الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقول المروي عن السلف هو: أنها بمعنى كيف، وقال به منهم ابن عباس وأبو مالك غزوان الغفاري.
(1)
ومن المفسرين:
الزَّمخشري، وأبو حيَّان، وابن كثير.
(2)
وبعد هذا العرض السريع للوجوه ولمن قال بها أو قال بغيرها في ذات الآيات يجدر التنبيه إلى أمور:
أن (أنى) عند أهل اللغة لا تخرج عن معان ثلاثة هي: كيف، ومن أين، ومتى.
قال الخليل: «أنى، كيف ومن أين، أنى شئت، كيف شئت، ومن أين شئت،
قال الكميت:
أنى ومن أين آبك الطَّرب
وقوله جل وعز: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37].
أي من أين لك هذا؟»
(3)
.
وقال أبو البقاء محب الدين بن الحسين العكبري: «وأنى تكون بمعنى متى، وكيف، ومن أين؛ فمن الأول قوله تعالى:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].
ومن الثاني، قوله تعالى:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. ومن الثالث قوله:
{يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]»
(4)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 6/ 1783.
(2)
الكشاف 2/ 252. البحر المحيط 5/ 403. تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 375.
(3)
العين ص 42.
(4)
اللباب في علل البناء والإعراب 2/ 130. وينظر: تهذيب اللغة 8/ 396، وحروف المعاني للزجاجي ص 61، ولسان العرب (أنى) في آخر الكتاب مع الحروف اللينة.
والعكبري: عبدالله بن الحسين بن عبدالله بن الحسين العكبري أبو البقاء النحوي الضرير من أهل باب الأزج وأصله من عكبرا، قرأ النحو واللغة والأصول والحساب والخلاف والفرائض، أديب ذو معرفة بعلوم القرآن والجبر والمقابلة وغوامض العربية، أضر في صباه بالجدري وهو حافظ وله مصنفات منها (إعراب القرآن) ولد سنة 538 وتوفي سنة 616 هـ (سير أعلام النبلاء 22/ 91. البلغة ص 122).
ولم يسلم هذا القول من التعقب، وإيراد معنىً يختص بأنى دون غيرها؛ ومن أوائل من رفع ذلك الشعار وانتصر له أشد الانتصار الإمام أبو جعفر الطبري حيث إنه جمع عامة آيات الباب في تحرير بديع، ووقوف متأمل على الاضطراب في معنى (أنى)، وذكر أن معناها أعم وأشمل من خصوصية كيف أو متى أو من أين فقال: «والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: معنى قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. من أي وجه شئتم، وذلك أن (أنى) في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه، والمذاهب، فكأن القائل إذا قال لرجل أنى لك هذا المال؟ يريد من أي الوجوه لك، ولذلك يجيب المجيب فيه، بأن يقول: من كذا وكذا كما قال تعالى ذكره مخبرا عن زكريا في مسألته مريم: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37].وهي مقاربة أين وكيف في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها فأشكلت (أنى) على سامعها، ومتأولها، حتى تأولها بعضهم بمعنى أين، وبعضهم بمعنى كيف، وآخرون بمعنى متى، وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات، وذلك أن أين إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال، وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها، ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال: أين مالك؟. لقال بمكان كذا، ولو قال له أين أخوك؟ لكان الجواب أن يقول: ببلدة كذا، أو بموضع كذا؛ فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله فيعلم أن أين مسألة عن المحل. ولو قال قائل لآخر: كيف أنت؟ لقال صالح، أو بخير، أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها؛ فيعلم حينئذ أن كيف مسألة عن حال المسؤول عن حاله. ولو قال له أنى يحيي الله هذا الميت؟ لكان الجواب أن يقال: من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولا نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]. فعلاً حين بعثه من بعد مماته، وقد فرقت الشعراء بين ذلك في أشعارها فقال الكميت بن زيد:
تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى ومن أَيْنَ شُرْبُه
…
يُؤامِرُ نَفْسَيْه كذي الهَجْمة الأَبِل
(1)
وقال أيضاً:
أنى ومن أين نابك الطرب
…
من حيث لا صبوة ولا ريب
(1)
لسان العرب، مادة (أبل).
