
قال ابن عباس: فوثب سليمان عن سريره، فخرَّ ساجدًا، فقامت عنه، وتفرقت عنه جنوده، وجاءه الرسول، فقال: يا سليمان، يقول لك ربُّك: ما شأنك؟ قال: يا رب، أنت أعلم بما قالت. قال: فإنّ الله يأمرك أن تعود إلى سريرك، فتقعد عليه، وترسل إليها وإلى مَن حضرها مِن جنودها، وترسل إلى جميع جنودك الذين حضروك فيدخلوا عليك، فتسألها وتسألهم عما سألَتْك عنه. قال: ففعل سليمانُ ذلك، فلما دخلوا عليه جميعًا قال لها: عمَّ سألتيني؟ قالت: سألتك عن ماء رواء لا من الأرض ولا من السماء. قال: قلت لك: عرق الخيل. قالت: صدقت. قال: وعن أي شيء
سألتيني؟ قالت: ما سألتك عن شيء إلا عن هذا. قال لها سليمان: فلأيِّ شيء خررتُ عن سريري؟ قالت: كان ذلك لشيء لا أدري ما هو. فسأل جنودها، فقالوا مثل قولها، فسأل جنوده من الإنس والجن والطير وكل شيء كان حضره من جنوده، فقالوا: ما سألتْكَ -يا رسول الله- عن شيءٍ إلا عن ماء رواء. قال: وقد كان. قال له الرسول: يقول الله لك: ارجع، عد إلى مكانك، فإني قد كفيتكم. فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحًا تدخل عليَّ فيه بلقيس. فرجع الشياطين بعضهم إلى بعض، فقالوا: سليمان رسول الله، قد سخر الله [له] ما سخر، وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلامًا، فلا ننفكُّ له من العبودية أبدًا. قال: وكانت امرأة شعراء الساقين، فقالت الشياطين: ابنوا له بنيانًا يرى ذلك منها فلا يتزوجها. فبنوا له صرحًا مِن قوارير، فجعلوا له طَوابِيق
(1)
من قوارير كأنه الماء، وجعلوا من باطن الطَّوابِيق كل شيء يكون مِن الدواب في البحر، من السمك وغيره، ثم أطبقوه، ثم قالوا لسليمان: ادخل الصرح. فألقي كرسيٌّ في أقصى الصرح، فلما دخله أتى الكرسي، فصعد عليه، ثم قال: أدخِلوا عَلَيَّ بلقيس. فقيل لها: {ادخلي الصرح} . فلما ذهبت تدخله، فرأت صورة السمك، وما يكون في الماء من الدواب؛ {حسبته لجة وكشفت عن ساقيها} لتدخل، وكان شعر ساقها ملتويًا على ساقيها، فلما رآه سليمانُ ناداها، وصرف وجهه عنها:{إنه صرح ممرد من قوارير} . فألقت ثوبها، وقالت:{رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} . فدعا سليمانُ الإنس، فقال: ما أقبح هذا؟! ما يُذْهِب هذا؟ قالوا: يا رسول الله، المواسي. فقال: الموسى تقطع ساقي المرأة. ثم دعا الشياطين، فقال مثل ذلك، فتلكؤوا عليه، ثم جعلوا له النورة.
قال ابن عباس: فإنّه لأول يوم رُؤِيَت فيه النورة. قال: واستنكحها سليمان عليه السلام
(2)
[4884]. (11/ 377)
[4884] ذكر ابنُ عطية (6/ 540) عن مجاهد نحو ما جاء في هذا القول من أنّه كان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَن معها حين نظر إلى الغبار كما بين الكوفة والحيرة. وذكر قولًا آخر، فقال:«وحكى الرماني: أنّ العرش حُمِل من مأرب إلى الشام في قدر رجع البصر» . ثم علّق عليه بقوله: «وهي مسيرة شهرين للمُجِدِّ» . ثم علّق على قول مجاهد بقوله: «وقول مجاهد: أشهر» .
وعلّق ابنُ كثير (10/ 413) بعد أن نقل قول ابن أبي شيبة في هذا الأثر: «ما أحسنه من حديث» ؛ فقال: «بل هو منكر غريب جدًّا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما يوجد في صحفهم، كروايات كعب ووهب -سامحهما الله تعالى -فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ» .
وذكر ابنُ عطية أنه رُوي: أنّ الجن كانت تخبر سليمان بمناقل سيرها، فلما قربت قال:{أيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها} .
_________
(1)
طوابيق: جمع طابِق: وهو العظيم من الزُّجاج واللَّبِن، تعريب تابه. المُغرِب للمطرّزي (طبق).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة -كما في تفسير ابن كثير 6/ 205 - 206 - ، وابن أبي حاتم 9/ 2896 - 2897. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
57533 -
عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد -من طريق حصين- قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يسير وضع كرسيه، فيأتي مَن أراد مِن الجن والإنس، ثم يأمر الريح فتحملهم، ثم يأمر الطير فتظلهم، فبينا هو يسير إذ عطشوا، فقال: ما ترون بعد الماء؟ قالوا: لا ندري. فتفقد الهدهد، وكان له منه منزلة ليس بها طير غيره، فقال:{ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا} . وكان عذابُه إذا عَذَّب الطير ينتفه، ثم يلقيه في الشمس، {أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين}. يعني: بعذر بَيِّن. فلما جاء الهدهد استقبلته الطير، فقالت له: قد أوعدك سليمان. فقال لهم الهدهد: هل استثنى؟ فقالوا له: نعم؛ قد قال: إلا أن يجيء بعذر بَيِّن. فجاء بخبر صاحبة سبأ، فكتب معه إليها:{بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين} . فأقبلت بلقيس، فلما كانت على قدر فرسخ قال سليمان:{أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} ؟ قال عفريت من الجن: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} . فقال سليمان: أريد أعجل مِن ذلك. فقال الذي عنده علم من الكتاب: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} . فأتى بالعرش في نفق في الأرض، يعني: سَرَب في الأرض، قال سليمان: غيِّروه. فلما جاءت قيل: {أهكذا عرشك} ؟ فاستنكرت السرعة، ورأت العرش، قالت:{كأنه هو} . قيل لها: {ادخلي الصرح} . فلما رأته حسبته لجة ماء، {وكشفت عن ساقيها} ، فإذا هي امرأة شعراء، فقال سليمان: ما يُذهِب هذا؟ فقال بعضُ الجن: أنا أذهب به. فصنعت له النورة، وكان أول ما صنعت النورة، وكان اسمها: بلقيس
(1)
. (11/ 383)
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 11/ 536 - 538، وابن أبي حاتم 9/ 2860، 2862، 2863، 2887، 2893. وعزاه السيوطي إلى الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير.
