الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول مسائل الإجماع في الخراج
[143/ 143] حكم أخذ الخراج
• المراد بالمسألة: الخراج عند الفقهاء نوعان (1):
الأول: خراج المقاسمة، كربع الخارج، وخمسه، ونحوهما.
الثاني: الخراج الموظف، وهو الوظيفة المعينة التي توضع على أرض، كما وضع عمر رضي الله عنه على سواد العراق.
وقد أطلق الفقهاء على الخراج: جزية الأرض، وأجرة الأرض.
قال الماوردي: "أرض الخراج ضربان: خراج يكون جزية، وخراج يكون أجرة.
فالخراج الذي يكون جزية: هو ما ضربه الأئمة على أرض أهل العهد مع إقرارها على ملكهم، فهذه الأرض إن زرعها أهل العهد وجب عليهم الخراج دون العشر، وإن أسلموا أو انتقلت عنهم إلى مسلم وجب العشر في زرعها وسقط الخراج، فإن استأجرها منهم مسلم وجب الخراج عليهم؛ لبقاء ملكهم عليها، ووجب العشر على المسلم؛ لملكه للزرع.
وأما الخراج الذي يكون أجرة -كأرض السواد التي ضرب عمر رضي الله عنه عليها خراجًا جعله إما ثمنًا وإما أجرة على اختلاف الناس فيه- فلا يسقط عن رقاب الأرض بإسلام أهلها، فإن زرعها مسلم هي بيده لزمه الحقان: الخراج عن الرقبة، والعشر عن الزرع" (2).
كما يُطلق عليه -أيضًا-: الطسق (3).
(1) التعريفات للجرجاني (ص 132).
(2)
الحاوي الكبير للماوردي (7/ 471).
(3)
الطّسق: الوظيفة من خراج الأرض المقرر عليها، وهو فارسي معرب.
يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 124)(طسق).
وأول من استعمل هذه اللفظة في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث كتب إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه-في رجلين من أهل الذمة أسلما- كتابًا جاء فيه:"ارفع الجزية عن رؤوسهما، وخذ الطسق عن أرضيهما"(1).
وبوب أبو عبيد في "كتاب الأموال" بابًا باسم: "أرض العنوة تقر في يد أهلها، ويوضع عليها الطّسق وهو الخراج"(2).
الأرض الخراجية: هي الأرض التي صولح عليها أهلها، وكذا الأرض التي جلا عنها أهلها خوفًا وفزعًا من المسلمين، والأرض التي فُتحت عنوةً وتركها الإمام في أيدي أهلها يزرعونها وينتفعون بها بخراج معلوم (3).
وقد أجمع المسلمون على جواز أخذ الخراج على الأرض الخراجية.
• من نقل الإجماع: أبو المعالي الجويني (478 هـ) قال: "لما انتشرت الرعية، وكثرت المؤن المعنية، تسبب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى توظيف الخراج والإرفاق على أراضي العراق، بإطباق واتفاق"(4) ابن حزم (456 هـ) قال: "إن الصحابة أجمعوا على أخذ الخراج"(5) ابن قدامة (620 هـ) قال: "وقال الأوزاعي: أجمع رأي عمر وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظهروا على الشام على إقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم، يعمرونها، ويؤدون خراجها إلى المسلمين"(6). نقله شمس الدين ابن قدامة (682 هـ)(7) البهوتي (1051 هـ)
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، في الرجل يسلم وله أرض (4/ 404) رقم (21532).
(2)
الأموال لأبي عبيد (ص 86).
(3)
يُنظر: روضة الطالبين (2/ 234)، وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، لابن جماعة، تحقيق: فؤاد عبد المنعم، دار الثقافة، الدوحة، قطر، الطبعة الثالثة 1408 هـ (ص 102)، والمبدع لابن مفلح (2/ 353)، والإنصاف للمرداوي (3/ 116)، وكشاف القناع (2/ 219).
(4)
غياث الأمم (ص 209).
