الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهما مخرجان في كتابي "آداب الزفاف في السنة المطهرة" (ص 140 - 141/
الطبعة الجديدة - عمان) ، فاقتضى التنبيه، وأن سوق حديث عائشة من رواية نعيم
ابن حماد؛ إنما كان من أجل أن فيه الفقرة الثانية الشاهدة لحديث الترجمة
…
فاستلزم ذلك تحقيق الكلام فيه، وبيان أنه لا يصبح شاهداً؛ لوقفه ووهائه. والله
ولي التوفيق.
ثم إن الذي في نسخة "الأوسط " المصورة: "أم سليمة"، وفي نسخة "مجمع
البحرين في زوائد المعجمين" المصورة من مكتبة الحرم المكي: "أمي سليمة"، ولما
لم نجد لها ترجمة؛ لم نتمكن من معرفة الراجح منهما. والله أعلم.
ومن الغريب أن الشيخ التويجري حين يحاول تقوية حديث عائشة بدفاعه
عن نعيم بن حماد لا يَشْعُرُ أنه يقيم الحجة به على نفسه لقول أنس عنها:
" فأعرضت بوجهها عنه "؛ لأن الإعراض بالوجه في مثل هذه الحالة لا يتبادر
لذهن العربي إلا أن الوجه مكشوف! ولكني لا أستبعد على الشيخ أن يسلط عليه
معول التأويل حتى يخرجه عن دلالته الظاهرة؛ كما فعل في غيره من النصوص
الصريحة الدلالة على خلاف رأيه!
6044
- (كأنِّي بقومٍ يأتون مِنْ بعدي يَرْفعونَ أيْدِيَهم في الصلاة
كأنها أذناب خَيْلٍ شُمْسٍ) .
باطل بهذا اللفظ.
جاء هكذا في "مسند الربيع بن حبيب " الذي سماه
الإباضية بـ "الجامع الصحيح "! وهو مشحون بالأحاديث المنكرة والباطلة، التي تفرد
بها هذا "المسند" دون العشرات، بل المئات، بل الألوف من كتب السنة المطبوعة
منها والمخطوطة، والمشهور مؤلفوها بالعدالة والثقة والحفظ بخلاف الربيع هذا! فإنه
لا يعرف مطلقاً إلا في بعض كتب الإباضية المتأخرة التي بينها وبين الربيع قرون!
ومع ذلك فليس فيها ترجمة عنه وافية نقلاً عمن كانوا معاصرين له أو قريباً من
عصره من الحفاظ المشهورين!
فهذا عالم الإباضية في القرن الرابع عشر عبد الله بن حميد السالمي (ت
1332) لما شرح هذا "المسند" وقدم له مقدمة في سبع صفحات؛ ترجم في بعضها
للربيع، وبالغ في الثناء عليه ما شاء له تعصبه لمذهبه؛ دون أن ينقل حرفاً واحداً
في توثيقه والشهادة له بالحفظ؛ ولو عن أحد الإباضيين المتقدمين! لا شيء من
ذلك البتة.
ولذلك لم يرد له ذكر في شيء من كتب الرجال المعروفة لدينا، ولا لكتابه
هذا "المسند" ذكرٌ في شيء من كتب الحديث والتخاريج التي تعزو إلى كتب قديمة
لا يزال الكثير منها في عالم المحطوطات، أو عالَم الغيب! وكذلك لم يذكر هذا
"المسند " في كتب المسانيد التي ذكرها الشيخ الكتاني في "الرسالة المستطرفة" - وهي
أكثر من مئة -.
ثم إننا! وفرضنا أن الربيع هذا ثقة حافظ - كما يريد الإباضيون أن يقولوا! -؛
فلا يصح الاعتماد عليه! إلا بشرطين اثنين:
الأول: أن يكون لكتابه إسناد معروف صحيح إليه، ثم تلقته الأمة بالقبول،
ولا شيء من ذلك عندهم؛ بله عندنا! فإن الشيخ السالمي - في "شرحه " المشار
إليه آنفاً - لم يتعرض لذلك بشيء من الذكر، ولو كان موجوداً لديهم؛ لسارعوا
لإظهاره، والمبالغة في تبجيله؛ توثيقاً لـ "مسند الربيع" الذفي هو عندهم بمنزلة
"البخاري" عندنا!
