الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن من عجيب أمر هؤلاء المعطلة النفاة لعلو الله على عرشه أنهم يتوهمون من
إثبات العلو إثبات المكان لله عز وجل، وهذا مما يدل على بالغ جهلهم! لأن الله
تعالى كان قبل كل شيء ثم خلق الأمكنة والسماوات والأرض وما بينهما، وقد
صح في المعقول وثبت بالواضح من الدليل أنه كان في الأزل لا في مكان - كما
قال حافظ الأندلس ابن عبد البر رحمه الله في "التمهيد"(7/135 - 136) -، فهو
تعالى ليس في مكان أزلاً وأبداً.
ومع هذا الجهل البالغ فقد وقعوا فيما منه فروا، لقد فروا مما توهموه ضلالاً - وهو
الحق يقيناً، أن الله فوق المخلوقات كلها ومنها الأمكنة -، فوقعوا في الضلال الأكبر
حين قالوا: إنه في كل مكان، وافترى بعض الإباضية في ذلك حديثاً نسبوه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم كما سترى في الحديث الذي بعده -. والله المستعان.
6332
- (لا تَتَفَكَّروا في الله، فإنه لا مِثْلَ له، ولا شَبِيْهَ ولا نظيرَ،
ولا تَضْربوا لله الأمثالَ، ولا تَصِفوه بالزَّوالِ، فإنه بكل مكانٍ) .
موضوع.
قال الربيع في مسنده (3/217) : وبلغنا عن أبان بن [أبي](*)
عياش عن أنس بن مالك قال:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم على قوم جلوس، فقال ما أجلسكم؟ فقالوا:نتفكر في
الله، فقال صلى الله عليه وسلم:
…
فذكره.
قلت وهذا موضوع، آفته أبان بن [أبي] عياش، وهو متروك - كما قال الذهبي
والعسقلاني -. وجملة التفكر قد رويت من طرق أخرى، بدا لي من مجموعها
أنها ترتقي إلى مرتبة الحسن، ولذلك خرجته في "الصحيحة"(1788) .
(*) سقطت من قلم الشيخ رحمه الله في الموضعين. (الناشر) .
وأما سائر هذا الحديث وبخاصة الجملة الأخيرة منه فإنها باطلة، وهي من
وضع الجهمية والمعطلة لصفات الله عز وجل، الذين يتأولونها غير تأويلها المعروف
عند السلف، ويعبرون عن المجيء المصرح به في القرآن والنزول المتواتر عن النبي
صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث-، أو الانتقال- كما يفعل ابن الجوزي وغيره -،
ثم يقولون: هذا من صفات المخلوقات، فلا يجوز وصف الله بذلك! والحقيقة أن
المجيء والنزول لا يجوز تأويله بما ذكروا، وهو صفة لله، وصف بها نفسه، نصفه بها
دون تشبيه ولا تعطيل، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، فهم وقعوا حين
عبَّروا بما تقدم في التشبيه، ففروا منه إلى التعطيل.
فما أحسن ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الأول من كتابه العظيم
"منهاج السنة":
"المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، المشبه أعشى، والمعطل أعمى".
ومما يبطل هذاالحديث قوله: "فإنه في كل مكان"، فإن الله عز وجل كان ولا
مكان، وهو الغني عن العالمين - كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله - فتنبه!
ولما رأى بعض المعطلة المعاصرين أن وصف الله عز وجل بأنه في كل مكان لا
يقف أمام أدلة الشرع والعقل - كما سبق هناك -، لجأ إلى التستر والمراوغة والتدليس،
فقال ذلك الجاهل الغماري في تعليقه (ص 127) :
"وهنا أمر مهم جداً وهو: أننا لا نقول بأن الله موجود في كل مكان البتة، بل
نكفر من يقول ذلك، ونعتقد أن الله موجود بلا مكان، لأنه خالق المكان"!
وفي هذا الكلام من هذا الجاهل المدلس أمور مهمة، يجب التنبيه عليها أو
على بعضها على الأقل، مبتدئاً منها بالأهم:
أولاً: اعتقاده بأن الله موجود بلا مكان: تدليس خبيث، لأنها كلمة حق
أريد بها باطل، لأن ظاهرها تنزيه الخالق سبحانه وتعالى عن الحلول في المكان
المخلوق الذي يقول به المعتزلة والإباضية - كما فِي حَدِيثِهم هذا -، وهذا التنزيه حق
واجب - كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله -، ولكن الذي يرمي إليه هذا المدلس
ويقصده هو تعطيل صفة علو الله تبارك وتعالى على عرشه والمخلوقات كلها، وكونه
تعالى فوقها، فإنه من ضلاله البالغ أنه يسمي هذه الفوقية مكاناً تمهيداً لنفيها!
