الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الإجارة
769 - موافقة الإجارة للقياس:
770 -
وإجارة الظئر:
771 -
وإجارة الحيوان لأخذ لبنه:
- قال ابن القيم: (وأما الإجارة: فالذين قالوا هي على خلاف القياس= قالوا: هي بيع معدوم، لأن المنافع معدومة حين العقد، ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظئر للرضاع، بقوله:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] قالوا: إنها على خلاف القياس من وجهين:
أحدهما: كونها إجارة. والثاني: أن الإجارة عقد على المنافع، وهذه عقد على الأعيان.
ومن العجب: أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه، وقالوا: هي على خلاف القياس، والحكم إنما يكون على خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه بنقيض ذلك الحكم، فيقال: هذا خلاف قياس ذلك النص، وليس في القرآن ولا في السنة ذكر فساد إجارة شبه هذه الإجارة، ومنشأ وهمهم ظنهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض قائمة بغيرها، لا أعيان قائمة بنفسها.
ثم افترق هؤلاء فرقتين:
فقالت فرقة: إنما احتملناها على خلاف القياس، لورود النص، فلا نتعدى محله.
وقالت فرقة: بل نخرجها على ما يوافق القياس، وهو كون المعقود عليه أمرا غير اللبن، بل هو إلقام الصبي الثدي، ووضعه في حجر المرضعة، ونحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع، واللبن يدخل تبعا، غير مقصود بالعقد.
ثم طردوا ذلك: في مثل ماء البئر والعيون، التي في الأرض المستأجرة، وقالوا: يدخل ضمنا وتبعا، فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر، لسقي الزرع والبستان، قالوا: إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاء الدلو في البئر وإخراجه، وعلى مجرد إجراء العين في أرضه، مما هو قلب الحقائق، وجعل المقصود وسيلة، والوسيلة مقصودة، إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة، وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة، ولا معقودا عليها، ولا قيمة لها أصلًا، وإنما هي كفتح الباب، وكقود الدابة لمن اكترى دارا أو دابة.
ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين: على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس، وعلى أصل من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس، فنقول وبالله التوفيق:
أما الأصل الأول، فقولهم: إن الإجارة بيع معدوم، وبيع المعدوم باطل، دليل مبني على مقدمتين مجملتين غير مفصلتين، قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب:
فأما المقدمة الأولى، وهي كون الإجارة بيعا: إن أردتم به البيع الخاص، الذي يكون العقد فيه على الأعيان لا على المنافع= فهو باطل، وإن أردتم به: البيع العام، الذي هو معاوضة ــ إما على عين، وإما على منفعة ــ
فالمقدمة الثانية باطلة، فإن بيع المعدوم ينقسم إلى: بيع الأعيان، وبيع المنافع، ومن سلم بطلان بيع المعدوم فإنما يسلمه في الأعيان.
ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في الإجارة: هل تنعقد بلفظ البيع؟ على وجهين.
والتحقيق: أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما، وهذا حكم شامل لجميع العقود، فإن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا، بل ذكرها مطلقة، فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية، فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأحرى، ولا فرق بين النكاح وغيره، وهذا قول جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب أحمد.
قال شيخنا: بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول، وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه، وأما قدماء أصحاب أحمد: فلم يشترط أحد منهم ذلك، وقد نص أحمد على أنه إذا قال: أعتقت أمتي، وجعلت عتقها صداقها= أنه ينعقد النكاح.
قال ابن عقيل: وهذا يدل، على أنه لا يختص النكاح بلفظ.
وأما ابن حامد: فطرد أصله، وقال: لا ينعقد، حتى يقول مع ذلك: تزوجتها.
وأما القاضي: فجعل هذا موضع استحسان خارجا عن القياس، فجوز النكاح في هذه الصورة خاصة، بدون لفظ الإنكاح والتزويج.
وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا، فإن من أصوله: أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها، من قول أو فعل، ولا يرى اختصاصها بالصيغ.
ومن أصوله: أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح، كما قاله في الطلاق والقذف وغيرهما.
والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج، قالوا: ما عداهما كناية، فلا يثبت حكمها إلا بالنية، وهي أمر باطن، لا اطلاع للشاهد عليه، إذ الشهادة إنما تقع على المسموع، لا على المقاصد والنيات، وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع، وفي عرف المتعاقدين، والمقدمتان غير معلومتين.