(5)
المحلى لابن حزم (5/ 248).
(6)
المغني في فقه الإمام أحمد (2/ 309).
(7)
الشرح الكبير لابن قدامة (4/ 17).
قال: "ضربه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. . . ولم ينكره أحد من الصحابة مع شهرته، فكان كالإجماع"(1).
• الموافقون على الإجماع: الحنفية (2)، والمالكية (3)، والشافعية (4)، والحنابلة (5)، والظاهرية (6).
• مستند الإجماع: يستدل على ذلك بالكتاب، والسنة، والآثار:
• أولًا: الكتاب: قول اللَّه -تعالى-: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} إلى قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (7).
• وجه الدلالة: استدل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه الآيات على وقف أرض السّواد على جميع المسلمين، وقال:"قد أشرك اللَّه الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيتُ ليبلغن الراعيَ بصنعاء نصيبُه من هذا الفيء ودمه في وجهه"(8).
• ثانيًا: السنة: الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّام مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ من حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ من حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ من
(1) كشاف القناع للبهوتي (3/ 96، 97).
(2)
شرح معاني الآثار للطحاوي (3/ 248)، وأحكام القرآن للجصاص (5/ 319)، والمبسوط للسرخسي (10/ 77).
(3)
المدونة الكبرى (2/ 345)، والكافي لابن عبد البر (1/ 219)، والتاج والإكليل (3/ 384).
(4)
انظر: الأم للشافعي (4/ 280)، والحاوي الكبير للماوردي (7/ 471)، والأشباه والنظائر (ص 536).
(5)
الاستخراج لأحكام الخراج (ص 19)، وكشاف القناع للبهوتي (3/ 96)، والإقناع للحجاوي (2/ 31).
(6)
المحلى لابن حزم (5/ 248).
(7)
سورة الحشر، الآيات:(7 - 10).
(8)
الخراج لأبي يوسف (ص 23، 24).
حَيْثُ بَدَأْتُمْ" (1).
• وجه الدلالة: هذا الحديث من أعلام النبوة، لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيكون من مُلك المسلمين هذه الأقاليم، ووضعهم الجزية والخراج، ثمّ بطلان ذلك.
فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة -رضوان اللَّه عليهم- سيضعون الخراج على الأرض، ولم يرشدهم إلى خلاف ذلك، بل قرّره وحكاه لهم (2).
الدليل الثاني: حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قال: كَيْفَ أَنْتُمْ إذا لم تَجْتَبُوا دِينَارًا ولا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ له: وَكَيْفَ تَرَى ذلك كَائِنًا يا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قال: إِي وَالَّذِي نَفْسُ أبي هُرَيْرَةَ بيده، عن قَوْلِ الصَّادِق المَصْدُوقِ، قالوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قال: "تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّه، وَذِمَّةُ رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَشُدُّ اللَّه عز وجل قُلُوبَ أَهْلِ الذّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ ما في أَيْدِيهِمْ"(3).
• وجه الدلالة: قال العيني: "قوله: (إذا لم تَجْتَبُوا) يعني: إذا لم تأخذوا من الجزية والخراج"(4).
• المخالفون للإجماع: اختلف الفقهاء في ضرب الخراج على أرض العنوة، وقالوا: إنما هي غنيمة تُخمَّس وتُقسم على الفاتحين، وهو حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في خيبر، وذلك أنه جعلها غنيمة فخمسها وقسمها، وبهذا الرأي أشار بلال رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه فى بلاد الشام، وأشار الزبير بن العوام رضي الله عنه على عمرو بن العاص رضي الله عنه في أرض مصر، وبهذا كان يأخذ مالك بن أنس (5).
قال ابن رشد: "واختلفوا فيما افتتح المسلمون من الأرض عنوة.
فقال مالك: لا تُقسم الأرض، وتكون وقفا يُصرف خراجها في مصالح
(1) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى ينحسر الفرات (4/ 2220) رقم (2896).
