الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
في شروط الموصى به
الشرط الأول
في اشتراط مالية الموصى به
سبق لنا في عقد البيع أن تكلمنا عن المال، وعن الخلاف بين الجمهور والحنفية في حقيقته، فالمنافع والديون لا تعتبر مالًا عند الحنفية خلافًا للجمهور، واشتراط الطهورية في الأعيان المبيعة ليست شرطًا عند الحنفية خلافًا للجمهور، والكلب مال متقوم عند الحنفية مطلقًا معلمًا كان أو غير معلم، وليس مالًا عند الشافعية والحنابلة مطلقًا، والمالكية على التفريق بين المعلم وغيره.
لهذا ونحن نبحث اشتراط مالية الموصى به ينبغي أن نتصور كل هذا الخلافات بين الفقهاء.
ولما كان في عقد البيع تشترط مالية العوضين؛ لأنه من عقود المعاوضة، فهل تشترط المالية في عقود التبرعات كالوصية، فعقد التبرع أوسع من عقد المعاوضة، فإذا أوصى بما ليس مالًا كالوصية بالكلب، أو الوصية بشيء نجس، أو أوصى بما لا يصح بيعه كالوصية بمجهول أو معدوم، فهل تصح هذه الوصية؟
وقبل الجواب على هذا السؤال كان علينا البحث في اشتراط مالية الموصى به، ثم نفرع على هذا البحث الدخول في فروع هذه المسألة، والله أعلم.
[م-1676] وقد اختلف الفقهاء في اعتبار اشتراط المالية للموصى به.
القول الأول:
اشترط الحنفية أن يكون الموصى به قابلًا للتملك بعقد من العقود، ومحل الملك هو المال المتقوم عندهم، فلا تصح الوصية بما لا يملك، كالخمر، والميتة، والدم، ولا تصح الوصية بما ليس مالًا كالجلد قبل الدبغ.
قال ابن نجيم: «وكون الموصى به شيئًا قابلًا للتمليك من الغير بعقد من العقود حال حياة الموصي سواء كان موجودا في الحال أو معدوما»
(1)
.
وفي رد المحتار: وكون الموصى به قابلًا للتملك بعد موت الموصي بعقد من العقود مالا أو نفعًا موجودًا للحال أم معدومًا»
(2)
.
(3)
.
ويناقش:
بأن حقيقة الوصية: هي نقل ملكية الأشياء من الموصي إلى الموصى له عن طريق التبرع، فإذا كان يصح تملك الجلد قبل الدبغ، فلماذا يمنع من الوصية به،
(1)
. البحر الرائق (8/ 460).
(2)
. الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (6/ 649).
(3)
. بدائع الصنائع (7/ 352).
فإذا كان مثل هذا يقبل التوريث، والتوريث نقل للملكية فكذا الوصية به، نعم لو كان جلد الميتة قبل الدبغ لا يصح تملكه لكان القول بمنع الوصية به قولًا صحيحًا.
القول الثاني:
ذهب المالكية إلى أنه يشترط في الموصى به شرطان:
أحدهما: أن يكون مما يصح أن يتملكه الموصى له، ولم يشترطوا أن يكون هذا التملك بعقد من العقود كالحنفية. والأشياء التي تقبل التملك أعم من أن تكون مالًا:
فكل مال يصح تملكه، وليس كل ما يصح تملكه فهو مال، فالأعيان النجسة يصح تملكها، وليست مالًا عند الجمهور، كما صرحوا أن الوصية تصح في الموجود والمعدوم، والدين وغيره، والعين، والمنفعة، والمقدور على تسليمه وغير المقدور على تسليمه، وتصح بالمجهول والمعلوم، ولا تصح الوصية بما لا يصح تملكه كالخمر.
الثاني: إذا كانت الوصية بالمال فيشترط أن يكون فيما يحل صرفه فيه، فلا تجوز الوصية بالنياحة على الميت، ولا أن يوصي بمال لمن يصوم أو يصلي عنه.
