الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهمشوا هذا الصواب، وأصّلوا الخطأ!!
ومن تعالمهم وتظاهرهم بالعلم أنهم عزوا الحديث إلى ابن ماجه برقمه المتقدم مني؛ دون أن يرجعوا إلى ابن ماجه ليصححوا ما قد يكون من خطأ في " الترغيب " تأليفيّ أو طبعيّ، وهذه عادتهم الغالبة! لا يرجعون إلى الأصول، إلا لأخذ الأرقام وتزيين تعليقاتهم بها، شنشنة تعرفها من أخزم. فلو أنهم فعلوا، ورجعوا إلى ابن ماجه؛ لما أفسدوا الرواية، ولستروا جهلهم بالرجال وتراجمهم، ولاستدركوا اسم (عبد الله بن عمر) الذي سقط من مطبوعتهم!
ولكن إذا كانوا لم يرجعوا إلى الأصل؛ فكان يكفيهم ردعاً لهم عن الإفساد المذكور قول المنذري عقب الحديث:
" ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن عن عمران
…
" إلى آخر كلامه الذي حكى فيه اختلاف العلماء في سماع الحسن من بعض الصحابة.
نعم؛ لقد كان كافياً لردعهم عنه لو كانوا يقرؤون ولهم قلوب [بها] يفقهون؛ {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} .
6835
- (من بلغ الغازي إلى أهله، أو كتاب أهله إليه، كان له بكل حرف فيه عتق رقبة، وأعطاه الله كتابه بيمينه، وكتب له براءة من النار) .
منكر جداً.
أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان "(4/ 35 - 36/ 4279) من طريق الحاكم في "التاريخ " بإسناده عن إسماعيل بن أبي فديك عن الخليل ابن عبد الله عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل مرفوعاً.
وقال البيهقي:
" والخليل بن عبد الله مجهول، ومل الحديث منكر. والله أعلم ".
قلت: واستدركه السيوطي على " موضوعات " ابن الجوزي؛ فأورده في " ذيل الأحاديث الموضوعة"(ص 125) من طريق "تاريخ الحاكم"، ونقل كلام البيهقي المذكور، وأقره.
وتعقبه ابن عراق في " تنزيه الشريعة " بقوله (2/ 184) :
"قلت: لا يلزم من كون الحديث منكراً أن يكون موضوعاً، والشيخ جلال الدين نفسه (يعني: السيوطي) قد اعترض على ابن الجوزي مراراً بأن الحديث عند البيهقي، وأن البيهقي لم يخرج في كتبه حديثاً يعلمه موضوعاً، فكيف يدخل هذا الحديث في " الموضوعات "؟! والله أعلم ".
قلت: في هذا التعقب نظر من وجوه:
أولاً: ما ذكره من عدم اللزوم صحيح؛ إذا وقف الناقد في نقده عند ضعف السند أو الراوي فيه، وليس هذا من شأن العلماء والحفاظ والأئمة النقاد؛ كالإمام البخاري وأبي حاتم وابن حبان، والذهبي وابن عبد الهادي وابن القيم وشيخهما ابن تيمية والعسقلاني وغيرهم، فإنهم ينظرون إلى المتن أيضاً، ويحكمون عليه بالوضع، ولو لم يكن فيه كذاب أو وضاع؛ لمخالفته للشرع أو العقل، أو للواقع، أو لسماجة لفظية فيه، أو مبالغة ظاهرة، ونحو ذلك مما يلحظه أمثال الأئمة المذكورين، وحديثنا اليوم من هذا القبيل؛ فإن قوله فيه:
"
…
فإن له بكل حرف فيه عتق رقبة ".
فيه مبالغة ممجوجة باطلة ظاهرة؛ فإن القرآن كلام الله إذا قرأه المسلم - وليس
كتبه -؛ له بكل حرف [عشر] حسنات، فكيف يكون لمن بلغ كتاب الغازي إلى أهله له بكل حرف فيه عتق رقبة؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
ثانياً: قوله: " والشيخ (السيوطي) قد اعترض على ابن الجوزي
…
" إلخ.
فأقول: هذا صحيح؛ ولكن لا حجة فيه؛ لأن السيوطي رحمه الله متساهل في نقد الأحاديت، وكتابه " الجامع الصغير " الذي زعم في مقدمته أنه صانه مما تفرد به كذاب أو وضاع! قد اغتص بالأحاديث الموضوعة - كما تراه جلياً في كتابي " ضعيف الجامع الصغير " -، ومن أسباب ذلك وقوفه في النقد عند السند فقط - كما سبق -، وهو الذي يسميه اليوم بعضهم بالنقد الخارجي؛ وان كان أحياناً تتفتح قريحته؛ فيسلك سبيل الأئمة قينتقد المتن أيضاً، وهو النقد الداخلي عند ذاك البعض - كما تراه فعل في حديثنا هذا؛ فأصاب -.