(2)
نيل الأوطار (8/ 164)، وعون المعبود (8/ 195).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: إثم من عاهد ثم كدر (4/ 102) رقم (3180).
(4)
عمدة القاري (15/ 102).
(5)
الأموال لأبي عبيد (ص 75).
المسلمين؛ من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير، إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض.
وقال الشافعي: الأرضون المفتتحة تُقسَّم كما تقسم الغنائم، يعني: خمسة أقسام.
وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يُقسِّمها على المسلمين، أو يضرب على أهلها الكفارة فيها الخراج، ويقرها بأيديهم.
وسبب اختلافهم ما يُظن من التعارض بين آية سورة الأنفال، وآية سورة الحشر؛ وذلك أن آية الأنفال تقتضي بظاهرها أن كل ما غنم يُخمس، وهو قوله -تعالى-:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} (1). وقوله -تعالى- في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (2)، عطفًا على ذكر الذين أوجب لهم الفيء، يمكن أن يفهم منه أن جميع الناس الحاضرين والآتين شركاء في الفيء، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال -في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} -: ما أرى هذه الآية إلا قد عمت الخلق، حتى الراعي بكداء". أو كلامًا هذا معناه؛ ولذلك لم تُقسم الأرض التي افتتحت في أيامه عنوة من أرض العراق ومصر.
فمن رأى أن الآيتين متواردتان على معنى واحد، وأن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال، استثنى من ذلك الأرض، ومن رأى أن الآيتين ليستا متواردتين على معنى واحد، بل رأى أن آية الأنفال في الغنيمة، وآية الحشر في الفيء، على ما هو الظاهر من ذلك، قال: تُخمَّس الأرض ولا بد، ولا سيما أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قسَّم خيبر بين الغزاة. قالوا: فالواجب أن تقسم الأرض؛ لعموم الكتاب، وفعله عليه الصلاة والسلام الذي يجري مجرى البيان للمجمل فضلًا عن العام.
وأما أبو حنيفة فإنما ذهب إلى التخيير بين القسمة، وبين أن يُقَر الكفار فيها
(1) سورة الأنفال، الآية:(41).
(2)
سورة الحشر، الآية:(10).
على خراج يؤدونه؛ لأنه زعم أنه قد روي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر، ثم أرسل ابن رواحة رضي الله عنه فقاسمهم. قالوا: فظهر من هذا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن قسم جميعها، ولكنه قسم طائفة من الأرض، وترك طائفة لم يقسمها، قالوا: فبان بهذا أن الإمام بالخيار بين القسمة، والإقرار بأيديهم، وهو الذي فعل عمر رضي الله عنه" (1).
وزعم البعض أن عمر الفاروق رضي الله عنه كانا مخالفًا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف أرض السّواد على المسلمين ما تناسلوا، وفرض فيها الخراج.
وأجيب عن ذلك: بما قاله أبو عبيد: "وكلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيء، إلا أن الذي أختاره من ذلك: يكون النظر فيه إلى الإمام، وذلك أن الوجهين جميعًا داخلان فيه. وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم براد لفعل عمر رضي الله عنه، ولكنه اتبع آية من كتاب اللَّه تبارك وتعالى فعمل بها، واتبع عمر آية أخرى فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين، فيصير غنيمة أو فيئًا.
قال اللَّه تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، فهذه آية الغنيمة، وهي لأهلها دون الناس، وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال اللَّه -تعالى-: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} . . . إلى قول اللَّه -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (2)، فهذه آية الفيء، وبها عمل عمر رضي الله عنه، وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها، فقال:"فاستوعبت هذه الآية الناس". وإلى هذه الآية ذهب علي ومعاذ رضي الله عنهما حين أشارا عليه بما أشارا فيما نرى واللَّه أعلم.
(1) بداية المجتهد (1/ 293).
(2)
سورة الحشر، الآيات:(7 - 10).