الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
التوصيف الفقهي لعقد الحوالة
قال القرافي: الحوالة تحويل الحق، وليس بتبديل
…
لأن تبديل الدين بالدين لا يجوز، ولأن اسم الحوالة من التحويل، لا من التبديل
(1)
.
[م-1100] اختلف الفقهاء في توصيف عقد الحوالة إلى ثلاثة أقوال:
منهم من يرى أنها من قبيل البيع، ومنهم من يرى أنها عقد إرفاق ومعونة، ومنهم من يرى أنها استيفاء. وإليك بيان الأقوال منسوبة إلى أصحابها.
القول الأول:
أن الحوالة عقد إرفاق ومعونة.
وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
أما الحنفية فهم يرون صحة الحوالة ولو كان المحال عليه ليس مدينًا للمحيل، وبهذا يعلم أن الحوالة عند الحنفية ليست معاوضة؛ إذ لو كانت بيعًا لم تصح على من لا دين عليه لعدم الاعتياض
(2)
.
بل صرح ابن الهمام في فتح القدير بأن الحوالة لا يقصد منها المعاوضة، فهي كالقرض
(3)
.
(1)
الذخيرة (9/ 249 - 250).
(2)
بدائع الصنائع (5/ 108).
(3)
فتح القدير (7/ 245).
وجاء في العناية شرح الهداية: «البيع معاوضة من كل وجه، والوصي يملكها إذا لم يكن فيها غبن فاحش، فأما الحوالة فليست كذلك لجوازها بالمسلم فيه، وبرأس مال السلم، ولو كانت معاوضة من كل وجه كان استبدالًا بالمسلم فيه، وبرأس المال، وهو لا يصح»
(1)
.
وأما المالكية فهم وإن صرح بعضهم بأن الحوالة من باب بيع الدين بالدين إلا أن هذا لا يعني أن الحوالة عندهم خرجت عن الإرفاق والإحسان.
فابن رشد الذي يقول في بداية المجتهد: «الحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين»
(2)
.
يقول في الكتاب نفسه: «وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط:
…
الثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر، والصفة؛ لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعًا، ولم يكن حوالة فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين»
(3)
.
فقوله: (كان بيعًا ولم يكن حوالة) صريح في التفريق بين البيع والحوالة.
وجاء في البهجة شرح التحفة: «قال عياض: الأمر فيها للندب عند أكثر شيوخنا، وحملها بعضهم على الإباحة لما أشبهت بيع الدين بالدين»
(4)
.
فقوله: لما أشبهت دليل على أنها تشبه الشيء وليست هي الشيء نفسه.
وقال فيها أيضًا: «وهي عند شيوخنا مستثناة من الدين بالدين
…
كما خصت
(1)
العناية شرح الهداية (10/ 509).
(2)
بداية المجتهد (2/ 224).
(3)
المرجع السابق (2/ 225).
(4)
البهجة شرح التحفة (2/ 55).
الشركة والتولية والإقالة من بيع الطعام قبل قبضه
…
لما كان سبيل هذه التخصيصات المعروف»
(1)
.
فهذا النص دليل على أن المالكية اعتبروها من باب بيع الدين بالدين في الصورة، وليس في الحقيقة، كما يقال عن عقد القرض إرفاق في الابتداء معاوضة في الانتهاء وإن كان هذا في الصورة فقط، وهذا ما اقتضاه نص البهجة لأمرين:
الأول: أنه جعل حكمها حكم التولية والإقالة في بيع الطعام قبل قبضه.
وقد ذهب مالك وربيعة، وطاووس
(2)
، إلى أن عقد التولية من عقود الإرفاق، ويقصد بها المعروف كالإقالة، ولهذا ذهب الإمام مالك إلى جواز بيع الطعام تولية قبل قبضه، مع أن المالكية يشددون في المنع من بيع الطعام قبل قبضه
(3)
.
واستدل المالكية على جواز بيع الطعام تولية قبل قبضه بأثر، ونظر
(ح-661) أما الأثر، ما رواه أبو داود في مراسيله، قال:
حدثنا محمد بن إبراهيم البزار، حدثنا منصور بن سلمة، حدثنا سليمان ابن بلال، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن.
قال سعيد بن المسيب في حديث يرفعه كأنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس بالتولية
(1)
المرجع السابق.