قال ابن عرفة كما في التاج والإكليل: «الموصى به كل ما يملكه من حيث الوصية به، فتخرج الوصية بالخمر وبالمال فيما لا يحل صرفه فيه، وسمع عيسى جواب ابن القاسم عمن أوصى بمناحة ميت أو لهو عرس لا ينفذ ذلك
…
لأن النياحة على الميت محرمة.
وفي الموازية: من أوصى بمال لمن يصوم عنه لم يجز ذلك. ابن عتاب: وكذلك لمن يصلي عنه»
(1)
.
وقال الخرشي: «الموصى به: هو كل ما يصح أن يتملكه الموصى له، فلا تصح بخمر ونحوه»
(2)
.
(3)
.
(4)
.
وكثير من هذه الأمثلة ستكون محل دراسة مستقلة إن شاء الله تعالى، ولكن أردت من هذا السرد أن نعرف موقف المالكية من اشتراط مالية الموصى به.
(1)
. التاج والإكليل (6/ 368).
(2)
. الخرشي (8/ 168).
(3)
. المرجع السابق.
(4)
. شرح ميارة (2/ 217).
القول الثالث:
ذكر إمام الحرمين ضابطًا لما يصح أن يوصى به، أن كل ما يتعلق به حق الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث، فصحح الوصية بالكلب الذي يصح اقتناؤه، وإن كان لا يصح بيعه، قال إمام الحرمين:«وعماد جواز الاقتناء الانتفاع المشروع، ثم البيع وإن كان ممتنعا، فالوصية جائزة؛ فإن البيع يستدعي الملك المطلق التام، والوصية لا تقتضي ذلك، بل أقرب معتبر فيها الوراثة، فكل ما يتعلق به حق الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث»
(1)
.
هذا من حيث الإجمال أما من حيث التفصيل:
فذكر الشافعية في الموصى به شروطًا:
أحدها: أن يكون فيه منفعة مقصودة، فالوصية في الأشياء التي لا نفع فيها عبث، وهذا الشرط يشمل الأعيان والمنافع.
الشرط الثاني: أن تكون المنفعة مباحة، فلا تصح الوصية بمنفعة محرمة كآلات اللهو ونحوها.
وإباحة الانتفاع أعم من المال، فكل مالٍ يباح الانتفاع به، وليس كل ما يباح الانتفاع به فهو مال، ولذلك صححوا الوصية بكلب قابل للتعليم، وإن لم يكن الكلب مالًا.
الشرط الثالث: أن يقبل النقل من شخص لآخر، فما لا يقبله لا تصح الوصية
(1)
. نهاية المطلب (11/ 169).
به، كالقصاص وحد القذف، فإنهما وإن انتقلا بالإرث لا يتمكن مستحقهما من نقلهما.
فهذه الشروط تدل على أن الشافعية لا يشترطون في الموصى به أن يكون مالًا، فصححوا الوصية بنجاسة يحل الانتفاع بها ككلب يقبل التعليم، وزبل، وخمر محترمة: وهي ما عصرت بقصد التخليل، وصححوا الوصية بالمجهول كالحمل الموجود في البطن، وبما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، والعبد الآبق، وبالمعدوم.
قال الغزالي: «الركن الثالث: في الموصى به، ولا يشترط فيه أن يكون مالًا فيصح الوصية بالزبل، والكلب، والخمر المحرمة، ولا كونه معلومًا فيصح الوصية بالمجهول.
ولا كونه مقدورًا على تسليمه فيصح الوصية بالآبق، والمغصوب، والحمل، وهو مجهول وغير مقدور عليه.
ولا كونه معينًا فتصح الوصية بأحد العبدين»
(1)
.
جاء في أسنى المطالب: «الركن الثالث: الموصى به، وشرطه أن يكون مقصودًا يحل الانتفاع به، فلا تصح الوصية بدم ونحوه مما لا يقصد، ولا بمزمار ونحوه مما لا ينتفع به شرعا؛ لأن المنفعة المحرمة كالمعدومة»
(2)
.