ثالثاً: قوله: "
…
وأن البيهقي لم يخرج في كتبه حديثاً يعلمه موضوعاً
…
".
قلت: نعم؛ هذا واجب كل عالم، ولكن الاجتهاد قد يختلف؛ فكما أنهم يختلفون أحياناً في التصحيح والتضعيف، فكذلك قد يختلفون في الحديث هل هو موضوع أو ضعيف؟ والله عز وجل يقول:{ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات} .
من أجل ذلك يجب على أهل العلم أن لا يقلد بعضهم بعضاً، وأن يتسابقوا إلى معرفة الخير والعمل به، وقد تبين لي بتتبعي لنقد البيهقي للأحاديث وأسانيدها ورجالها أنه متساهل، وضنين جداً بإعطائها حقها من النقد، فما أتذكر
أنه قال في حديث ما: (إنه موضوع)، أو في راويه:(إنه كذاب أو وضاع) ، وقد راجعت من أجل ألتثبت من هذا الذي ذكرت المجلد الأول من كتابي " سلسلة
الأحاديث الضعيفة "، وتتبعت فيه كل الأحاديث التي كان البيهقي من رواتها، وحكم عليها الأئمة الحفاظ بالوضع والبطل؛ فلم أجد فيها ولا حديثاً واحداً شاركهم في حكمهم المشار إليه، أو في اتهام رواتها بالوضع! أو أن يقول في
أحدهم: (كذاب) ، ولو أطلقه مثل البخاري عليه.
وإاليك الآن الإشارة إلى تلك الأحاديث الموضوعة التي خالف البيهقي الأئمة فيها مكتفياً بذكر أرقامها حتى لا يطول البحث، فمن شاء التثبت؛ راجعها في المجلد المذكور أنفاً:
(25، 47، 70، 89، 95، 106، 108، 115، 145، 148، 150، 160، 164، 170، 178، 202، 203، 226، 231 (وهذا مما أقر السيوطي ابن الجوزي على وضعه، مع أنه ليس فيه متهم!) ، 240، 258،257،241، 323،321، 341، 370، 375، 380، 381، 388، 439، 476، 489) .
وبعضه هذه الأحاديث مما سكت عنها البيهقي، ولم يشرالى ضعفها مطلقاً! كالحديث (90) وغيره.
وبعضها قد تكلم عليها أو على رواتها، بتضعيف ليّن تارة، وبتضعيف شديد تارة، وكل ذلك مما ينافي البيان والتصريح بالحكم على الحديث بالوضع.
مثال الأول: الحديث (25) ، وهو في توسل آدم بالنبي صلى الله عليهما وسلم، فقال في أحد رواته:
"ضعيف ".
مع أن شيخه الحاكم - وهو أشهر منه في المتساهل - قال فيه:
" روى أحاديث موضوعة، والحمل فيها عليه "! ولذلك قال الذهبي في الحديث:
" باطل موضوع " - كما تراه مبسوطاً هناك -.
وأكثر الأحاديث المشار إليها من هذا القبيل.
ومثال تضعيفه الشديد - دون الحكم على الحديث بالوضع - الحديث (381) :
" ليس من أخلاق المؤمن الملق؛ إلا في طلب العلم". فقال في راوييه:
" الحسن بن دينار ضعيف بمرة، وكذلك خصيب بن جحدر ".
مع أن البخاري قال في (الخصيب) هذا:
" كذاب ".
و (الحسن بن دينار) : كذبه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم - كما تراه أيضاً مبيناً هناك -.
ومما تقدم يتبين للناظر البصير سقوط تعقب ابن عراق للسيوطي في حكمه على الحديث بالوضع، لأنه تعقب قاثم على تقليد السيوطي للبيهقي في أحكامه الخالفة لأحكام ابن الجوزي، والتقليد ليس علماً، ولا سيما وقد أثبث بالأمثلة المتقدمة تساهل البيهقي، فلا يجوز الاعتماد عليه في الرد على من استقل في النظر، وسلك سبيل ابن الجوزي وغيره في نقد المتن أيضاً فأصاب، لأنها سبيل الحفاظ النقاد - كما تقدم -.