أما الأولى: فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح، فقال:«ملكتكها بما معك من القرآن» وأعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج، وأباح الله ورسوله النكاح، ورد فيه الأمة إلى ما تتعارفه نكاحا، بأي لفظ كان، ومعلوم: أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيم شرعي، فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلًا، فما هو الضابط لذلك؟
وأما المقدمة الثانية: فكون اللفظ صريحًا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم والمخاطب، والزمان والمكان، فكم من لفظ صريح عند قوم، وليس بصريح عند آخرين، وفي مكان دون مكان، وزمان دون زمان، فلا يلزم من كونه صريحا في خطاب الشارع أن يكون صريحا عند كل متكلم، وهذا ظاهر.
والمقصود أن قوله: إن الإجارة نوع من البيع= إن أراد به البيع الخاص فباطل، وإن أراد به البيع العام فصحيح، ولكن قوله: إن هذا البيع لا يرد على معدوم= دعوى باطلة، فإن الشارع جوز المعاوضة العامة على المعدوم، فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان= فهذا قياس في غاية الفساد، فإن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها البتة، بخلاف الأعيان، وقد فرق بينهما الحس والشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر: أن يؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق، كما نهى عن بيع السنين، وحبل الحبلة، والثمر قبل أن يبدو صلاحه، والحب حتى يشتد، ونهى عن الملاقيح والمضامين ونحو ذلك، وهذا يمتنع مثله في المنافع، فإنه لا يمكن أن تباع، إلا في حال عدمها، فههنا أمران:
أحدهما: يمكن إيراد العقد عليه في حال وجوده، وحال عدمه، فنهى الشارع عن بيعه حتى يوجد، وجوز منه بيع ما لم يوجد تبعا لما وجد إذا دعت الحاجة إليه، وبدون الحاجة لم يجوزه.
والثاني: ما لا يمكن إيراد العقد عليه، إلا في حال عدمه كالمنافع، فهذا جوز العقد عليه، ولم يمنع منه.
فإن قلت: أنا أقيس أحد النوعين على الآخر، وأجعل العلة مجرد كونه معدومًا.
قيل: هذا قياس فاسد، لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين، وقولك: إن العلة مجرد كونه معدوما= دعوى بغير دليل، بل دعوى باطلة، فلم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدوما، يمكن تأخير بيعه إلى زمن
وجوده؟ وعلى هذا التقدير: فالعلة مقيدة بعدم خاص، وأنت لم تبين أن العلة في الأصل مجرد كونه معدوما، فقياسك فاسد، وهذا كاف في بيان فساده بالمطالبة، ونحن نبين بطلانه في نفسه، فنقول: ما ذكرناه علة مطردة، وما ذكرته علة منتقضة، فإنك إذا عللت بمجرد العدم، ورد عليك النقض بالمنافع كلها، وبكثير من الأعيان، وما عللنا به لا ينتقض، وأيضا فالقياس المحض وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها= تشهد لهذه العلة، فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار، وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم المنع، حيث قال:«أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ ! » .
وأما ما ليس له إلا حال واحد، والغالب فيه السلامة= فليس العقد عليه مخاطرة ولا قمارا، وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه، ومن أصول الشريعة: أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما، والغرر إنما نهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ضرر المخاطرة، فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما، بل قاعدة الشريعة ضد ذلك، وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما، ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة= أباحها لهم في العرايا للحاجة، لأن ضرر المنع من ذلك أشد من ضرر المزابنة، ولما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم للضرورة، ولما حرم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعو إليه الحاجة للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب.
فإن قلت: فهذا كله على خلاف القياس.
قيل: إن أردت أن الفرع اختص بوصف يوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد، وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضى والمانع واختلف حكمهما= فهذا باطل قطعا، ليس في الشريعة منه مسألة واحدة، والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف= كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع، وهذا هو القياس الصحيح، طردا وعكسا، وهو التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وأما التسوية بينهما في الحكم، مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم، أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد، الذي جاء الشرع دائما بإبطاله، كما أبطل قياس الربا على البيع، وقياس الميتة على المذكى، وقياس المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام على الأصنام، وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته، فكيف يعذبه بعبادة غيره له، مع نهيه عن ذلك، وعدم رضاه به؟ بخلاف الأصنام.
فمن قال: إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس= فقد أصاب، وهو من كمالها واشتمالها على العدل والمصلحة والحكمة، ومن سوى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود! وهذا من أعظم الغلط والقياس الفاسد، الذي ذمه السلف، وقالوا: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، وهو القياس الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه، حيث قالوا:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 ــ 98]، وذم الله أهله بقوله:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أي يقيسونه على غيره، ويسوون بينه وبين غيره في
الإلهية والعبودية، وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل: فأصلها من القياس الفاسد، فما أنكرت الجهمية صفات الرب وأفعاله، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وكلامه وتكليمه لعباده، ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد، وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته، وجعلت في ملكه ما لا يشاء، وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد، وما ضلت الرافضة، وعادوا خيار الخلق، وكفروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وسبوهم إلا بالقياس الفاسد، وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام، وانشقاق السموات، وطي الدنيا، وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد، وما فسد ما فسد من أمر العالم، وخرب ما خرب منه إلا بالقياس الفاسد، وأول ذنب عصي الله به القياس الفاسد، وهو الذي جر على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جر، فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد، وهذه حكمة، لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع، وله فقه في الشرع والقدر.
