الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
(24)}
نزول الآية وتفسيرها
71339 -
عن عبد الله بن مُغفَّل -من طريق ثابت- قال: كُنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع مِن أغصان تلك الشجرة على ظهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب وسُهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَليٍّ:«اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» . فأخذ سُهيل بيده، قال: ما نعرف الرحمن ولا الرحيم، اكتب في قضيّتنا ما نعرف. قال:«اكتب: باسمك اللهم» . وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة. فأمسك سُهيل بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنتَ رسوله، اكتب في قضيّتنا ما نعرف. فقال:«اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله» . فبَيْنا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًّا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأسماعهم -ولفظ الحاكم: بأبصارهم-، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل جئتم في عَهد أحد -أو هل جعل لكم أحد أمانًا-؟» . فقالوا: لا. فخَلّى سبيلهم؛ فأنزل الله: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}
(1)
. (13/ 501)
71340 -
عن سَلَمة بن الأكْوع -من طريق ابنه إياس- قال: قَدمنا الحُدَيبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، ثم إنّ المشركين مِن أهل مكة راسلونا في الصُّلح، فلمّا اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيتُ شجرةً، فاضطجعتُ في ظلها، فأتاني أربعةٌ مِن مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتُهم، وتحوّلتُ إلى شجرة أخرى، فعلّقوا سلاحهم، واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قُتِل ابن زنيم. فاخَترَطتُ سيفي، فاشتددتُ على أولئك الأربعة وهم رُقود، فأخذتُ سلاحهم، وجعلتُه في يدي، ثم قلتُ:
(1)
أخرجه أحمد 27/ 354 - 355 (16800)، والنسائي في الكبرى 10/ 265 (11447)، والحاكم 2/ 500 (3716) بنحوه، وابن جرير 21/ 288 - 289.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح، على شرط الشيخين» . وقال الهيثمي في المجمع 6/ 145 (10182): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» .
والذي كرَّم وجه محمد، لا يرفع أحدٌ منكم رأسَه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه. ثم جئتُ بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمّي عامر برجل مِن العَبَلات
(1)
-يقال له: مِكْرَز- من المشركين يقوده، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «دَعُوهم؛ يكون لهم بدء الفجور وثِناه
(2)
». فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله:{وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}
(3)
. (13/ 500)
71341 -
عن عبد الله بن عباس -من طريق عكرمة- قال: إنّ قريشًا كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يُطِيفوا بعسكر رسول الله عام الحُدَيبية ليصيبوا مَن أصحابه أحدًا، وأُخِذوا أخْذًا، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخَلّى سبيلهم، وقد كانوا يرمون عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنَّبل؛ فأنزل الله تعالى:{وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية
(4)
. (ز)
71342 -
عن أنس بن مالك -من طريق ثابت- قال: لَمّا كان يوم الحُدَيبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا مِن أهل مكة في السّلاح مِن قِبَل جبل التّنعيم، يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، فأُخذوا، فعفا عنهم؛ فنزلت هذه الآية:{وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}
(5)
. (13/ 489)
71343 -
عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة، ومروان بن الحكم -من طريق عروة بن الزبير- قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُدَيبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة قلّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهَدْي وأَشْعَرَه، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينًا له مِن خُزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بغدير
(1)
العَبَلات -بالتحريك-: اسْمُ أُميَّة الصغرى من قريش. النهاية (عبهل).
(2)
أي: أوله وآخِره. النهاية (بدأ)، (ثنا).
(3)
أخرجه مسلم 3/ 1433 - 1440 (1807) مطولًا.
(4)
أخرجه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام 2/ 314 - ، وابن جرير 21/ 289، والثعلبي 9/ 54، عن ابن إسحاق قال: حدّثني من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس به.
إسناده ضعيف؛ لإبهام شيخ ابن إسحاق، وجهالة حاله.
(5)
أخرجه مسلم (1808)، وابن أبي شيبة 14/ 492، وأحمد 19/ 258، 21/ 465 (12227، 14090)، وعبد بن حميد (1206 - منتخب)، وأبو داود (2688)، والترمذي (3264)، والنسائي في الكبرى (11510)، وابن جرير 21/ 287، والبيهقي في الدلائل 4/ 141. وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وابن مردويه.