(2)
روى عبد الرزاق في المصنف (14257) قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: لا بأس بالتولية، إنما هو معروف. وإسناده صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة (4/ 384) حدثنا معتمر بن سليمان، عن معمر به.
(3)
المدونة (4/ 80)، بداية المجتهد (2/ 110)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 373)، المنتقى (4/ 169)، الفروق للقرافي (3/ 283).
في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بأس بالإقالة في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بأس بالشركة في الطعام قبل أن يستوفى
(1)
.
[مرسل]
(2)
.
وأما النظر، فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد:«إن هذه إنما يراد بها الرفق، لا المغابنة»
(3)
.
وإذا كان يراد بها الرفق خرجت عن البيع، وإذا كانت الحوالة مقيسة على التولية والإقالة كانت الحوالة يراد بها الرفق كذلك.
الثانية: أنه نص على أن سبيل الحوالة والتولية والإقالة المعروف، ومعلوم أن البيع ليس سبيله المعروف، وإنما يقوم على المكاسبة.
جاء في التاج والإكليل: «وهي في الحقيقة بيع دين بدين، فاستثنيت منه؛ لأنها معروف» .
فإذا كانت خرجت من بيع الدين بالدين؛ لأنها معروف فهي خرجت لمعنى، وهو كون العقد يراد به المعروف، والمعاوضة ليست من المعروف.
وكل ما قال المالكية بأن العقد يراد به المعروف فإنه لا يعتبر بيعًا عندهم.
يقول الباجي: «مقتضى البيع المغابنة، والمكايسة»
(4)
.
(1)
مراسيل أبي داود (198).
(2)
في إسناده محمد بن إبراهيم البزاز، قال فيه الحافظ: ثقة (إن كان ابن جناد) أو صدوق صاحب حديث يهم (إن كان أبا أمية) أو ثقة حافظ (إن كان مربعا)، كما أنه من المراسيل، وإن كانت مراسيل سعيد من أحسن المراسيل إلا أن المرسل ضعيف، ثم إنه مخالف للأحاديث الصحيحة التي تنهى عن بيع الطعام حتى يستوفى من دون استثناء للتولية، أو الشركة، أو غيرهما.
(3)
بداية المجتهد (2/ 110).
(4)
المنتقى للباجي (4/ 287 - 288).
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: «العقود تنقسم أولا إلى قسمين:
قسم يكون بمعاوضة.
وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات.
والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع، والاجارات، والمهور، والصلح، والمال المضمون بالتعدي وغيره.
والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض.
والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا.
أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة، والإقالة والتولية .... وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة.
فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة، أو التولية بزيادة، أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز (يعني التولية والشركة) قبل القبض وبعده ....
فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى، ثم ساق أثر سعيد بن المسيب المتقدم ذكره في باب التولية.
وأما من طريق المعنى، فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة، إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان»
(1)
.
(1)
بداية المجتهد (2/ 110).
فقول ابن رشد: «أحدها يختص بقصد المغابنة والمكايسة، وهي البيوع» دليل على أن البيع لا يقصد به الإرفاق والمعروف بخلاف الحوالة.
وأجاز المالكية الزيادة اليسيرة في مبادلة الدرهم والدنانير بمثلها إذا كان ذلك عن طريق العدد، فإذا عمل به على العدد جوز يسير الوزن زيادة على سبيل المعروف ما لم يكن في ذلك وجه من المكايسة والمغابنة، فيمنع منه
(1)
.
فظهر بذلك أن المالكية لا يرون أن عقد الحوالة بيع حقيقة، وإن كانت الحوالة في الصورة مبادلة دين بدين.
وإذا تحرر هذا من مذهب المالكية فإن القول بأن عقد الحوالة من عقود الإرفاق هو أحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة.
جاء في أسنى المطالب: «الحوالة ليست على حقيقة المعاوضات، وإنما هي معاوضة إرفاق جوزت للحاجة، فاعتبر فيها الإرفاق كما في القرض»
(2)
.
(3)
.
وقال ابن قدامة: «والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره؛ لأنها لو كانت بيعًا لما جازت، لكونها بيع دين بدين، ولما جاز التفرق
(1)
المنتقى للباجي (4/ 259).
(2)
أسنى المطالب (2/ 231).
(3)
الحاوي الكبير (6/ 420).