الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤمنين مِن الحُزن، وعَلِم فَرَح المشركين من أهل مكة، وفَرَح المنافقين من أهل المدينة، فأنزل الله تعالى بالمدينة بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحُدَيبية:{إنّا فَتَحْنا لَكَ يوم الحُدَيبية فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} ، فنَسَخَت هذه الآية قوله:{وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، فأخبر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بما يفعل به، فنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا سمع عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين بنزول هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ الله قد غفر له ذنبه، وأنّه يفتح له على عدّوه، ويهديه صراطًا مستقيمًا، وينصره نصرًا عزيزًا، قال لأصحابه: يزعم محمدٌ أنّ الله غفر له ذنبه، وينصره على عدّوه! هيهات هيهات، لقد بقي له من العدّو أكثر وأكثر، فأين فارس والروم وهم أكثر عدوًّا وأشدّ بأسًا وأعزّ عزيزًا؟! ولن يظهر عليهم محمد، أيظنّ محمد أنهم مِثل هذه العصابة التي قد نزل بين أظهرهم وقد غلبهم بكذبه وأباطيله، وقد جعل لنفسه مخرجًا، ولا علم له بما يُفعل به ولا بمن اتّبعه، إنّ هذا لهو الخلاف المبين. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقال:«لقد نزلت عليّ آية لَهِي أحبُّ إلَيَّ مِمّا بين السماء والأرض» . فقرأ عليهم: {إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى آخر الآية، فقال أصحابه: هنيئًا مريئًا، يا رسول الله، قد علمنا الآن مالك عند الله، وما يفعل بك، فما لنا عند الله وما يفعل بنا؟ فنزلت سورة الأحزاب [47]:{وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} يعني: عظيمًا، وهي الجنة. وأنزل:{لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأَنْهارُ} [الفتح: 5]
(1)
. (ز)
تفسير الآية:
71091 -
عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة - قال: إنّ الله فضّل محمدًا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء?، وعلى أهل السماء. فقالوا: يا عبد الله بن عباس، بِمَ فضّله على أهل السماء؟ قال: إنّ الله قال لأهل السماء: {ومَن يَقُلْ مِنهُمْ إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} . قالوا: فما فضله على الأنبياء?؟ قال: قال الله عز وجل: {وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرْسَلْناكَ إلّا كافَّةً
(1)
تفسير مقاتل بن سليمان 4/ 65 - 66، وفي تفسير الثعلبي 9/ 42 نحوه مختصرًا.
لِلنّاسِ} [سبأ: 28]، فأرسله إلى الجنّ والإنس
(1)
. (ز)
71092 -
عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة-: ما أمَّن اللهُ مِن خلقه أحدًا إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم، قال:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} ، وقال للملائكة:{ومَن يَقُلْ مِنهُمْ إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]
(2)
. (ز)
71093 -
عن عامر [الشعبي] =
71094 -
وأبي جعفر [الباقر]، في قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ} قال: في الجاهلية، {وما تَأَخَّرَ} قال: في الإسلام
(3)
. (13/ 465)
71095 -
قال عطاء الخُراسانيّ: {ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ} يعني: ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، {وما تَأَخَّرَ} ذنوب أمتك بدعوتك
(4)
[6049]. (ز)
[6049] بيَّن ابنُ تيمية (6/ 6 - 9 بتصرف) أن هذا القول «وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين» . ثم انتقده قائلًا: «ويَظُنُّ بعضُ الجهال أنّ هذا معنًى شريف، وهو كذِب على الله، وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه» . وبيَّن بطلانه -مستندًا إلى القرآن، والسنة، والدلالة العقلية- من وجوه:«الأول: أنّ آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم، فكيف يقول له: {إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ليغفر الله لك ذنب آدم؟! الثاني: أنّ الله يقول: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الإسراء: 15]، فكيف يضافُ ذنبُ أحدٍ إلى غيره؟! الثالث: أنّ في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم: «يأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك مِن روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربك. فيذكر خطيئته، ويأتون نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . فكان سبب قبول شفاعته كمال عبوديته، وكمال مغفرة الله له، فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف. الرابع: أنّ هذه الآية لما نزلت قال أصحابه رضي الله عنهم: يا رسول الله، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِمْ} [الفتح: 4]. فلو كان ما تأخر من ذنوبهم لقال: هذه الآية لكم. الخامس: كيف يقول عاقل: إنّ الله غفر ذنوب أمته كلها، وقد علم أنّ منهم مَن يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة؟! السادس: أنه قد ميَّز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله: {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ} ، فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له».