57534 -
قال وهب بن مُنَبِّه وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في سواعدهم أساوِر مِن ذهب، وفي أعناقهم أطْواقًا مِن ذهب، وفي آذانهم أقراطًا وشُنوفًا مُرَصَّعات بأنواع الجواهر، وألبست الجواري لباس الغلمان؛ الأقبية والمناطق، وحملت الجواري على خمسمائة رَمَكَة
(1)
، والغلمان على خمسمائة بِرْذَون، على كل فرس لِجام مِن ذهب مُرَصَّع بالجواهر وغواشيها مِن الديباج الملون، وبعثت إليه خمسمائة لَبِنة مِن ذهب وخمسمائة لبنة مِن فضة، وتاجًا مُكَلَّلًا بالدُّرِّ والياقوت المرتفع، وأرسلت إليه المِسْكَ والعنبر والعود الألنجوج، وعمدت إلى حُقَّةٍ فجعلت فيها دُرَّة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب، ودعت رجلًا مِن أشراف قومها يُقال له: المنذر بن عمرو، وضمَّت إليه رجالًا مِن قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معه كتابًا بنسخة الهدية، وقالت فيه: إن كنت نبيًّا فمَيِّز بين الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرَّ ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الخرزة المثقوبة مِن غير علاج إنس ولا جن. وأمرت بلقيس الغلمان، فقالت: إذا كلَّمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء. وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه؛ فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملِك، ولا يَهُولَنَّك منظره، فإنّا أعزُّ منه، وإن رأيت الرجل بشاشًا لطيفًا فاعلم أنه نبيٌّ مُرسَل فتفَهَّم قوله، ورُدَّ الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعًا إلى سليمان، فأخبره الخبر كله، فأمر سليمان الجنَّ أن يضربوا لَبِنات الذهب ولَبِنات الفضة، ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا مِن موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا واحدًا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطًا، شُرَفُها
(2)
مِن الذهب والفضة، ثم قال: أي الدواب أحسن مِمّا رأيتم في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله، إنا رأينا دوابًّا في بحر كذا وكذا منطقة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصٍ. فقال: عليَّ بها الساعةَ. فأتوا بها، فقال: شدُّوها عن يمين الميدان وعن يساره، على لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفتها فيها. ثم قال للجن: عَلَيَّ بأولادكم. فاجتمع خلق كثير، فأقامهم
(1)
الرَّمَكَة: هي الفرس وأنثى البِرْذَوْن التي تُتَّخذ للنّسل. اللسان (رمك).
(2)
شُرَفُها: جمع شُّرْفة: وهي ما يُوضَع على أعالي القصور والمدن. لسان العرب (شرف).
على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووُضِع له أربعةُ آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يَصْطَفُّوا صفوفًا فراسخ، وأمر الإنس فاصْطَفُّوا فراسخ، وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصْطَفُّوا فراسخ عن يمينه وعن يساره. فلمّا دنا القومُ مِن الميدان، ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تَروثُ على لبن الذهب والفضة؛ تقاصرت أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات: أنّ سليمان لَمّا أمر بفرش الميدان بلبِنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعًا على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا، وكل الأرض مفروشة؛ خافوا أن يُتَّهموا بذلك، فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب، ففزعوا، فقالت لهم الشياطين: جُوزوا، فلا بأس عليكم. فكانوا يمرون على كُرْدُوس
(1)
كُرْدُوس من الجن والإنس والطير والهوام والسباع والوحوش، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرًا حسنًا بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له، وأعطاه كتاب الملِكة، فنظر فيه، ثم قال: أين الحُقَّة؟ فأتى بها، فحركها، وجاء جبريل فأخبره بما في الحُقَّة، فقال: إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب. فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة. فقال سليمان: مَن لي بثقبها. فسأل سليمان الإنس ثم الجن، فلم يكن عندهم عِلْمُ ذلك، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نرسل إلى الأرَضة. فجاءت الأرضة، فأخذت شعرة في فيها، فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تصير رزقي في الشجرة. فقال: لكِ ذلك. ورُوي: أنّه جاءت دودة تكون في الصَّفْصاف
(2)
، فقالت: أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رِزقي في الصفصاف. فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها، ودخلت الثقب، وخرجت من الجانب الآخر. ثم قال: مَن لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها، يا رسول الله. فأخذت الدودةُ الخيطَ في فيها، ودخلت الثقب حتى خرجت مِن الجانب الآخر، فقال سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تجعل رزقي في الفواكه.
(1)
الكُرْدوس: الخَيْل العَظيمة. اللسان (كردس).
(2)
الصَّفْصاف: شَجَر عِظام، يكثر في أرض العرب، وأصنافه كثيرة، ويُسمّى: الخِلاف والسَّوْجر. اللسان (خلف).