الأشطاط قريبًا من عُسفان أتاه عينُه الخُزاعي، فقال: إنِّي قد تركتُ كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعًا، وهم مقاتلوك، وصادُّوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أشيروا عَلَيَّ؛ أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا مَوتورين مَحْزونين، وإن نَجَوا تكن عُنقًا قطعها الله، أم ترون أن نؤُمّ البيت؛ فمَن صدَّنا عنه قاتلناه؟» . فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، يا رسول الله، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن مَن حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فروحوا إذن» . فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ خالد بن الوليد بالغميم، في خيلٍ لقريش طليعة
(1)
؛ فخذوا ذات اليمين». فواللهِ، ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بقَتَرَة
(2)
الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيّة التي يهبط عليهم منها برَكت به راحلته، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «حلْ حلْ
(3)
». فألحّتْ
(4)
فقالوا: خَلَأتِ
(5)
القَصْواء
(6)
. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خَلَأتِ القصواء، وما ذاك لها بُخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل» . ثم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطّةً يُعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتُهم إياها» . ثم زجرها، فوثبتْ به، فعدل بهم، حتى نزل بأقصى الحُدَيبية على ثَمَدٍ قليل الماء
(7)
إنما يتَبَرّضُه الناس تَبَرُّضًا
(8)
، فلم يلبثه الناس أنْ نَزحوه، فشُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا مِن كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. قال: فواللهِ، ما زال يجيش لهم بالرِّيّ حتى صَدَروا عنه. فبينما هم كذلك إذ جاء بديلُ بن ورقاء الخُزاعيّ في نَفرٍ من قومه مِن خُزاعة، وكانوا عَيْبَة
(1)
الطليعة: مقدمة الجيش. فتح الباري 5/ 335.
(2)
قترة الجيش: غبرته. النهاية (قتر).
(3)
حل حل -بفتح المهملة وسكون اللام-: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. فتح الباري 5/ 335.
(4)
أي: لَزِمتْ مكانها. النهاية (لحح).
(5)
خَلأَتِ الناقة: بَرَكَت، أو حَرَنَت من غير علة. وقيل: إذا لم تَبْرَحْ مكانها. لسان العرب (خلأ).
(6)
القصواء: لقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. النهاية (قصا).
(7)
ثمد -بفتح المثلثة والميم-: حفيرة فيها ماء مثمود، أي: قليل، وقوله: قليل الماء. تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول: إن الثمد الماء الكثير. وقيل: الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف. فتح الباري 5/ 336 - 337.
(8)
التربض: هو الأخذ قليلًا قليلًا، والبَرْضُ: اليسير من العطاء، وقال صاحب العين: هو جمع الماء بالكفين. فتح الباري 5/ 337.
نُصْحِ
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أهل تِهامة، فقال: إني تركتُ كعب بن لؤيّ، وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد
(2)
مياه الحُدَيبية، معهم العُوذُ المطافيل
(3)
، وهم مُقاتلوك وصادُّوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نجئ لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشًا قد نَهِكَتهم الحرب، وأضَرّتْ بهم، فإن شاءوا مادَدْتُهم مُدّة ويُخَلُّوا بيني وبين الناس، فإنْ أظْهر فإن شاءوا أن يَدْخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا
(4)
، وإنْ هُم أبَوا -فوالذي نفسي بيده- لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالِفَتي
(5)
، أو ليُنفِذَنّ الله أمره». فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلَق حتى أتى قريشًا، فقال: إنّا قد جئناكم مِن عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولًا، فإن شئتم نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تُحدّثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هاتِ ما سمعتَه يقول. قال: سمعتُه يقول كذا وكذا. فحدَّثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عُروة بن مسعود الثَّقَفيّ، فقال: أيْ قومِ، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: أوَلستُ بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّي استَنفرتُ أهلَ عكاظ، فلمّا بلَّحُوا
(6)
عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإنّ هذا قد عرض عليكم خُطّة رُشْدٍ؛ فاقبلوها، ودَعُوني آتِه. قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يُكلّم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قوله لبُدَيل، فقال عُروة عند ذلك: أي محمد، أرأيتَ إن استأْصلْتَ قومك، هل سمعتَ أحدًا مِن العرب اجتاح أهلَه قبلك؟! وإن تكن الأخرى -فواللهِ- إني لأرى وجوهًا وأرى أشْوابًا
(7)
من الناس خَليقًا أن يَفِرُّوا ويَدَعُوك. فقال له أبو بكر: امْصُص بَظَر
(8)
اللّات، أنحن نَفِرّ عنه ونَدَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي
(1)
العيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها، أي: أنهم موضع النصح له والأمانة على سره. فتح الباري 5/ 337.
