الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزية (1)، لأن الكل يدخل في الفيء وهو كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب كالعشور والجزية وما هربوا عنه (2).
أنه لا مشاحة في الاصطلاح، فإن الجزية لفظ مشترك، فإذا اصطلح كثير من الفقهاء وضع لفظ (الجزية) على البدل الذي يؤديه أهل الذمة وهم من عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الإسلام إذ هم مقيمون في بلاد الإسلام، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن ما يؤديه أهل الهدنة الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم ولا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة. أن ذلك لا يدخل في حكم الجزية؛ إذ الكل أهل عهد يجب الكف عنهم ما داموا مقيمين عليه ولم ينقضوه (3).
النتيجة:
أن الإجماع متحقق على جواز أخذ الجزية لقاء الهدنة، لعدم وجود المخالف المعتبر.
وأما خلاف بعض أهل العلم في تسمية ذلك (جزية) فإنه خلاف لفظي لا يخرم الإجماع؛ إذ الكل يُعد فيئًا للمسلمين، واللَّه تعالى أعلم.
[132/ 3] مقدار الجزية العنوية:
• المراد بالمسألة: بيان أن المقدار المالي الذي يقبل ويجزئ عمَّن أدَّاه في (الجزية العنوية) ثابتٌ ومقدَّرٌ في الشرع، وأن أربعة دنانير من الذهب، أو قيمتها من الفضة قدر يجزئ في الجزية في انقضاء كل عام قمري. وقد نُقل الإجماع على ذلك.
• من نقل الإجماع: أبو الحسن بن المُغلِّس (324 هـ) حيث يقول: (والجزية المأخوذة: هي ما أخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أهل الذمة، أربعة دنانير، أو قيمتها من الورق. واتفق الفقهاء على إيقاع اسم الجزية على هذا المقدار، واختلفوا في إيقاعه على ما دونه) نقله عنه ابن القطان الفاسي (4).
والجصاص (370 هـ) حيث يقول: (وذكر يحيى بن آدم أن الجزية على مقدار
(1)"تهذيب المدونة"(1/ 160).
(2)
"زاد المسير"(3/ 358).
(3)
انظر: "أحكام أهل الذمة"(2/ 874).
(4)
"الإقناع في مسائل الإجماع"(3/ 1076).
الاحتمال بغير توقيت وهو خلاف الإجماع) (1).
وابن حزم الظاهري (456 هـ) حيث يقول: (واتفقوا أنه إن أعطى كل من ذكرنا عن نفسه وحدها فقيرًا كان أو غنيًّا أو معتقًا أو حرًّا أربعة مثاقيل ذهبًا في انقضاء كل عام قمري بعد أن يكون صرف كل دينار اثني عشر درهمًا كيلًا فصاعدًا على أن يلتزموا على أنفسهم. . . (ما ذكره من شروط الذمة). . . فقد حرمت دماء كل من وفى بذلك وماله وأهله وظلمه) (2).
وشيخي زاده الحنفي (1078 هـ) حيث يقول: (توضع الجزية على الظاهر الغنى في السنة ثمانية وأربعون درهمًا، يؤخذ منه في كل شهر أربعة دراهم، وعلى المتوسط في الغنى نصفها أي أربعة وعشرون درهمًا، يؤخذ منه في كل شهر درهمان، وعلى الفقير القادر على الكسب ربعها أي: اثنا عشر درهمًا، يؤخذ منه في كل شهر درهم، نقل ذلك عن عمر وعثمان وعلي رضي اللَّه تعالى عنهم، والصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم متوافرون لم ينكر عليهم أحد منهم، فصار إجماعًا)(3).
• الموافقون للإجماع: وافق: الحنفية (4)، والمالكية (5)، والشافعية (6)، والحنابلة في رواية (7)، والظاهرية (8) أن للجزية مقدارًا محدَّدًا بالشرع، وأن من بذل من أهل الجزية أربعة دنانير من الذهب أو قيمتها من الفضة أجزأت عنه، وإن اختلفوا في إيقاع الجزية فيما دون ذلك (9).
(1)"أحكام القرآن"(4/ 291)، و"مختصر اختلاف العلماء"(3/ 487).