وجاء في نهاية المحتاج: «وللموصى به شروط منها: كونه قابلًا للنقل بالاختيار، فلا تصح بنحو قود، وحد قذف لغير من هو عليه .... ولا بحق تابع
(1)
. الوسيط (4/ 416).
(2)
. أسنى المطالب (3/ 34).
للملك كخيار، وشفعة لغير من هي عليه لا يبطلها التأخير لنحو تأجيل الثمن. وكونه مقصودًا بأن يحل الانتفاع به شرعًا.
وتصح بالحمل الموجود، واللبن في الضرع، وبكل مجهول، ومعجوز عن تسليمه وتسلمه .... وبالمنافع المباحة وحدها مؤبدة ومطلقة ولو لغير الموصى له بالعين؛ لأنها أموال تقابل بالعوض كالأعيان
(1)
.
قال الشافعي في الأم: «ولو قال: أعطوا فلانًا كلبًا من كلابي، وكانت له كلاب، كانت الوصية جائزة؛ لأن الموصى له يملكه بغير ثمن، وإن استهلكه الورثة، ولم يعطوه إياه، أو غيرهم لم يكن له ثمن يأخذه؛ لأنه لا ثمن للكلب»
(2)
.
وقال الشيرازي: «فإن وصى بما تحمله الجارية، أو الشجرة صحت الوصية؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصية .. »
(3)
.
(4)
.
(1)
. نهاية المحتاج (6/ 50 - 51).
(2)
. الأم (4/ 91).
(3)
. المهذب (1/ 452).
(4)
. كفاية الأخيار (ص: 341).
القول الرابع: مذهب الحنابلة:
مذهب الحنابلة قريب من مذهب الشافعية، والضابط عندهم: أن كل شيء ينتقل بالإرث فإنه ينتقل بالوصية، ولو لم يكن مالًا.
قال في كشاف القناع: «وتصح الوصية بمجهول كعبد وثوب؛ لأن الموصى له شبيه بالوارث من جهة انتقال شيء من التركة إليه مجانًا، والجهالة لا تمنع الإرث؛ فلا تمنع الوصية»
(1)
.
كما صرح الحنابلة بجواز الوصية بكل ما فيه نفع مباح، ولو لم يكن مالًا، كما صححوا الوصية بما لا يقدر على تسليمه، كالعبد الآبق، والجمل الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، وصححوا الوصية بالمعدوم، وبغير المال من الحقوق.
جاء في الإنصاف: وتصح ـ يعني الوصية ـ بما فيه نفع مباح من غير المال، كالكلب، والزيت النجس
…
»
(2)
.
جاء في المحرر: «وتصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه، وبما تحمل أمته أو شجرته أبدًا أو إلى مدة، فإن حصل منه شيء وإلا بطلت فيه الوصية.
وتصح بغير المال مما يباح نفعه، كالكلب المعلم، والزيت النجس ونحوهما»
(3)
.
وقال ابن قدامة: «وتصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه، كالعبد الآبق،
(1)
. كشاف القناع (4/ 369).
(2)
. الإنصاف (252).
(3)
. المحرر (1/ 386).
والجمل الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لأن الوصية إذا صحت بالمعدوم فبذلك أولى؛ ولأن الوصية أجريت مجرى الميراث، وهذا يورث، فيوصى به؛ فإن قدر عليه أخذه، وسلمه إذا خرج من الثلث، وللوصي السعي في تحصيله، فإن قدر عليه أخذه إذا خرج من الثلث»
(1)
.
° والراجح:
أن كل شيء يمكن انتقاله بالإرث من الأموال وغيرها من الحقوق تصح الوصية به، واشتراط الحنفية أن يكون مالًا بحيث منعوا من الوصية بالجلد قبل الدبغ باعتبار أنه ليس بمال قول ضعيف، والله أعلم.
إذا علم هذا في الجملة فسوف نناقش إن شاء الله تعالى على وجه التفصيل الوصية ببعض الأشياء التي يختلف في صحة الوصية بها في المباحث التالية، والتي قد تكون متفرعة عن هذا الشرط، والله أعلم.
* * *
(1)
. المغني (6/ 95).