(2)
الأعداد: جمع عِدّ، وهو الماء الذي لا انقطاع له. فتح الباري 5/ 338.
(3)
العوذ -بضم المهملة وسكون الواو-: جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها. فتح الباري 5/ 388.
(4)
أي: استراحوا وقووا. فتح الباري 5/ 338.
(5)
السالفة: صفحة العنق، وكني بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه. فتح الباري 5/ 338.
(6)
بلحوا: امتنعوا. فتح الباري 5/ 339.
(7)
الأشواب: الأخلاط من أنواع شتى. فتح الباري 5/ 340.
(8)
البظر: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. فتح الباري 5/ 340.
بيده، لولا يدٌ كانت لكَ عندي لم أجْزِك بها لأجبْتُك. قال: وجعل يُكلّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكُلّما كَلّمه أخذ بلحيته، والمُغيرة بن شُعبة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المِغْفَر، فكُلّما أهوى عروةُ بيده إلى لحية النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَرب المُغيرة يده بنَعل السيف، وقال: أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرفع عُروة رأسه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغيرة بن شُعبة. فقال: أي غُدَر، ألستُ أسعى في غَدْرَتك؟! وكان المُغيرة صَحِب قومًا في الجاهلية، فقتَلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أمّا الإسلام فأقبل، وأمّا المال فلستُ منه في شيء» . ثم إنّ عُروة جعل يَرمُق أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بعينيه. فقال: فواللهِ، ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخامة إلا وقعتْ في كفّ رجل منهم، فدَلَك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمْره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضُوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النّظر تعظيمًا له. فرجع عُروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، واللهِ، لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قَيْصر وكِسْرى والنَّجاشي، واللهِ، إن رأيتُ مَلِكًا قطّ يُعظِّمه أصحابه ما يُعظّم أصحابُ محمدٍ محمدًا، واللهِ، إن يَتنَخّم نُخامة إلا وقعتْ في كفّ رجل منهم، فدَلَك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضُوئه، وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النَّظر تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خُطّة رُشْدٍ، فاقبلوها. فقال رجل مِن بني كنانة: دعوني آتِه. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا فلان، وهو من قوم يُعظِّمون البُدْن، فابعثوها له» . فبُعِثتْ له، واستقبله القوم يُلَبُّون، فلمّا رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيتُ البُدْن قد قُلِّدتْ وأُشْعِرتْ، فما أرى أن يُصدُّوا عن البيت. فقام رجل يُقال له: مِكْرَز بن حفص. فقال: دعوني آتِه. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَز، وهو رجل فاجر» . فجعل يُكلّم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يُكلّمه إذ جاء سُهيل بن عمرو، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«قد سَهُل لكم مِن أمركم» . فجاء سُهَيل، فقال: هاتِ اكتبْ بيننا وبينك كتابًا. فدعا الكاتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» . قال سُهيل: أما الرحمن، فواللهِ، ما أدري، ما هي؟ ولكن اكتب: باسمك، اللهم؛ كما كنتَ تكتب. فقال المسلمون: واللهِ، ما نكتبها إلا: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتب: باسمك اللهم» . ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسول الله» . فقال
سُهيل: واللهِ، لو كُنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إني لَرسول الله وإن كذَّبتموني، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» . -قال الزُّهريّ: وذلك لقوله: «لا يسألوني خُطّة يُعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتُهم إياها» - فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بيننا وبين البيت، فنطوف به» . قال سُهيل: واللهِ، لا تتحدث العرب أنّا أُخِذنا ضُغْطة
(1)
، ولكن لك مِن العام المقبل. فكتب، فقال سُهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل، وإنْ كان على دينك، إلا رددّته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سُهيل بن عمرو يَرْسُفُ
(2)
في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سُهيل: هذا -يا محمد- أول مَن أقاضيك عليه أن تَرُدّ إلَيَّ. فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نقضِ الكتاب بعد» . قال: فواللهِ، لا أصالحك على شيء أبدًا. قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:«فأَجِزْه لي» . قال: ما أنا بمجيزه. قال: «بلى، فافعل» . قال: ما أنا بفاعل. فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلمًا؟! ألا ترون ما لقيتُ في الله؟! وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في الله، فقال عمر بن الخطاب: واللهِ، ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذ، فأتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألستَ نبي الله حقًّا؟ قال: «بلى» . فقلتُ: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» . قلت: فلِمَ نُعطي الدَّنيّة في ديننا إذن؟ قال: «إني رسول الله، ولستُ أعْصِيه، وهو ناصري» . قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، أفأخبرتُك أنك تأتيه العام؟» . قلتُ: لا. قال: «فإنك آتيه، ومُطوِّف به» . فأتيتُ أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلتُ: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلتُ: فلِمَ نعطي الدَّنِيّة في ديننا إذن؟! قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربَّه، وهو ناصره، فاستمسك بغَرْزه تفُز حتى تموت، فواللهِ، إنّه لعلى الحق. قلتُ: أوليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبَرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه، ومُطوِّف به. قال عمر: فعملتُ لذلك أعمالًا، فلما فرغ من قضية الكتاب قال
(1)
ضُغطة: أي: قهرًا. فتح الباري 5/ 343.