(2)
"مراتب الإجماع"(ص 196 - 197).
(3)
"مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر"(2/ 471).
(4)
انظر: "تحفة الفقهاء"(3/ 307)، و"فتح القدير"(6/ 45).
(5)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر (1/ 479)، و"المعونة"(1/ 450).
(6)
انظر: "الحاوي الكبير"(18/ 345)، و"البيان"(12/ 255).
(7)
انظر: "المغني"(13/ 209)، و"أحكام أهل الذمة"(1/ 124).
(8)
انظر: "أصول الأحكام" لابن حزم (1/ 405).
(9)
اختلف العلماء في مقدار الجزية على ثلاثة أقوال:
أ) أقلها أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهمًا، ولا حد لأقلها، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، وهو مذهب المالكية، ورواية: لأحمد. =
• مستند الإجماع: استند جمهور الفقهاء القائلين بالتقدير بالشرع على عدد من الأحاديث والآثار التي تضمنت تقديرًا في الجزية ومنها:
عن معاذ رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما وجَّهه إلى اليمن، أمَره أنْ يأخذ من كل حالمٍ -يعني: محتلمٍ- دينارًا، أو عَدله من المَعَافِر -ثيابٌ تكون باليمن"(1).
• وجه الدلالة: حيث دلَّ الحديث أن للجزية مقدارًا مؤقتًا شرعًا لا ينقص عنه، وهو الدينار. قول الشافعية، أو ما يُقابله من الأموال الأخرى.
كما استندوا على ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضرائب مختلفة ومنها ما يأتي:
عن عمر بن الخطاب "أنه ضَرَبَ الجزية على أهل الذَّهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام"(2).
وعنه رضي الله عنه: "أنه بعث عثمان بن حنيف بوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر"(3).
= ب) أقلها دينار على كل رأس من الأحرار البالغين، سواء في ذلك الغني والفقير، ولا حد لأكثرها، وهو مذهب الشافعية. وذهب ابن حزم إلى أنه لا يزاد ولا ينقص عن الدينار.
جـ) إن الجزية اثنا عشر درهمًا على الفقير، وأربعة وعشرون درهمًا على الوسط، وثمانية وأربعون درهمًا على الغني، أي: بحسب الأحوال، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة إلا أنهم قالوا: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى "الإمام". انظر بسط الأقوال في المراجع السابقة.
(1)
أخرجه أحمد في "المسند"(5/ 233)، وأبو داود في "سننه"، كتاب الجهاد، باب في أخذ الجزية (3/ 167، رقم 3038)، والترمذي في "سننه"(623)، قال عنه الترمذي:"حديث حسن"، وقال ابن عبد البر:"ثابت متصل"، وصححه ابن حبان وابن الجارود والحاكم. انظر:"نصب الراية"(3/ 445)، وانظر:"الفتح"(6/ 260). وقوله: "حالم" أي: بالغ، أي: يؤخذ منه في الجزية دينار. "عَدْله": بالفتح، وجُوِّز الكسرُ: ما يساوي قيمة الشيء. "معافر": برود تنسج في اليمن.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ" بإسناد صحيح، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس (1/ 279، برقم 617)، وأبو عبيد في كتاب "الأموال"(ص 49).
(3)
يعني على الغني ثمانية وأربعون، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، والفقير اثنا عشر. وقال الحافظ في "الفتح" (6/ 260) بعد ذكره رواية أبي عبيد: وهذا على حساب الدينار باثني عشر. وأخرجه أبو عبيد في كتاب "الأموال"(ص 49، رقم 103)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 134)؛ من طريق أبي =
• وجه الدلالة: حيث دلَّت هذه النصوص الأثرية على التوقيت في مقدار الجزية، وما روي عن عمر رضي الله عنه لا يحتمل أن يكون رأيًا؛ لأن المقدرات سبيل معرفتها التوقيف والسماع، وقد بلغ أعلى توقيت منها أربعة دنانير من الذهب أو ما يُعادلها من الفضة، فمن أدَّى هذا القدر من الجزية قبل منه في قول سائر من قال بتوقيت مقدار الجزية (1).