وتعليقاته كلها تدور حول هذا النفي، ويعطل كل دلالات الآيات والأحاديث
بتأويلها! وتعطيل معانيها! ولنقدم على ذلك مثالاً واحداً، ألا وهو قوله تعالى:
{أأمنتم من في السماء} ، فإنه يعطله بمثل قوله: "إما أن يقال
…
، وإما أن
يقال:
…
"!! ثم قال (ص 139) :
وقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} مؤول عند المجسمة بـ (من على
السماء)
…
" إلخ.
ونقول هذا ليس تأويلاً - أيها الجاهل المتعالم! - كما بينه العلماء، حتى
بعض المؤولة لبعض النصوص، كالحافظ البيهقي الذي قال في أكثر من موضع من
كتابه "الأسماء والصفات"(377 و411 و421) ، وكذلك في كتابه الآخر
"الاعتقاد"(ص 113) :
"فمعنى الآية: من على العرش، كما صرح به في سائر الآيات".
وذكر في الباب الآيات التي أشار إليها، فهل الإمام البيهقي - أيها الضال
المضل! المكفر لأئمة المسلمين! - هو أيضاً مجسم عندك، لأن القائلين بعلو الله
على خلقه هم مجسمة عندك، والمجسمة كفار لديك؟!
ثم أيَّد ضلاله بكلام نقله من "تفسير البحر المحيط" لأبي حيان (8/302) ،
لم ينقله بتمامه، فإنه يعلم أنه لو فعل، لافتضح وانكشف زيغه، فقد قال أبو
حيان في الآية المتقدمة ما نصه:
"المعنى: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو المتعالي عن المكان". تعالى
الله عما يقولون علواً كبيراً.
هذا التفسير من هذا المعطل هو الذي ضل به هذا الجاهل، ومن قبله شيخه
الغماري المسمى بعبد الله، الذي أنكر حديث الجارية وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لها بالإيمان
لشهادتها أن الله في السماء، مقلداً في ذلك تأويل أبي حيان للآية بالتأويل المتقدم،
فقال - هداه الله -:
"أماكون الله (في السماء) فكانت عقيدة العرب في الجاهلية، وكانوا مشركين،
فكيف تكون دليلاً على الإسلام"!!
انظر تمام كلامه، بل ضلاله في "الصحيحة" تحت الحديث (3161) .
وليس البيهقي وحده - ممن يظهر ذاك الضال تبجيله - فسر الآية بأنه تعالى
على السماء، بل إنه قد تبعه على ذلك جمع من العلماء الفضلاء - الذين نظن
أنه لا يستطيع الضال أن يرميهم بالتجسيم -، مثل حافظ الأندلس ابن عبد البر فإنه
صرح في "التمهيد"(7/130) أن معنى الآية - كما تقدم عن البيهقي، فقال -:
"فمعناه من على السماء، يعني على العرش
…
".
وقال (7/129) تعليقاً على حديث النزول الإلهي:
"وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع
سماوات - كما قالت الجماعة -، وهو من حجتهم على المعتزلة والجمهية في
قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما
قاله أهل الحق في ذلك
…
".
ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك، ورد على المعتزلة الذين ادعوا المجاز في آية
الاستواء وغيرها في بحث واسع مفيد جداً، فليراجع.
بل إن ابن الجوزي نفسه قد سلك سبيل الجماعة في تفسير الآية خلافاً
لحيده عنهم في "دفعه"! فقال في تفسيره "زاد المسير"(4/322) :
"قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء وهو الله عز وجل ".
فلم يقل - كما قال مقلِّد ذاك الضال -:
"أأمنتم من تزعمون أنه في السماء"!
وفي الواقع إني لأشفق على هذا الرجل، لعرامته في ضلاله، وغلوه وجرأته
في مخالفة أئمة المسلمين، بل وتكفيرهم! وأخذه باقوال المعتزلة وأشباههم من
الضالين قديماً وحديثاً، فهو لا يحسن أن يأخذ من الأقوال المختلفة إلا أضلها،
ويعرض عما كان منها صواباً محضاً، الأمر الذي يذكرني بذاك الرجل الذي أتى
راعياً فقال: أعطني شاة من غنمك؟ فقال له: اذهب فخذ بأذُن خيرها. فذهب
فأخذ بأذن كلب الغنم! وإني لأظنه أنه لم يقل يوماً ما داعياً ربه اقتداءً بنبيه صلى الله عليه وسلم:
"للَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ! فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ! عَالِمَ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ! أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ
فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (*) .
(*) كذا في الأصل عند الشيخ رحمه الله تعالى، لم يأتِ بـ (ثانياً)
…
الخ. (الناشر)