وشتان ما بينهما، فإن "صحيح البخاري " صحيح النسبة إليه حتى عند
الفرق التي لا تعتمد عليه - كالشيعة وغيرهم -! .
ومن الغريب أن الشيخ السالمي ذكر في مقدمة "المسند"(ص 4) أن مرتب
"المسند" يوسف بن إبراهيم الوارجلاني ضم إليه روايات محبوب بن الرحيل عن
الربيع، وروايات الإمام أفلح بن عبد الوهاب الرستمي عن أبي غانم بشر بن غانم
الخراساني، ومراسيل جابر بن زيد، وجعل الجميع في الجزء الرابع من الكتاب.
قلت: ويبدو جليّاً لكل متأمل أن الشيخ نفسه لا يعلم الراوي لـ "المسند" عن
الربيع، وألا؛ لذكره كما ذكر الراوي محبوباً للضَّميمة عنه؛ وهي تشمل الجزء
الثالث والرابع منه. ومحبوب هذا مجهول عندنا، بل وعندهم فيما أظن!
وإذا كان كذلك؛ أفلا يحق لنا أن نتساءل: أفلا يجوز أن يكون الراوي
لـ "المسند" في جزئه الأول والثاني منه. راوياً كمحبوب هذا؛ مجهولاً، أو أسوأ؟!
فكيف يصح الاعتماد عليه بل أن يقال: "هو أصح كتاب من بعد القرآن " - كما
قال الشيخ المذكور في أول صفحة من مقدمته المذكورة -؟! تالله! إن هذا لهو
التعصب الأعمى؛ مهما كان شأن قائله فضلاً وعلماً!
فلا تغترَّ - أيها القارئ الكريم! - بالمقدمة المذكورة؛ فكلها مغالطات ودعاوى
فارغة، لا قيمة لها من الوجهة العلمية، ولا لمقدمة الأستاذ عزالدين التنوخي
رحمه الله وعفا عنه لشرح الشيخ السالمي لـ "المسند"؛ لأنها مستمدة من كلام
الشيخ، فهو إعادة له وصياغة جديدة من عنده؛ يذكرني مع الأسف بالمثل المعروف:
" أسمع جعجعة ولا أرى طحناً "!
بل يجوز عنده أن يكون الراوي لهذا "المسند" أسوأ من راوٍ مجهول؛ فقد
روى عنه رجل كذاب، وهذا مما حفظه لنا الإمام أحمد في كتابه "العلل " فقال
(254/1) :
"سمعت هشيماً يقول: ادعوا الله لأخينا عباد بن العوام؛ سمعته يقول:
كان يقدم علينا من البصرة رجل يقال له: الهيثم بن عبد الغفار الطائي:
يحدثنا عن همام عن قتادة وأبيه (الأصل: رأيه)، وعن رجل يقال له: الربيع بن
حبيب عن ضمام عن جابر بن زيد، وعن رجاء بن أبي سلمة أحاديثَ، وعن
سعيد بن عبد العزيز، وكنا معجبين به، فحدثنا بشيء أنكرته وارتبت به. ثم لقيته
بعدُ، فقال لي: ذاك الحديث اترُكْه أو دَعْهُ. فقدمت على عبد الرحمن بن مهدي،
فعرضت عليه بعض حديثه؛ فقال:
"هذا رجل كذاب، أو قال: غير ثقة". قال أحمد:
ولقيت الأقرع بمكة، فذكرت له بعض هذه الأحاديث، فقال: هذا حديث البري
عن قتادة - يعني: أحاديث همام -؛ قلبها. قال: فخرقت حديثه، وتركناه بعد".
ورواه العقيلي في "الضعفاء"(4/358) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. وابن
عدي في "الكامل "(7/3563) مختصراً.