• الخلاف في المسألة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "نقد مراتب الإجماع" -بعد ما نقل كلام ابن حزم السابق مبينًا أن المسألة مختلف فيها لا مجمعٌ عليها-: (قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدَّرةٌ بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد على أربعة دنانير؟ وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، هي مذهب عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم)(2).
قد خالف في هذه المسألة بعض العلماء فقالوا: إن الجزية ليس لها مقدارٌ مؤقت شرعًا، بل إن مرجعها إلى الإمام، فله أن يزيد وينقص على قدر ما يراه، وهو قول عطاء ابن أبي رباح، والثوري، وأبي عبيد، ويحيى بن آدم، وقول لمالك (3)، والصحيح في مذهب الحنابلة (4)، قال الخلال: وهو الذي عليه العمل (5)، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية (6).
واستدلوا لذلك بما يأتي:
بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فلفظ الجزية في الآية مطلق غير مقيد بقليل أو كثير، فينبغي أن يبقى على إطلاقه، غير أن الإمام لما كان ولي أمر المسلمين جاز له أن يعقد مع أهل الذمة عقدًا على الجزية بما يحقق مصلحة
= إسحاق -وهو السبيعي-، عن حارثة به. وزادوا جميعًا -سوى أبي عبيد- في أوله، عن حارثة، أنّ عمر أراد أن يقسم أهل السواد بين المسلمين، فأمر بهم أن يحصرا، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور فيهم. فقال له علي: دعهم يكونون مادة للمسلمين. . . الخ. وأبو إسحاق: مدلس، وقد عنعنه. فالإسناد ضعيف.
(1)
انظر: "بدائع الصنائع"(7/ 112).
(2)
"نقد مراتب الإجماع"(ص 296).
(3)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(6/ 87)، و"التمهيد"(11/ 217)، و"الأموال" لأبي عبيد (ص 42)، و"الخراج" ليحيى بن آدم (ص 70)، و"الإشراف"(4/ 48)، و"المغني"(13/ 210)، و"الحاوي الكبير"(14/ 299).
(4)
انظر: "الإنصاف"(10/ 425).
(5)
"أحكام أهل الذمة"(1/ 128).
(6)
"مجموع الفتاوى"(19/ 253 - 254).
المسلمين لأن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة (1).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالم دينارًا (2)، وصالح أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر والباقي في رجب (3). و"جعل عمر بن الخطاب الجزية على ثلاث طبقات: على الغني ثمانية وأربعين درهمًا، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقير اثني عشر درهمًا" (4).
فهذا الاختلاف يدل على أنها إلى رأي الإمام، لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز أن تختلف (5). ويؤيد ذلك ما روي عن أبي نجيح. قلت لمجاهد:"ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار"(6).
ولأن المال المأخوذ على الأمان ضربان: هدنة وجزية، فلما كان المأخوذ هدنة إلى اجتهاد الحاكم، فكذلك المأخوذ جزية، ولأن الجزية عوض، فلم تتقدر بمقدار واحد في جميع المواضع كالأجرة (7).
وقال أبو عبيد: "وهذا عندنا مذهب الجزية والخراج، إنما هما على قدر الطاقة من أهل الذمة، بلا حَمْلٍ عليهم، ولا إضرارٍ بفيء المسلمين، ليس فيه حَدٌّ مؤقت"(8).
النتيجة:
أن الإجماع غير متحقق في مقدر الجزية، لوجود المخالف المعتبر، واللَّه تعالى أعلم.
(1) انظر: "المنثور في القواعد"(1/ 309)، و"درر الحكام شرح مجلة الأحكام"(1/ 51، مادة 58).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود في "السنن"، كتاب الخراج، باب في أخذ الجزية (3/ 429، برقم 3041)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(13/ 374) من طريق السدي عن ابن عباس، قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (4/ 125):(وفي سماع السدي عن ابن عباس نظر، لكن له شواهد).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
"أحكام أهل الذمة"(1/ 132).
(6)
أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم في باب الجزية والموادعة (3/ 1150)، ووصله عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 87، برقم 10094).
(7)
انظر: "الحاوي الكبير"(14/ 160).
(8)
في "الأموال"(ص 51).