الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونوقش ذلك بأنهم محجوجون بكامل الأدلة المتقدمة، وعلى رأسها الإجماع السابق (1).
قال ابن خلدون: "والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك، والنعي على أهله، ومرغبة في رفضه.
واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته، ولا حظر القيام به، وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتع بالملذات، ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة وهي من توابعه، كما أثنى على العدل والنصفة وإقامة مراسم الدين والذب عنه، وأوجب وإزائها الثواب، وهي كلها من توابع الملك. إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى،
ولم يذمه لذاته، ولا طلب تركه، كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين، وليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليها، وإنما المراد تصريفهما على مقتضى الحق، وقد كان لداود وسليمان - صلوات اللَّه وسلامه عليهما - الملك الذي لم يكن لغيرهما، وهما من أنبياء اللَّه -تعالى- وأكرم الخلق عنده.
ثم نقول لهم: إن هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النصب لا يغنيكم شيئًا؛ لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة، وذلك لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة، والعصبية مقتضية بطبعها للملك، فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام، وهو عين ما فررتم" (2).
النتيجة:
صحة الإجماع في وجوب نصب الإمام.
[3/ 3] الإمامة من أسباب إقامة المصالح الدينية والدنيوية
• المراد بالمسألة: الإمامة: القيادة والقدوة (3) الإقامة: التهذيب، وأقمت الشيء وقومته فقام واستقام، أي: اعتدل واستوى وزال عوجه (4) المصالح:
(1) المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تقدم التعريف بالإمام والإمامة لغة واصطلاحًا (ص 41).
(4)
يُنظر: تهذيب اللغة (9/ 266)(قم)، ولسان العرب (12/ 496)(قوم).
المنافع، واحدتها: مصلحة وهي المنفعة، والإصلاح: إزالة الفساد عن الشيء فكان نافعًا ومناسبًا ومفردها مصلحة (1).
مفهوم المصالح في الاصطلاح: المصالح: وهي: المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق. فالمصلحة: كل ما فيه جلب منفعة أو دفع مضرة (2).
فإذا أسلمت الأمة قيادتها لكبير فيها، واجتمعت الكلمة على رأيه، وخضعت الآراء لحكمه، كان ذلك سببًا في إقامة المصالح الدينية والدنيوية التي اشتملت عليها الأصول الخمسة (3). وقد أجمع علماء الأمة على أن ذلك من أهم مقاصد الإمامة.
• من نقل الإجماع: الماوردي (450 هـ) قال: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع، وإن شذ عنهم الأصم"(4). ابن عبد البر (463 هـ) قال: "أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم"(5). ملا على القاري (1014 هـ) قال: "الإجماع على أن نصب الإمام واجب؛ لأن كثيرًا من الواجبات الشرعية يتوقف عليه، كتنفيذ أحكام المسلمين، وإقامة حدودهم،
(1) يُنظر: لسان العرب (2/ 516)(صلح)، والمعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار، تحقيق: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة، القاهرة (1/ 520)(صلح).
(2)
المستصفى للغزالي (ص 174).
(3)
قال الإمام الغزالي في بيانه للكليات الخمس: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعهما مصلحة"، المستصفى:(ص 174).
(4)
الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي (1/ 5)، ويُنظر: مقدمة ابن خلدون (ص 191)، والدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاء والأمراء، محمود بن إسماعيل الخيربيتي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، طبعة 1417 هـ (ص 114).
(5)
الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد على معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1421 هـ (1/ 285).
وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمعة والأعياد، وتزويج الصغير والصغيرة اللذين لا أولياء لهما، وقسمة الغنائم، ونحو ذلك من الأمور التي لا يتولاها آحاد الأمة" (1). الشوكاني (1250 هـ) قال:"إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية، فما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا، ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم، وتأمين سبلهم، وإنصاف مظلومهم من ظالمه، وأمرهم بما أمرهم اللَّه به، ونهيهم عما نهاهم اللَّه عنه، ونشر السنن، وإماتة البدع، وإقامة حدود اللَّه، فمشروعية نصب السلطان هي من هذه الحيثية"(2).
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع: الحنفية (3) والمالكية (4)، والشافعية (5)، والحنابلة (6)، والظاهرية (7).
• مستند الإجماع: يستدل على ذلك بأدلة وجوب نصب الإمام من الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول؛ فنصبه مؤذّ لاستقامة البلاد والعباد، دينًا ودنيا.