فصل
وأما المقدمة الثانية، وهي: أن بيع المعدوم لا يجوز، فالكلام عليها من وجهين:
أحدهما: منع صحة هذه المقدمة، إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أحد من الصحابة: أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة: النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع: لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة: النهي عن بيع
الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا، أو معدومًا كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجودا، إذ موجب البيع تسليم المبيع، فإذا كان البائع عاجزا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة= فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته، وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله.
ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا يقدر على تسليمها، سواء كانت موجودة أو معدومة، وكذلك في النكاح إذا زوجه أمة لا يملكها، أو ابنة لم تولد له، وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرع محض، فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه إليه، وما لا يقدر، وطرده الهبة، إذ لا محذور في ذلك فيها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول، في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له، فقال:«أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك» .
الوجه الثاني: أن نقول: بل الشرع صحَّح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح، ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصلاح بشرط القطع كالحصرم: جاز، فإنما نهى عن بيعه إذا كان قصده التبقية إلى الصلاح، ومن جوَّز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط
القطع أو مطلقا، وجعل موجب العقد القطع، وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقًا= لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة، ولم يكن فرق بين ما نهي عنه من ذلك وما أذن فيه، فإنه يقول: موجب العقد التسليم في الحال، فلا يجوز شرط تأخيره، سواء بدا صلاحه أو لم يبد.
والصواب: قول الجمهور، الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقياس الصحيح.
وقوله: إن موجب العقد التسليم في الحال= جوابه: أن موجب العقد: إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد، أو ما أوجبه المتعاقدان، مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتف في هذه الدعوى، فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد، ولا العاقدان التزاما ذلك.
بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير: إما في الثمن، وإما في المثمن، وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع، كما كان لجابر رضي الله عنه غرض صحيح، في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة، فكيف يمنعه الشارع ما فيه مصلحة له، ولا ضرر على الآخر فيها؟ إذ قد رضي بها كما رضي صلى الله عليه وسلم على جابر بتأخير تسليم البعير، ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه.
ويجوز لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيع ما له فيه غرض صحيح، كما إذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة، أو دابة واستثنى ظهرها، ولا يختص ذلك بالبيع، بل لو وهبه واستثنى نفعه مدة، أو أعتق عبده واستثنى خدمته مدة، أو وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته، أو كاتب أمة واستثنى وطأها مدة الكتابة، ونحوه.
وهذا كله منصوص أحمد، وبعض أصحابه يقول: إذا استثنى منفعة المبيع فلا بد أن يسلم العين إلى المشتري، ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناء على هذا الأصل الذي قد تبين فساده، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد.
وعن هذا الأصل قالوا: لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد، وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجرة: فمنهم من أبطل البيع، لكون المنفعة لا تدخل في البيع، فلا يحصل التسليم، ومنهم من قال: هذا مستثنى بالشرع، بخلاف المستثنى بالشرط، وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة، وإن كانت منفعة البضع للزوج، ولم تدخل في البيع، واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه، كما إذا باع مخزنا له فيه متاع كثير، لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة واحدة، بل قالوا: هذا مستثنى بالعرف، فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم، فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف، كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع، فإنه يثبت بالشرط مالا يثبت بالشرع، كما أن الواجب بالنذر أوسع من الواجب بالشرع.
وأيضًا، فقولكم: إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه= أتعنون أن هذا موجب العقد المطلق، أو مطلق العقد؟ فإن أردتم الأول: فصحيح، وإن أردتم الثاني: فممنوع، فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد، وموجب العقد المقيد ما قيد به، كما أن موجب العقد المقيد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشرط والرهن والضمين= هو ما قيد به، وإن كان موجبه عند إطلاقه خلاف ذلك، فموجب العقد المطلق شيء، وموجب العقد المقيد شيء.
والقبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم جوز بيع الثمرة بعد بدو الصلاح مستحقة الإبقاء إلى كمال الصلاح، ولم يجعل موجب العقد القبض في الحال، بل القبض المعتاد عند انتهاء صلاحها، ودخل فيما أذن فيه: بيع ما هو معدوم لم يخلق بعد، وقبض ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة، وهو قبض يبيح التصرف في أصح القولين، وإن كان قبضًا لا يوجب انتقال الضمان، بل إذا تلف المبيع قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع، كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث ــ أهل بلدته وأهل سنتَه.