_________
(1)
أخرجه الدارمي في سننه 1/ 193 - 194 (47).
(2)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (ط: دار الثقافة العربية) 5/ 96 (2705).
(3)
عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(4)
تفسير الثعلبي 9/ 42، وتفسير البغوي 7/ 298.
71096 -
قال مقاتل بن سليمان: {لِيَغْفِرَ} يعني: لكي يغفر {لَكَ اللَّهُ} بالإسلام {ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ} يعني: ما كان في الجاهلية، {وما تَأَخَّرَ} يعني: وبعد النبوة
(1)
. (ز)
71097 -
عن سفيان، قال: بلغنا في قول الله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} قال: {ما تَقَدَّمَ} ما كان في الجاهلية، {وما تَأَخَّرَ} ما كان في الإسلام؛ ما لم يفعله بعد
(2)
[6050]. (13/ 466)
[6050] رجَّح ابنُ جرير (21/ 236 - 237) -مستندًا إلى القرآن، والسنة، والدلالة العقلية- أن قوله تعالى:{إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} معناه: «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا لِتَشْكُر ربَّك وتحمَدَه على ذلك، فيغفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر» . وعلَّل ذلك بقوله: «وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عز وجل: {إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ ورَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أفْواجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا} [النصر: 1 - 3] على صحته، إذ أمَرَه -تعالى ذِكره- أن يُسَبِّح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنّه توابٌ على مَن فعل ذلك، ففي ذلك بيانٌ واضحٌ أنّ قوله -تعالى ذكره-: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ} إنما هو خبرٌ من الله -جلَّ ثناؤه- نبيَّه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شُكره له على النعمة التي أنعم بها عليه، من إظهاره له ما فتح؛ لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها» . ثم استشهد بحديث عائشة، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مئة مرة» . ثم قال: «ولو كان القول في ذلك أنّه مِن خبر الله -تعالى ذكره- نبيَّه أنه قد غَفَر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر، على غير الوجه الذي ذكَرْنا، لم يكن لأمره إيّاه بالاستغفار بعد هذه الآية ولا لاستغفار نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم ربَّه جل جلاله من ذنوبه بعدها معنًى يُعقَل؛ إذ الاستغفار معناه: طلبُ العبد من ربِّه عز وجل غفران ذنوبه، فإذا لم يكن ذنوبٌ تُغْفَر لم يكن لمسألته إيّاه غفرانها معنًى؛ لأنه من المُحال أن يقال: اللهم، اغفر لي ذنبًا لم أعْمَلْه» .
وذكر ابنُ عطية (7/ 666) أن «المراد هنا: أنّ الله تعالى فتح لك لكي يجعل لك ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك. فكأنها لام صيرورة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «لقد أُنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبُّ إليَّ من الدنيا» ».
ثم انتقد قول ابن جرير -مستندًا إلى أحوال النزول، والدلالة العقلية- قائلًا:«وهذا ضعيفٌ من وجهين: أحدهما: أنّ السورة {إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ} إنما نزلت في آخر مدة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ناعيةً له نفسه حسب ما قال ابن عباس رضي الله عنهما، عندما سأل عمرُ رضي الله عنهما عن ذلك. والآخر: أنّ تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالتشريف كان يذهب، لأنّ كلّ واحد من المؤمنين مخاطبٌ بهذا الذي قال الطبري، أي: سبِّح واستغفر لكي يغفر الله لك، ولا يقتضي هذا أنّ الغفران قد وقع، وما قدَّمناه أولًا يقتضي وقوع الغفران للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قول الصحابة رضي الله عنهم له صلى الله عليه وسلم حين قام حتى تورَّمت قدماه: أتفعل هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!» . فهذا نصٌّ في أن الغفران حكمٌ قد وقع».
وانتقد ابنُ عطية (7/ 667) قول سفيان قائلًا: «وهذا ضعيف، وإنما المعنى: التشريف بهذا الحكم، ولو لم تكن له ذنوب البتَّة» .
ثم ذكر قول عطاء، ونقل عن بعضهم أن المعنى:«{ما تَقَدَّمَ} هو قوله عليه الصلاة والسلام يوم بدر: «اللهم، إن تهلِك هذه العصابة لم تُعبَد» . {وما تَأَخَّرَ} هو قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين: «لن نُغلَبَ اليوم من قِلَّة» ». ثم انتقد ذلك قائلًا: «وهذا كلُّه مُعتَرَض» .
_________
(1)
تفسير مقاتل بن سليمان 4/ 66.
(2)
عزاه السيوط إلى عَبد بن حُمَيد.