الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: مسائل الإجماع في الأمان
تمهيد: في تعريف الأمان، والفرق بينه وبين عقد الذمة، والهدنة
• تعريف الأمان:
• الأمان لغة: مشتق من الأمن، والأمن ضد الخوف، وهو الاطمئنان.
يقال: أَمَّنَه وآمَنَه، وآمن فلان العدو أي أعطاه الأمان. والعدو مُؤَمَّن، واستأمن الحربي استجار ودخل دار الإسلام مستأمنًا (1).
• وفي الاصطلاح: رفع استباحة دم الحربي، ورقه، وماله، حين قتاله، أو العزم عليه، مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما (2).
وعرف بأنه: عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين (3).
والمستأمن: من له أمان بعقد جزية، أو هدنة، أو أمان (4).
الفرق بين الأمان وبين عقد الذمة، والهدنة:
يوضح الخطيب الشربيني (977 هـ) الفرق بين عقد الأمان، والهدنة، والذمة فيقول:(والعقود التي تفيدهم الأمن ثلاثة: أمان وجزية وهدنة. لأنه إن تعلق بمحصور (أي: عدد محدود) فالأمان، أو بغير محصور فإن كان إلى غاية (أي: كان مؤقتًا بمدة معينة ينتهي عندها) فالهدنة، وإلا فالجزية (أي: عقد ذمة) وهما (أي: الهدنة، والجزية) مختصان بالإمام بخلاف الأمان) (5).
[157/ 1] للإمام وللرجل الحر البالغ العاقل حق منح الأمان:
• المراد بالمسألة: لبيان المراد بالمسألة لابد من التفريق بين نوعين من الأمان،
(1) انظر: "معجم مقاييس اللغة"(1/ 133)، و"لسان العرب"(13/ 21)، مادة (أمن).
(2)
"شرح حدود" ابن عرفة" (1/ 294).
(3)
"مغني المحتاج"(4/ 236).
(4)
"حاشية الشرقاوي على التحرير"(2/ 456).
(5)
"مغني المحتاج"(4/ 236).
وهما: الأمان العام، والأمان الخاص، ونوضحهما فيما يأتي: أقسام الأمان: ينقسم الأمان إلى قسمين:
• الأول: أمان عام: وهو ما يعطَى لناحية أو بلدة أو قلعة، وهذا باتفاق الفقهاء لا يصح إلا من الإمام أو نائبه، لأنه من المصالح العامة التي تحتاج إلى نظر وتمحيص وهذا لا يتأتى إلا من الإمام أو نائبه. وهذا كعقد المهادنة أو الذمة، فلا نبحثه في هذا الموضع.
• الثاني: أمان خاص: وهو ما يعطَى لقافلة، أو لحصن صغير او لفرد من الأفراد، يطلبون الأمان لدخول دار الإسلام لأمر يقضونه ثم ينصرفون بانقضائه دون أن يكونوا ملتزمين بأحكام الإسلام أو الذمة، فهذا أيضًا نُقل فيه اتفاق الفقهاء على جواز منحه من الإمام أو نائبه ومن آحاد المسلمين بالشروط المعتبرة، وهو موضع النظر والتمحيص في هذه المسألة.
• من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: (أجمع أهل العلم أن أمان والي الجيش، أو الرجل الحر الذي يقاتل جائز على جميعهم)(1).
وابن حزم (456 هـ) حيث يقول: (واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس سكران إذا أمن أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا، أو على الجلاء، أو أمن سائر أهل الكفر على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك بلادهم، واللحاق بأرض حرب، لا بأرض ذمة، ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين، حيث كانوا)(2).
وعلاء الدين السمرقندي (539 هـ) حيث يقول: (أمان الواحد الحر، أو العبد المقاتل، أو المرأة، صحيح بلا خلاف)(3).
وابن العربي (543 هـ) حيث يقول: (فأما الأمير فلا خلاف في أن إجارته جائزة؛ لأنه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار)(4).
وابن رشد (595 هـ) حيث يقول: (واتفقوا على جواز تأمين الإمام)(5).
(1)"الإجماع"(ص 73)، و"الإشراف"(4/ 135).
(2)
"مراتب الإجماع"(ص 204).
(3)
"تحفة الفقهاء"(3/ 296).
(4)
"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 458).
(5)
"بداية المجتهد"(1/ 279).