وهو مذهب الشافعي قطعا، فإنه علق القول به على صحة الحديث، وقد صح صحة لا ريب فيها، من غير الطريق التي توقف الشافعي فيها، فلا يسوغ أن يقال: مذهبه عدم وضع الجوائح، وقد قال: إن صح الحديث قلت به، ورواه من طريق توقف في صحتها، ولم تبلغه الطريق الأخرى التي لا علة لها، ولا مطعن فيها.
وليس مع المنازع دليل شرعي يدل على أن كل قبض جوز التصرف ينقل الضمان، وما لم يجوز التصرف لا ينقل الضمان، فقبض العين المؤجرة يجوز التصرف، ولا ينقل الضمان، وقبض العين المستامة والمستعارة والمغصوبة يوجب الضمان، ولا يجوز التصرف.
فصل
ومن هذا الباب: بيع المقاثي والمباطخ والباذنجان، فمن منع بيعه إلا لقطة لقطة، قال: لأنه معدوم، فهو كبيع الثمرة قبل ظهورها، ومن جوّزه كأهل المدينة وبعض أصحاب أحمد، فقولهم أصح، فإنه لا يمكن بيعها إلا
على هذا الوجه، ولا تتميز اللقطة المبيعة عن غيرها، ولا تقوم المصلحة ببيعها كذلك، ولو كلف الناس به لكان أشق شيء عليهم، وأعظمه ضررا، والشريعة لا تأتي به، وقد تقدم أن ما لا يباع إلا على وجه واحد لا ينهى الشارع عن بيعه، وإنما نهى الشارع عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لإمكان تأخير بيعها إلى وقت بدو الصلاح.
ونظير ما نهى عنه وأذن فيه، سوى بيع المقاثي إذا بدا الصلاح فيها، ودخول الأجزاء والأعيان التي لم تخلق بعد كدخول أجزاء الثمار، وما يتلاحق في الشجر منها، ولا فرق بينهما البتة.
فصل
وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي، بل دل على خلافه ــ وهو: بيع المعدوم ــ= ضمان الحدائق والبساتين، وقالوا: هو بيع للثمر قبل ظهوره، أو قبل بدو صلاحه، ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه، وليس مع المانعين كما ظنوه، فلا النص يتناوله ولا معناه، ولم تجمع الأمة على بطلانه، فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع، ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة:
أما الإجماع: فقد صحَّ عن عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وتسلف الضمان، فقضى به دينا كان على أسيد، وهذا بمشهد من الصحابة، ولم ينكره منهم رجل واحد، ومن جعل مثل هذا إجماعا، فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك، وأقل درجاته: أن يكون قول صحابي، بل: قول الخليفة الراشد، ولم ينكره منهم منكر، وهذا حجة عند جمهور العلماء.
وقد جوَّز بعض أصحاب أحمد ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة، إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى، واختاره ابن عقيل.
وجوَّز بعضهم ضمان الأشجار مطلقًا، مع الأرض وبدونها، واختاره شيخنا، وأفرد فيه مصنفًا.
ففي مذهب أحمد ثلاثة أقوال، وجوَّز مالك ذلك، تبعًا للأرض في قدر الثلث.
قال شيخنا: والصواب ما فعله عمر رضي الله عنه، فإن الفرق بين البيع والضمان، هو الفرق بين البيع والإجارة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد، ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة، مع أن المستأجر مقصوده الحب بعمله، فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها، وهو نظير مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه، والحب نظير الثمر، والشجر نظير الأرض، والعمل نظير العمل، فما الذي حرم هذا وأحل هذا؟
وهذا بخلاف المشتري، فإنه يشتري ثمرا، وعلى البائع مؤونة الخدمة والسقي والقيام على الشجر، فهو بمنزلة الذي يشتري الحب وعلى البائع مؤونة الزرع والقيام عليه.
فقد ظهر انتفاء القياس والنص، كما ظهر انتفاء الإجماع، بل القياس الصحيح مع المجوزين، كما معهم الإجماع القديم.
فإن قيل: فالثمر أعيان، وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع.
قيل: الأعيان هنا حصلت بعمله في الأصل المستأجر، كما حصل الحب بعمله في الأرض المستأجرة.
فإن قيل: الفرق أن الحب حصل من بذره، والثمر حصل من شجر المؤجر.