وله ترجمة في "لسان الميزان " بفوائد زائدة، من ذلك أن الهيثم هذا كان أعلم
الناس بقول جابر بن زيد.
قلت: وضمام هذا - هو: ابن السائب - له في "مسند الربيع " من روايته عنه
مباشرة ثلاثة أحاديث (رقم 112 و520 و 688)، قال في الأول منها: بلغني عن
ابن عباس
…
فذكر حديثاً منكراً. وقال في الآخرين: عن جابر بن زيد عن ابن
عباس
…
فذكر حديثين؛ الآخر منهما منكر. ولعله ييسر لي أن أفردهما بالذكر.
وربيع بن حبيب هذا المذكور في "العلل " هو الإباضي هذا صاحب "المسند"
ويقال فيه: الأزدي الفراهيدي؛ فهو غير الربيع بن حبيب الحنفي أبو سلمة
البصري المترجم في "التهذيب " تمييزاً بينه وبين آخر يكنى بأبي هشام الكوفي
الأحول.
والمقصود: أن الهيثم هذا تبين أنه ممن روى عن الربيع بن حبيب؛ فمن
المحتمل أن يكون هو الراوي عنه "مسنده " هذا في جزئيه الأولين، فإن لم يكن هو؛
فيرد الاحتمال الآخر
…
وهو: أن يكون مجهولاً كمحبوب الذي روى عنه الجزءين
الآخرين!
والخلاصة: أن الشرط الأول ليصح الاعتماد على "مسند الربيع " لم يتحقق.
وأما الشرط الآخر: فهو أن يكون شيوخ المؤلف ومن فوقه من الرواة معروفين
بالعدالة والرواية والثقة والحفظ، وهذا مفقود في شيوخه وغيرهم، وتفصيل القول
في ذلك لا يتسع المجال له هنا؛ فحسبنا على ذلك بعض الأمثلة:
أولاً: شيخه مسلم بن أبي كريمة التميمي أبو عبيدة: ذكره الذهبي في
" الميزان " وفي " المغني في الضعفاء" وقال:
"مجهول". وسبقه إلى ذلك ابن أبي حاتم، فقال (4/193) :
"سمعت أبي يقول: مجهول ". وذكره ابن حبان في "التابعين " من كتابه
إ الثقات، (5/ 401) في آخرين معه، وقال:
"رووا عن علي بن أبي طالب. إلا أني لست أعتمد عليهم، ولا يعجبني
الاحتجاج بهم لما كانوا فيه من المذهب الرديء".
قلت: وفسر الذهبي ثم العسقلاني دامذهبه الرديء" بالتشيع! ويبدو لي أنه
يعني: الخروج على علي رضي الله عنه، فإنه تميمي - كما رأيت -؛ فهو يلتقي في
هذه النسبة مع عبد الله بن إباض التميمي الإباضي، قال الحافظ في "اللسان ":
"رأس الإباضية من الخوارج، وهم فرقة كبيرة، وكان هو - فيما قيل - رجع عن
بدعته؛ فتبرأ أصحابه منه، واستمرت نسبتهم إليه ".
تلك هي حال أبي عبيدة هذا، وقد تجاهلها الإباضيون؛ فلم يعرجوا على ما
نقلناه عن أئمتنا، ولو بجواب هزيل! بل بالغوا في الثناء عليه جزافاً من أنفسهم؛
كما فعل الشيخ السالمي في مقدمة "شرحه "، وقلده - مع الأسف! - الأستاذ
التنوخي في تقدمته للشرح - وغيره -؛ بل تبجح فقال (ص: ر) :
"وقَلَّ من المشتغلين بالحديث في ديارنا الشامية وفي مصر والعراق وغيرها من
له معرفة برجال هذا "المسند"، ولذا يحسن بنا أن نعرفهم ولو بإيجاز
…
".
ثم ذكر سنة ولادته ووفاته (95 - 158) ، وأن من شيوخه جابر بن عبد الله
الأنصاري الصحابي الجليل!