وابن المناصف (620 هـ) حيث يقول: (اتفق أهل العلم على أن الحُرَّ البالغ العاقل إذا أمَّنَ، صحَّ تأمينه)(1).
والقرطبي (671 هـ) حيث يقول: (ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز)(2).
وأبو عبد اللَّه المغربي (954 هـ) حيث يقول: (إذ لا خلاف في جوازه (التأمين) للإمام ابتداءً) (3).
• الموافقون للإجماع: وافق على جواز تأمين الإمام وتأمين الواحد من المسلمين بالشروط المعتبرة فيه أصحاب المذاهب الأربعة: من الحنفية (4)، والمالكية (5)، والشافعية (6)، والحنابلة (7).
• مستند الإجماع:
1 -
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بإعطاء الأمان لمن يريد سماع الشريعة، والإمام هو أعرف الناس من غيره فدل على جواز تأمينه.
2 -
عن عليٍّ قال: ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وما في هذه الصَّحيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المدينة حرامٌ، ما بين عائِرٍ إلى ثور (8)، فمن أحدثَ حَدثًا، أو آوى مُحدثًا؛ فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبلُ منه عدلٌ ولا صَرف، وذمَّة المسلمين واحدة؛ يسعى بها أدناهم، فمن أخْفرَ مُسلمًا، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل"(9).
• وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم" عام في
(1)"الإنجاد في أبواب الجهاد"(ص 288).
(2)
"الجامع لأحكام القرآن"(7/ 76).
(3)
"مواهب الجليل"(3/ 361).
(4)
انظر: "بدائع الصنائع"(9/ 4318)، و"تحفة الفقهاء"(3/ 296).
(5)
انظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 175)، و"مواهب الجليل"(3/ 360).
(6)
انظر: "الأم"(4/ 226)، و"الحاوي الكبير"(14/ 297).
(7)
انظر: "المغني"(13/ 77)، و"الإنصاف"(4/ 146).
(8)
وعائر ويقال (عير)، وكذا ثور: جبلان معروفان بالمدينة النبوية. انظر: "فتح الباري"(4/ 82).
(9)
أخرجه البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3/ 1157، برقم 3001).
جميع المسلمين، دون تفريق بين أمير أو مأمور.
3 -
وعن ابن عباسٍ قال: حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب، أنها أجارت رجلًا من المشركين يوم الفتح، فأراد علي قتله، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، قال:"قد أجرْنَا من أجَرْتِ، وأمَّنَّا من أمَّنتِ"(1).
• وجه الدلالة: حيث دلَّ الحديث أن أمان آحاد المسلمين جائز، ومنهم المرأة، فأمان الإمام جائز بطريق الأولى.
• الخلاف في المسألة: يرى ابن الماجشون من المالكية: أن الأمان المؤقت لأهل الحرب لا يجوز إلا من الإمام أو نائبه، فإن أمَّن أحدٌ من الرعية أحدًا من الكفار، فالأمان لا يجوز ابتداءً إلا بعد عرضه على الإمام، فإن شاء أمضاه، أو رده (2).
واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
• وجه الدلالة: أن الآية تدل على مشروعية الأمان، ثم الخطاب فيها موجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه إمام المسلمين، فدلَّ ذلك على قصر الأمان على الإمام، فلا يجوز الافتئات عليه.
قال ابن تيمية في "نقد مراتب الإجماع": (ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه، وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصح من كل مسلم كما ذكره ابن حزم)(3).
وبعد النظر والتأمل في مذهبي الشافعية، والحنابلة تبيَّن أن المتقرر عندهم هو جواز أمان آحاد المسلمين بشرط وجود المصلحة، واستحب الحنابلة إذن الإمام فيه.
قال في "المجموع": (ويجوز للمسلم أن يؤمن من الكفار آحادًا لا يتعطل بأمانهم الجهاد في ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة)(4).
قال في "الفروع": (وأنه يستحب استحبابًا ألَّا يجار على الأمير إلا بإذنه)(5).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب أمان النساء وجوارهن (3/ 1157، برقم 3000).
(2)
انظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 175)، و"مواهب الجليل"(3/ 360).
(3)
نقد "مراتب الإجماع"(ص 297).
(4)
"المجموع"(19/ 303).
(5)
"الفروع"(10/ 307).