قيل: لا أثر لهذا الفرق في الشرع، بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة، فسوى بينهما، والمساقي يستحق جزءا من الثمرة الناشئة من أصل الملك، والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت في أرض المالك، وإن كان البذر منه، كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة وإجماع الصحابة.
فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة، التي يكون النماء فيها مشتركا لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى، لأن إجارة الأرض لم يختلف فيها كالاختلاف في المزارعة، فإذا كانت إجارتها عندكم أجوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها، فهذا محض القياس، وعمل الصحابة، ومصلحة الأمة. وبالله التوفيق.
والذين منعوا ذلك وحرموه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعًا وعقلًا، فإنهم يؤجرونه الأرض، وليست مقصودة له البتة، ويساقونه على الشجر من ألف جزء، على جزء مساقاة غير مقصودة، وإجارة غير مقصودة، فجعلوا ما لم يقصد مقصودا، وما قصد غير مقصود! وحابوا في المساقاة أعظم محاباة، وذلك حرام باطل في الوقف وبستان المولى عليه من يتيم أو سفيه أو مجنون، ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تسوغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة، ولا يسوغ اشتراط أحد العقدين في الآخر، بل كل عقد مستقل بحكمه، فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه؟ وأين القياس من القياس؟ والفقه من الفقه؟ فبينهما في الصحة بعد ما بين المشرقين.
فصل
فهذا الكلام على المقام الأول، وهو: كون الإجارة على خلاف القياس، وقد تبين بطلانه.
وأما المقام الثاني، وهو: أن الإجارة التي أذن الله فيها في كتابه، وهي إجارة الظئر على خلاف القياس، فبناء منهم على هذا الأصل الفاسد، وهو: أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان، وهذا الأصل: لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، بل الذي دلت عليه الأصول: أن الأعيان التي تحدث شيئًا فشيئًا، مع بقاء أصلها= حكمها حكم المنافع، كالثمر في الشجر، واللبن في الحيوان، والماء في البئر، ولهذا سوى بين النوعين في الوقف، فإن الوقف: تحبيس الأصل، وتسبيل الفائدة، فكما يجوز أن تكون فائدة الوقف منفعة كالسكنى، وأن تكون ثمرة، وأن تكون لبنا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها.
وكذلك في باب التبرعات: كالعارية، لمن ينتفع بالمتاع، ثم يرده، والعرية: لمن يأكل ثمر الشجرة، ثم يردها، والمنيحة: لمن يشرب لبن الشاة، ثم يردها، والقرض: لمن ينتفع بالدراهم، ثم يرد بدلها القائم مقام عينها.
فكذلك في الإجارة: تارة يكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانا، وتارة للعين التي تحدث شيئًا من بعد شيء مع بقاء الأصل، كلبن الظئر، ونقع البئر، فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئا بعد شيء، مع بقاء الأصل= كانت كالمنفعة، والمسوغ هو: ما بينهما من القدر المشترك، وهو حدوث المقصود بالعقد شيئًا فشيئًا، سواء كان الحادث عينًا أو منفعة، وكونه جسما أو معنى قائما بالجسم لا أثر له في الجواز والمنع، مع اشتراكهما في
المقتضي للجواز، بل هذا النوع من الأعيان الحادثة شيئا فشيئا أحق بالجواز، فإن الأجسام أكمل من صفاتها.
وطرد هذا القياس: جواز إجارة الحيوان ــ غير الآدمي ــ لرضاعه، فإن الحاجة تدعو إليه، كما تدعو إليه في الظئر من الآدميين بطعامها وكسوتها، ويجوز استئجار الظئر من البهائم بعلفها، والماشية إذا عاوض على لبنها فهو نوعان:
أحدهما: أن يشترى اللبن مدة، ويكون العلف والخدمة على البائع= فهذا بيع محض.
والثاني: أن يسلمها، ويكون علفها وخدمتها عليه، ولبنها له مدة الإجارة= فهذا إجارة، وهو كضمان البستان سواء، وكالظئر، فإن اللبن يستوفى شيئًا فشيئًا مع بقاء الأصل، فهو كاستئجار العين، ليسقي بها أرضه، وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدة للبنه، ثم من أصحابه من جوز ذلك تبعا لنصه، ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطًا ضيقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه.
والصواب: الجواز، وهو موجب القياس المحض، فالمجوزون أسعد بالنص من المانعين، وبالله التوفيق) [إعلام الموقعين 2/ 22 - 34]
(1)
.
- وقال أيضًا: (وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا، إلا إجارة الظئر، بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ
(1)
هذا النص ضمن الجواب الذي سبقت الإشارة إليه (ص 58 - 58)، وهو في «الفتاوى» (20/ 531 - 552) مع إضافات كثيرة هنا، ويسيرة هناك.