(1) مرقاة المفاتيح (7/ 228).
(2)
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، للشوكاني، (1/ 936).
(3)
مرقاة المفاتيح (7/ 228)، وبريقة محمودية، محمد بن محمد بن مصطفى الخادمي، دار إحياء الكتب العربية (6/ 211)، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار (1/ 238)، وحاشية رد المختار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، طبعة 1421 هـ (1/ 548).
(4)
البيان والتحصيل (17/ 59)، ومقدمة ابن خلدون (ص 191)، والذخيرة للقرافي (10/ 23)، والفواكه الدواني (1/ 23).
(5)
الأحكام السلطانية للماوردي (ص 5)، وغياث الأمم (ص 15)، وروضة الطالبين (10/ 43)، والمجموع شرح المهذب (19/ 192)، وأسنى المطالب (4/ 108).
(6)
السياسة الشرعية لابن تيمية (ص 217)، الإنصاف للمرداوي (10/ 234)، والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (4/ 292)، والأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 19)، ودليل الطالب لنيل المطالب (1/ 322).
(7)
المحلى لابن حزم (1/ 45)، والفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 72).
وقد نقلنا أدلة وجوب نصب الإمام من الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، والرد على من شذ عنه فيما سلف آنفًا (1). وفيما يلي مستند الإجماع من المعقول:
1 -
لأن الإمام هو القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (2).
2 -
ولأن اللَّه -تعالى- قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
قال ابن رشد: "المعنى في هذا أن الذين ينتهون من الناس عن محارم الناس مخافة السلطان، أكثر من الذين ينتهون عنها لأمر اللَّه، ففي الإمام صلاح الدين والدنيا"(3). ولقول اللَّه -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} (4)، لأن قوله:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة (5).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به يُنصر هذا الحق، فالكتاب يهدى والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا. ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء، والعلماء"(6).
3 -
ولأن أكثر الواجبات تتوقف عليه كالجمعة والأعياد (7).
(1) راجع أدلة وجوب نصب الإمام (ص 64 وما بعدها).
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي (ص 5).
(3)
البيان والتحصيل (17/ 59).
(4)
سورة الحديد، الآية:(25).
(5)
بريقة محمودية (1/ 216)، والبيان والتحصيل (17/ 59)، وأضواء البيان (1/ 21).
(6)
مجموع فتاوى ابن تيمية (18/ 157، 158).
(7)
بريقة محمودية (1/ 216)، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار (1/ 238)، وحاشية ابن عابدين (1/ 548).
قال ابن تيمية: "ولأن اللَّه -تعالى- أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، إقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة"(1).
4 -
ولأنه لا بد للمسلمين من حاكم؛ لئلا تذهب حقوق الناس (2).
قال الماوردي: "ثم لِمَا في السلطان من حراسة الدين والدنيا، والذب عنهما، ودفع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه، وزجر من شذ عنه بارتداد، أو بغى فيه بعناد، أو سعى فيه بفساد، وهذه أمور إن لم تنحسم عن الدين بسلطان قوي ورعاية وافية أسرع فيه تبديل ذوي الأهواء، وتحريف ذوي الآراء، فليس في بن زال سلطانه إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وهاية أثر، كما أن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضًا، والتناصر عليه حتمًا، لم يكن للسلطان لبث ولا لأيامه صفو، وكان سلطان قهر، ومفسدة دهر، ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت وزعيم الأمة؛ ليكون الدين محروسًا بسلطانه، والسلطان جاريًا على سنن الدين وأحكامه"(3).
5 -
ولأنه لو تُرك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يردعهم عن الباطل راح لهلكوا، ولاستحوذ أهل الفساد على العباد (4)، وكما يقول القرافي:"لأن عدمها -أي: عدم الإمامة- يفضي إلى الهرج والتظالم، وذلك يجب السعي في إزالته، ولا طريق في مجرى العادة إلا الإمامة"(5).
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية (ص 168).
(2)
مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى، مصطفى بن سعد السيوطي الريحيباني، المكتب الإسلامي، دمشق، 1961 م (6/ 265).
(3)
أدب الدنيا والدين، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: محمد كريم راجح، دار اقرأ، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405 هـ (ص 150).
(4)
أسنى المطالب شرح روض الطالب (8/ 265).
(5)
الذخيرة للقرافي (10/ 23).