فأقول: وهذا - والله! - منتهى الجهل، والتكلم بغير علم
…
فإن جابراً رضي
الله عنه مات قبل الثمانين - باتفاق العلماء -، فكيف يدركه ويسمع منه من ولد
سنة (95) - أي: بعد موته بنحو (15) سنة -؟!
أضف إلى ذلك: أنه لم يعتد بما تقدم عن علمائنا من أهل السنة، وهو - فيما
أعلم - منهم ومن تلامذة الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله، فهل انحرف
عنه من بعده وصار إباضياً أكثر من الإباضيين أنفسهم؟! حتى رأيت بعض هؤلاء
يحتج بكلامه على أهل السنة!
فاللهم! غفراً، وأعوذ بالله من فساد هذا الزمان وأهله، لقد بلغت به الجرأة
وعدم المبالاة بما يخرج من فيه إلى الكذب المكشوف؛ كقوله (ص: هـ) :
"ورجال هذه السلسلة الربيعية من أوثق الرجال وأحفظهم وأصدقهم؛ لم يشب
أحاديثها شائبة إنكار، ولا إرسال، ولا انقطاع، ولا إعضال "!
وهذا مخالف لواقع "مسند الربيع " هذا تماماً. وشرح ذلك يحتاج إلى تأليف
كتاب، وحسبنا الآن بعض الأمثلة الدالة على غيره.
فهذا هو الشيخ الأول المجهول، فأين الثقة وأين الحفظ؟!
وإنك لتزداد عجباً - أيها القارئ الكريم! - إذا علمت أن الجزء الأول والثاني
من "مسند ربيعهم" كل أحاديثه - وعددها (742) - عن هذا الشيخ المجهول!!
وهو راوي هذا الحديث الباطل؛ كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
ثانياً: أبو ربيعة زيد بن عوف العامري البصري: أخبرنا حماد بن سلمة
…
قلت: فذكر له (213/825) حديثاً أصله في "الصحيحين "، لكن زاد
عليهما فيه زيادة منكرة! قال الذهبي في ترجمته من "الميزان ":
" تركوه ".
ثالثاً: قال (222/844) : وأخبرنا بشر المَريسي عن محمد بن يعلى قال:
أخبرنا الحسن بن دينار عن خَصيب بن جحدر
…
إلخ. فذكر حديثاً موقوفاً على
أبي هريرة! وهو في "صحيح البخاري" مرفوع، ثم إن في آخر الموقوف أثراً عن ابن
عباس لا نعرف له أصلاً!
وبشر المريسي: هو المبتدع الجهمي الضال، قال الذهبي وغيره:
"لا ينبغي أن يروى عنه، ولا كرامة ".
وهو القائل بخلق القرآن، والإباضية معه في هذه الضلالة!
وإنما سردت إسناده ليتبين القارئ قيمة روايات هذا "المسند"؛ فإن شيخ
المريسي محمد بن يعلى جهمي متروك الحديث. وروى الربيع عنه (215/828)
مباشرة؟!
والحسن بن دينار: كذبه أحمد ويحيى، كما في "اللسان".
وخَصيب بن جَحدر: كذبه شعبة والقطان وإبن معين.
وأما سائر رجاله - ممن فوق شيوخه في أحاديث أخرى - ففيهم جمع من
الضعفاء والمتروكين مثل: مجالد بن سيد (216/833) . وأبان بن [أبي] عياش
(217/834) : وهو متروك، ومرة روى عنه مباشرة (218/836) ، وأبو بكر الهذلي
(220/840) : وهو متروك أيضاً، ومثله جويبر عن الضحاك (220/839) ، ومرة
قال (215/829) : وأخبرنا جويبر عن الضحاك
…
والكلبي (223/846) : وهو كذاب.
هذا قُلٌّ من جُلٍّ من حال مؤلف "مسند الربيع " وبعض شيوخه ورواته،
وحينئذٍ يتبين جلياً بطلان تسمية الإباضيين ومن اغتر بهم من المنتسبين إلى السنة
له بـ "المسند الصحيح "! وأبطلُ منه قول الشيخ السالمي الإباضي المتقدم:
"إنه أصح كتاب بعد القرآن "!