(2)
يرسف: يمشي مشيًا بطيئًا بسبب القيد. فتح الباري 5/ 344.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا، فانحروا، ثم احلِقوا» . فواللهِ، ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقُم منهم أحد قام فدخل على أُمّ سَلَمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أُمّ سَلَمة: يا نبي الله، أتحبّ ذلك؟ قال:«نعم» . قالت: فاخرج، ثم لا تُكلّم أحدًا منهم حتى تَنحر بُدنك، وتدعو حالِقك فيحلِقك. فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فخرج، فلم يُكلّم أحدًا منهم كلمة حتى فعل ذلك؛ نَحر بُدنه، ودعا بحالِقه فحلَقه، فلمّا رأَوا ذلك قاموا فنَحَروا، وجعل بعضهم يحلِق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتُل بعضًا غمًّا، ثم جاءه نسوة مؤمنات؛ فأنزل الله:{يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ} حتى بلغ: {بِعِصَمِ الكَوافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشِّرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أُميّة، ثم رجع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بَصير -رجل من قريش- وهو مُسلم، فأَرسلوا في طَلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلتَه لنا! فدفعه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى الرّجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحُلَيفة، فنزلوا يأكلون مِن تمْرٍ لهم، فقال أبو بَصير لأحد الرّجلين: واللهِ، إنِّي لأرى سيفك هذا -يا فلان- جيِّدًا. فاستلّه الآخر، وقال: أجَلْ، واللهِ، إنّه لَجَيِّد، لقد جَرَّبتُ به وجَرَّبتُ. فقال له أبو بَصير: أرِني أنظر إليه. فأمْكَنه منه، فضربه حتى بَرَدَ
(1)
، وفَرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدُو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:«لقد رأى هذا ذُعرًا» . فلما انتهى إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: قد قُتل -واللهِ- صاحبي، وإنِّي لمقتول. فجاء أبو بَصير، فقال: يا نبي الله، قد أوفى الله بذِمّتك، قد رَدَدتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ويْلُ أُمِّهِ
(2)
، مِسْعَر حربٍ لو كان له أحد!». فلمّا سمع ذلك عرف أنه سيردّه إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر
(3)
. قال: وينفَلِتُ منهم أبو جندل، فلحِق بأبي بصير، فجعل لا يخرج رجلٌ مِن قريش رجل قد أسلم إلا لحِق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، قال: فواللهِ، ما يسمعون بِعِيرٍ لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلتْ قريش إلى النبِيّ صلى الله عليه وسلم تُناشده اللهَ والرَّحِم لَما أرسل إليهم، فمَن أتاه منهم فهو آمن. فأرسَل إليهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛
(1)
برد: خمدت حواسه، وهي كناية عن الموت؛ لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد: السكون. فتح الباري 5/ 349.
(2)
ويلُ أمِّه: كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم. فتح الباري 5/ 350.
(3)
سيف البحر: ساحله. فتح الباري 5/ 350.