فيجاء بـ (أنى) للمسألة عن الوجه، وبـ (أين) للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع راجعك الطرب؟ والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]: كيف شئتم أو تأوله بمعنى حيث شئتم أو بمعنى متى شئتم أو بمعنى أين شئتم؛ أن قائلا لو قال لآخر أنى تأتي أهلك لكان الجواب أن يقول من قبلها أو من دبرها كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت أنى لك هذا أنها قالت هو من عند الله، وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. إنما هو فأتوا حرثكم من حيث شئتم، من وجوه المأتي وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل»
(1)
.
وأيد مذهب أبي جعفر الطبري في معنى (أنى) أبو جعفر النَّحاس فقال في تفسير قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]، قال أبو عبيدة: المعنى من أين لك هذا؟
(2)
، وهذا القول فيه تساهل لأن (أين) سؤال عن المواضع، وأنى سؤال عن المذاهب والجهات، والمعنى: من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا؟».
(3)
وقرر ابن عطية هذا القول وأشار إلى أنه هو الاستعمال العربي، فقال:(أنى) إنما تجئ سؤالاً، أو إخباراً عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي، وقد فسر الناس (أنى) في هذه الآية بهذه الألفاظ»
(4)
.
ونقل القرطبي كلام ابن عطية هذا بنصه
(5)
.
وبعد هذا العرض، وبما أن أقوال أهل اللغة متفقة مع أقوال السلف فهي أولى، وأقوال السلف حجة في التفسير واللغة، ويكون تفسيرهم ل (أنى) في جميع آيات الباب، تفسير للفظ بما يطابقه من اللغة، وما يناسبه من السياق، وأما قول ابن جرير ومن أيده وهو: أن أنى بمعنى من أي وجه،
(1)
جامع البيان 2/ 527.
(2)
مجاز القرآن 1/ 91. وأبو عبيدة: معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي البصري، النحوي اللغوي مولى بني عبيدالله بن معمر التيمي تيم بن مرة بن كعب، مات سنة 208 هـ وعمره 98. (معجم الأدباء 7/ 114 البلغة 224).
(3)
معاني القرآن للزجاج 1/ 389.
(4)
المحرر الوجيز 1/ 299.
(5)
الجامع لأحكام القرآن 3/ 62.
فكأنه تأويل عام لـ (أنى) مجردة، والسياق الذي هي فيه يحدد أي الجهات؛ فإن كان السياق في الزمن: فمعنى أنى: متى؟، وإن كان السياق في الأمكنة فتأويل أنى: من أين؟، وإن كان السياق في الأحوال فتأويل أنى: كيف؟، وبهذا يمكن الجمع بين القولين، وهورأي شيخ ابن الجوزي كما تقدم.
ففي الوجه الأول: أن (أنى): بمعنى (متى).
مثل ابن الجوزي لهذا الوجه بقوله تعالى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].
وتقدم ذكر من قال بالوجه ومن قال أن (أنى) بمعنى كيف، وعلى هذا فالوجه صحيح ومأخذه السياق القرآني.
الوجه الثاني: بمعنى (كيف).
ومثل ابن الجوزي لهذا الوجه بآيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفي هذه الآية تعددت أقوال السلف في تفسير (أنى) بين كيف، ومتى، ومن أين، ومهما تنوعت تفاسيرهم لها فإنهم يلتزمون باشتراط أن يكون الإتيان في مكان الحرث فيكون تفسيرهم لـ (أنى) من قبيل المشترك اللفظي.
الآية الثانية: قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ} [آل عمران: 47].
وتقدم ذكر من قال به من المفسرين.
وعليه فالوجه صحيح ومأخذه السياق القرآني.
الوجه الثالث: بمعنى (من أين).
ومثل ابن الجوزي لهذا الوجه بآيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37].
وتقدم ذكر من قال به من السلف والمفسرين.
الآية الثانية: قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [براءة: 30].
وتقدم ذكر من قال به المفسرين.