أقول: إذا عرفت ما تقدم؛ فإنه ينتج منه حقيقة علمية هامة كتمها أو انطلى
أمرها على الإباضية، وهي تتلخص في أمرين:
أحدهما: أن الربيع بن حبيب هذا الذي نسب إليه هذا "المسند" لا يعرف
من هو؟
والأخر: أنه لو فرض أنه معروف ثقة؛ فإن "مسنده " هذا لا يعرف من رواه
عنه، وهذا في جزئيه الأول والثاني. وأما الجزء الثالث والراج. فراويهما مجهول
- كما تقدم -، وسيأتي ذكر بعض أحاديثه الباطلة برقم (6302) .
وحينئذٍ تسقط الثقة به مطلقاً؛ فلا غرابة أن لا نجد له ذكراً في كتب الحديث
من المسانيد وغيرها، وأن تقع فيه أحاديث كثيرة لا أصل لها!
ثم إن في إسناد هذا الحديث عنده جهالة أخرى: فإنه عنده (58/213)
هكذا؛ أبو عبيدة عن جابر بن زيد عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
فذكره.
قلت: وأبو عبيدة هذا اسمه: مسلم بن أبي كريمة التميمي: قال أبو حاتم
والذهبي - كما تقدم -:
"مجهول ".
ثم إن حديثه هذا باطل من وجوه:
الأول: أنه لا أصل له في شيء من كتب السنة؛ لا عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ ولا عن
غيره من الأصحاب.
الثاني: أنه مخالف في لفظه للحديث الصحيح عن جابر بن سمرة رضي الله
عنه قال: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ قُلْنَا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ،
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟! إِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ
يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ".
أخرجه مسلم وأبو عوانة وابن حبان في "صحاحهم "، وهو مخرج في
"صحيح أبي داود"(916 - 918) .
ووجه المخالفة واضح جدّاً: ففيه أن الرفع المستنكر إنما هو رفع الأيدي عند
السلام في آخر التشهد، وأنه وقع في عهده صلى الله عليه وسلم فأنكره. وفي حديث الإباضية
أنه سيقع بعده صلى الله عليه وسلم! وقد حملوه على رفع الأيدي عند الإحرام والركوع المتواتر
فعله عن الصحابة والسلف رضي الله عنهم. فقد ترجم له مرتب "مسند الربيع بن
حبيب " يوسف بن إبراهيم السدراني الوارجلاني (ت 570) فقال:
" ما جاء في منع الاقتداء بمن يرفع يديه في الصلاة"!
وعلى هذا مشى شارحه الشيخ عبد الله ابن حميد السالمي؛ فقال في شرحه
لحديثهم (1/317) :
" المشار إليهم في هذا الحديث هم قومنا (يعني: أهل السنة) ؛ فإنهم هم
الذين اختصوا برفع أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس، حتى نقل غير
واحد منهم الإجماع على رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ولم يتركه إلا النادر
منهم (!) فقد نقل عن مالك أنه لا يستحب. وحكاه الباجي عن كثير من
متقدميهم. ونقل عن الزيدية أنه لا يجوز رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ولا
عند غيرها. وقيل: لم يقل بتركه منهم إلا الهادي يحيى بن الحسين وجده
القاسم بن إبراهيم. والحق: المنع
…
لحديث الباب؛ وحديث جابر بن سمرة:
"ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة" رواه
مسلم. وروى الحاكم في "المدخل " من حديث أنس: "من رفع يديه في الصلاة؛
فلا صلاة له ".