وما لنا نذهب بعيداً، فهذا مثال جديد لنقد أحد الحفاظ متن هذا الحديث، وبإسناد آخر رجاله كلهم ثقات لا مغمز فيهم، ألا وهو: أبو حاتم الرازي، فقد قال
ابنه في " العلل "(1/ 327/ 975) :
" سألت أبي عن حديث رواه موسى بن أيوب عن الجراح بن مليح عن أرطاة ابن المنذر عن عبادة بن نسيّ عن ابن غنم عن معاذ بن جبل مرفوعاً؟
قال أبي: هذا يشبه الموضوع، يشبه حديث محمد بن سعيد الأردني أخذه عنه، يشبه أنه وقع إليه، وأرطاة لم يسمع من عبادة بن نسيّ شيئاً ".
قلت: والشاهد من هذا واضح إن شاء الله تعالى؛ فإنه رغم أن الاسناد المذكور رجاله ثقات - كما ذكرت آنفاً - وكلهم شاميون؛ فإن أبا حاتم نظر في متنه وقال: "يشبه الموضوع ". ثم إنه لما لم يجد في رجاله قدحاً، قال:
" يشبه حديث محمد بن سعيد الأردنيّ ".
وهو الشامي الوضاع المصلوب في الزندقة - كما هو معروف في كتب الرجال -؛ وإنما اتهمه به؛ لأن مثل هذا المتن لا يرويه إلا أمثاله من الوضاعين، وساعده على ذلك أنه يعلم [أنه] روى عن عبادة بن نسي. وانضم إلى ذلك الانقطاع - الذي أشار إليه - بين أرطاة وعبادة (1)، فناسب أن يقول:
(إن أرطاة أخذه منه) . ولكنه لم يجزم بذلك فقال:
" يشبه أنه وقع إليه ".
هذا ما فهمته من كلامه، وهو من دقائق نقده الذي لا يستطيع أن ينهض به إلا من كان مثله من كبار الحفاظ النقاد.
(1) ونقله الحافظ ابن حجر في " التهذيب " عنه وأقره. وهو من الفوائد التي فاتت على المعلقين على " تهذيب الكمال " للمزي فلم يستدركوها.
ذلك؛ وقد كنت نبهت منذ القديم على خطأ القول أن البيهقي لا يورد في كتابه " الشعب " ما كان موضوعاً، في غير ما موضع؛ كالجلد الأول من هذه " السلسلة "، (ص 560 - الطبعة الجديدة) وفي غيره كثير، وبينت فيها أن البيهقي من المتساهلين، وكلما ازددت علماً واطلاعاً على كلامه على الأحاديث؛ ازددت يقيناً بذلك، مع الاعتراف بسعة حفظه وعلمه، وأنه خير من شيخه الحاكم في مجال النقد بكثير.
لان من الآثار السيئة للتساهل المذكور، وعدم إعطاء الحديث أو راويه حقه من النقد الصحيح؛ أنه قد لا يتيسر لبعض الباحثين الوقوف على إسناد الحديث الذي تساهل بعض المتقدمين في نقده فضعفه، وهو شديد الضعف أو موضوع، فيعتمد الباحث على تضعيفه، ويستشهد به لحديث آخر ضعيف ويقويه! وهذا ما وقع للشيخ المباركفوري رحمه الله؛ فقوى حديث أبي رافع في الأذان في أذن المولود بحديث أم الصبيان، وهو موضوع مخرج برقم (321) ، وعذره أنه اعتمد في أنه ضعيف على حكم البيهقي، ولم يتيسر له الوقوف على إسناده، وهذا مما لا ينجو منه أحد من كبار الحفاظ فضلاً عن أمثالنا من المتأخرين، فوقع في الخطأ الشنيع، وهو تقوية الضعيف بالموضوع الذي لا يجوز باتفاق العلماء!
وقد وقع لي مثله؛ فقد كنت قويت أيضاً في " الإرواء "(4/ 400 - 401) حديث أبي رافع بحديث آخر اغتراراً أو ثقة بتضعيف البيهقي اياه، لأني لم أكن يومئذ قد اطلعت على إسناده، فلما وقفت عليه؛ وجدت فيه (محمد بن يونس الكديمي) الكذاب! وغيره! فتراجعت عن التقوية، وبادرت إلى بيان هذه الحقيقة بتخريج الحديث، والكشف عن تساهل البيهقي فيما سبق من هذه " السلسلة " برقم (6121) . والله المستعان.