فأنزل الله: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} حتى بلغ: {حَمِيَّةَ الجاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24 - 26]، وكانت حَمِيّتهم أنهم لم يُقِرّوا أنّه نبيُّ الله، ولم يقروا بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» ، وحالوا بينه وبين البيت
(1)
. (13/ 490)
71344 -
عن ابن أبْزى -من طريق جعفر- قال: لَمّا خرج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالهَدْي، وانتهى إلى ذي الحُلَيفة؛ قال له عمر: يا نبي الله، تدخل على قومٍ لك حربٌ بغير سلاح ولا كُراع! فبعث إلى المدينة، فلم يَدَعْ فيها سلاحًا ولا كُراعًا إلا حَمَله، فلمّا دنا من مكة منعُوه أن يدخُل، فسار حتى أتى مِنًى، فنزل بمِنًى، فأتاه عينُه أنّ عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد:«يا خالد، هذا ابنُ عمك قد أتاك في الخيل» . فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله -فيومئذ سُمّي: سيف الله-، يا رسول الله، ارم بي أين شئت. فبعثه على خيلٍ، فلقيه عكرمة في الشِّعب، فهَزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية، فهَزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة، فهَزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله:{وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية. قال: فكفّ الله النَّبِيّ عنهم من بعد أنْ أظْفره عليهم؛ لبقايا من المسلمين كانوا بَقُوا فيها؛ كراهية أن تَطأهم الخيل
(2)
[6066]. (13/ 502)
71345 -
عن محمد بن السّائِب الكلبي، مثله
(3)
. (ز)
71346 -
عن عكرمة مولى ابن عباس -من طريق محمد بن إسحاق-: أنّ قريشًا
[6066] انتقد ابنُ كثير (13/ 110) -مستندًا إلى دلالة التاريخ، والدلالة العقلية- هذا الأثر قائلًا:«وهذا السياق فيه نظر؛ فإنه لا يجوز أن يكون عام الحُدَيبية؛ لأنّ خالدًا لم يكن أسلم، بل قد كان طليعة المشركين يومئذ، كما ثبت في الصحيح. ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء؛ لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام المقبل فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام، فلما قدم لم يمانعوه، ولا حاربوه ولا قاتلوه. فإن قيل: فيكون يوم الفتح؟ فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح؛ لأنه لم يَسُقْ عام الفتح هديًا، وإنما جاء محاربًا مقاتلًا في جيش عَرَمْرَمْ، فهذا السياق فيه خلل، قد وقع فيه شيء فليتأمل» .
_________
(1)
أخرجه البخاري 3/ 193 - 197 (2731، 2732)، 5/ 126 - 127 (4178 - 4182)، وابن جرير 21/ 296 - 304. وأورده الثعلبي 9/ 55 - 56.
(2)
أخرجه ابن جرير 21/ 291، وابن أبي حاتم -كما في تفسير ابن كثير 7/ 324 - . وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
(3)
تفسير الثعلبي 9/ 54.
كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يُطِيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصيبوا لهم مِن أصحابه أحَدًا، فأُخِذوا أخْذًا، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا رَموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنّبل. قال ابن حميد: قال سَلَمة: قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية
(1)
. (ز)
71347 -
عن قتادة بن دعامة -من طريق سعيد- {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} ، قال: بطن مكة: الحُدَيبية. ذُكر لنا: أنّ رجلًا مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقال له: زنيم، اطّلع الثّنِيّة زمان الحُدَيبية، فرماه المشركون، فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا، فأتَوا باثني عشر فارسًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل لكم عهدٌ أو ذِمَّة؟» . قالوا: لا. فأرسلهم؛ فأنزل الله في ذلك: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية
(2)
. (13/ 490)
71348 -
قال محمد بن السّائِب الكلبي: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} كان هذا يوم الحُدَيبية؛ فإنّ المشركين مِن أهل مكة كانوا قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيءٌ مِن رَمْيِ نَبْلٍ وحجارة بين الفريقين، ثم هزم الله المشركين وهم ببطن مكة، فهُزموا حتى دخلوا مكة، ثم كفّ الله بعضهم عن بعض
(3)
. (ز)
71349 -
قال مقاتل بن سليمان: ثم قال: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} يعني: كفار مكة يوم الحُدَيبية {بِبَطْنِ مَكَّةَ} يوم الحُدَيبية، يعني: ببطن أرض مكة كلّها، والحرم كله مكة {مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وقد كانوا خرجوا يقاتلون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فهزمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالطّعن والنّبل حتى أدخلهم بيوت مكة، {وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}
(4)
. (ز)
71350 -
عن محمد بن إسحاق -من طريق وهب بن جرير، عن أبيه- قال: قوله: {من بعد أن أظفركم عليهم} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ظَفر بهم وتجاوز عنهم، وكانوا أربعين رجلًا مِن قريش خرجوا يتجسّسون الأخبار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبية،
(1)
أخرجه ابن جرير 21/ 289.
(2)
أخرجه ابن جرير 21/ 290 - 291، وعبد بن حميد -كما في الإصابة 2/ 570 - .
(3)
ذكره يحيى بن سلام -كما في تفسير ابن أبي زمنين 4/ 255 - .
(4)
تفسير مقاتل بن سليمان 4/ 54.