وقد روى قومنا أحاديت الرفع عن العدد الكثير من الصحابة، فإن صح ذلك
- ولا أراه يصح (!) -؛ فمنسوخ بما ذكرنا (!) ، ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم رفع مرة واحدة؛ كما
قيل: أنه أراد أن يفضح المنافقين الذين علقوا الأصنام تحت آباطهم، فإذا رفعوا؛
أيديهم؛ سقطت وانكشفت، فيفتضحون بذلك فلا يفعلونه مرة أخرى، وإن لم
يرفعوا؛ افتضحوا بالمخالفة (!) ، وعلى الحالين فهو زجر لهم. فرواه قومنا سنة مسلوكة،
رغبوا فيها؛ بل أوجبها بعضهم، وقد كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيفعلونه بعده؛
فأخبرنا به تحذيراً بقوله: (كأني بقوم يأتون بعدي يرفعون
…
) " إا
هذا كلامه بالحرف الواحد! عامله الله بما يستحق إا
ولقد أكد لي حين وقفت عليه أن ثناء الأستاذ عز الدين التنوخي عليه - في
تقديمه لـ "شرح مسند الربيع بن حبيب"(ص: ك)، وقوله فيه: "أن أبحاثه تدل
على اعتدال في التحقيق، وبُعْد عن التعصب "، أن ذلك - إنما كان منه تزلفاً إليه،
ومداهنة
…
ولا أقول مداراة، اللهم! إلا إن كان التنوخي لا علم عنده مطلقاً
بالأحاديث وفقهها؛ فإن شرح الشيخ السالمي لهذا الحديث وتعليقه عليه فقط يؤكد
أنه من كبار أهل الأهواء المتعصبين لمذاهبهم، والمتكلفين لرد أدلة الحق المخالفة
لهم. وإليك البيان:
أولاً: قوله: "لم يتركه إلا النادر منهم "
…
هذا من عندياته؛ فإنه لم يذكر
أحداً من أهل العلم ترك الرفع عند تكبيرة الإحرام، بل هو مخالف للإجماع الذي
حكاه هو عن أهل السنة - ومنهم الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/134) -،
ومن الظاهر أنه لا يعتد بإجماعهم، ولا بما كان عليه جماهير الصحابة والسلف في
الرفع كما سيأتي.
ث! انيأ: فقد نقل عن مالك أنه لا يستحب!
فأقول: هذا كالذي قبله، والكلام في الرفع عند تكبيرة الإحرام؛ فإنه خلاف
ما في "المدونة"(1/68) و"الموطأ، (1/97) ، وخلاف ما نقله العلماء عنه كابن
رشد في "البداية": أن مذهبه الرفع عند تكبيرة الإحرام، دون أي خلاف عنه،
بخلاف الرفع عند الركوع، فعنه روايتان، رجح الباجي في "المنتقى"(1/142)
الرفع، وهو الموافق لما في " الموطأ! .
ثالثاً: قوله: "وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم "!
قلت: نص كلام الباجي:
"وروي عن بعض المتقدمين المنع من ذلك ".
فأنت ترى أن الشيخ السالمي حرّف لفظة: (بعض)
…
إلى: (كثير) ! فهل
كان ذلك عن غير قصد؟ الجواب في المثالين الأولين! ثم إن الباجي أشار إلى
تمريض الرواية بذلك!
رابعاً: قوله: "ونقل عن الزيدية أنه لا يجوز
…
".
قلت: فيه إيهام خبيث: أن الناقل هو الباجي! وليس كذلك؛ فهو من كلام
السالمي نفسه، فكان عليه أن يدفع الإيهام بمثل قوله: "ونقل بعضهم
…
! .
والناقل هو ابن المنذر والعبدري؛ كما في "نيل الأوطار" للشوكاني (2/149) ،
ثم رده بقوله:
"وهو غلط على الزيدية؛ فإن إمامهم زيد بن علي رحمه الله ذكر في كتابه
المشهور بـ "المجموع " حديث الرفع (1) ، وقال باستحبابه أكابر أئمتهم المتقدمين
والمتأخرين
…
".
ولذلك انتقد الشوكاني رحمه الله مؤلف كتاب "حدائق الأزهار" الذي لم
يذكر هذه السنة في (فصل سنن الصلاة)" فقال في "السيل الجرار" (1/226) :
"وكان ينبغي له أن يذكر في هذا الفصل المشتمل على ذكر سنن الصلاة:
السنة العظمى والخصلة الكبرى التي هي أشهر من شمس النهار، وهي العلم الذي
في رأسه نار؛ وذلك: سنة الرفع عند افتتاح الصلاة؛ فإنها قد ثبتت من طريق
خمسين من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة.
(1)" مسند الإمام زيد"(ص 90) . واعلم أن هذا "المسند" حاله عندنا كحال "مسند الربيع
ابن حبيب " أو أسوأ؛ فإنه من رواية عمرو بن خالد أبي خالد الواسطي عن الإمام زيد.
والواسطي هذا اتفق أئمتنا على أنه كذاب وضاع؛ فراجع ترجمته في "الميزان" وغيره.
ثم سنة الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه، ثم سنة ضَمّ اليد اليمنى على
اليسرى؛ فإن هذه سنن ثابتة بأحاديث متواترة
…
، إلخ.
خامساً: قال: "والحق: المنع
…
لحديث الباب ".
قلت: قد عرفت أن الحديث منكر سنداً، باطل متناً، وإن مما يؤكد ذلك أن
ابن عباس الذي نسبوا الحديث إليه قد صح عنه من طرق أنه كان يرفع يديه عند
افتتاح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع.
أخرجه عبد الرزاق في (المصنف " (2/69) ، وابن أبي شيبة أيضاً (1/235)
بسندٍ صحيح عنه.
ثم أخرجه عبد الرزاق بسند آخر صحيح عن طاوس قال:
رأيت عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير يرفعون أيديهم
في الصلاة.
قلت: فلو كان الحديث صحيحاً عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ، وبالمعنى الذي حملوه عليه؛
لم يخالفه ابن عباس ولا غيره من الأصحاب - كما هو ظاهر -.
سادساً: قال: "وحديث جابر بن سمرة: (ما لي أراكم
…
) " الحديث.
فأقول: هذه رواية مختصرة، قد فسرتها رواية أخري لمسلم وغيره، وبينت أن
الإنكار كان على رفع الأيدي عند السلام - كما تقدم -. وبهذا أجاب الشوكاني،
ولكنه قال عقبه:
"ورُدّ هذا الجواب بأنه قصر للعام على السبب، وهو مذهب مرجوح - كما تقرر
في الأصول -. وهذا الرد متجه؛ لولا أن الرفع قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً متواتراً
- كما تقدم -، وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك
العام على السبب، أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر. وربما نازع
في هذا بعضهم فقال: قد تقرر عند بعض أهل الأصول: أنه إذا جُهل تاريخ العام
والخاص أُطْرِحَا! وهو لا يدري أن الصحابة قد أجمعت على هذه السنة بعد موته
صلى الله عليه وسلم، وهم لا يجتمعون إلا على أمر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه. على أنه قد ثبت
من حديث ابن عمر عند البيهقي أنه قال - بعد أن ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع
يديه عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال -:
فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى.
وأيضاً؛ المتقرر في الأصول بأن العام والخاص إذا جُهل تاريخهما؛ وجب
البناء. وقد جعله بعض أئمة الأصول مجمعاً عليه؛ كما في "شرح الغاية"
وغيره ". انتهى كلام الشوكاني رحمه الله.
ولقد كابر الزيلعي في "نصب الراية"(1/393) والمعلق عليه، فأبيا تفسير
الرواية المختصرة بالرواية المفصلة، وتجاهلا ما ذكره الزيلعي عن البخاري في رده على
الحنفية، وهو قوله:
إ ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضاً منهيّاً عنه؛ لأنه
لم يستثن رفعاً دون رفع، بل أطلق ".
ورفع اليدين في تكبيرات العيدين هو قول أبي حنيفة وصاحبيه كما في
"مختصر الطحاوي "(ص 37) ، و"الهداية"(2/43) ، وروي رفعهما في تكبيرات
الجنازة أيضاً عن أبي حنيفة، وتعجب منه ابن حزم في "المحلى"(5/128) ؛ لأنه
- كما قال - لم يأت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنعه في سائر الصلوات، وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم!!
وكابر المعلق أيضاً على "نصب الراية"(2/285) فقال عقبه:
"قلت: هذه النسبة منه أعجب ".
وأقول: لا عجب؛ فإن قول أبي حنيفة هذا منقول في "حاشية ابن عابدين "
وغيره، وعليه عمل أئمة بلْخ الحنفيين؛ خلافاً لحنفية اليوم!
سابعاً: قوله: "وروى الحاكم في "المدخل ":
…
من رفع يديه في الصلاة؛
فلا صلاة له ".
قلت: هذا غاية الضلال. أن يحتج بهذا الحديث وهو موضوع باتفاق العلماء!
حتى الحنفية منهم؛ كالزيلعي والقاري، فقال في "موضوعاته":
"هذا الحديث وضعه محمد بن عكاشة الكرماني قبَّحه الله ".
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات "(2/96 - 98) من حديث أنس وغيره،
وقال:
"وما أبله من وضع هذه الأحاديث الباطلة ليقاوم بها الأحاديث الصحيحة!
ففي "الصحيحين، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة؛ رفع
يديه
…
" الحديث.
وقول الشيخ الإباضي: "وروى الحاكم
…
" يوهم أنه رواه بإسناده إلى محمد
ابن عكاشة! وليس كذلك؛ فإنه إنما ذكره تحت جماعة وضعوا الحديث في الوقت
لحاجتهم إليه، منهم ابن عكاشة هذا! راجع "نصب الراية"(1/404 - 405) ،
وإنما رواه ابن الجوزي بإسناده إليه، وأقره السيوطي على وضعه في "اللآلي" (2/19
و470) وغيره. انظر الكلام عليه فيما تقدم برقم (568) .
وإن احتجاج الإباضي بهذا الحديث الموضوع لهو من أكبر الأدلة على جهله
بهذا العلم أو تجاهله، وهو هنا شر من الجهل؛ لدخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث
عني بحديث يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين ". رواه مسلم وابن حبان وغيرهما.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثامنأ: قال: "وقد روى قومنا أحاديث الرفع عن العدد الكثير من الصحابة،
فإن صح ذلك - ولا أراه يصح -؛ فمنسوخ ".
قلت: هذا إعلان صريح منه أنه لا يقيم وزناً للأحاديث الصحيحة! ولو كانت
متواترة، وعمل بها الصحابة ومن بعدهم ممن سلك سبيلهم! وأن التصحيح
والتضعيف عنده خاضع لهواه! وأن من كان على شاكلته لا يفيد البحث معهم إلا
بعد الاتفاق على الأصول والقواعد. وهيهات هيهات!
وقد وقفت حديثاً على رسالة لأحدهم في الرفع وضم اليدين في الصلاة؛
ذهب فيها إلى تضعيف أحاديث الرفع والضم كلها! وإن مما يُضحك الثكلى أنه
صرح بأن حديث ابن عمر في الرفع المذكور آنفاً موضوع! وأن علته الإمام الزهري!!
وقد رددت عليه ردّاً موجزاً في مقدمة الطبعة الجديدة لكتابي "صفة الصلاة".
وأما ادعاء النسخ فقد سبق الجواب عنه من كلام الشوكاني، وفيه مَقْنَغٌ لكل
منصف. وكيف يستقيم في لُبِّ مسلم غير سكران بالهوى أن يتصور استمرار الصحابة
على الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو منسوخ؟! وقد صح عن الحسن البصري أنه قال:
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا ركعوا، وإذا رفعوا رؤوسهم من
الركوع
…
كأنما أيديهم مراوح.
وعن سعيد بن جبير: أنه سئل عن رفع اليدين في الصلاة؛ فقال: هو شيء
يزين به الرجل صلاته، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم في الافتتاح،
وعند الركوع، وإذا رفعوا رؤوسهم.