الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: في المعنى الإجمالي للقاعدة:
إنه إذا كان الأصل في العقد أو الشيء الأمانة فإنه لا ينتقل من حكم الأمانة إلى الضمان باشتراط الضمان فيه، وكذلك إذا كان الأصل في العقد أو الشيء الضمان فإنه لا ينتقل إلى حكم الأمانة باشتراط الأمانة فيه.
رابعاً: في أقوال الفقهاء وأدلتهم في القاعدة:
اختلف الفقهاء في صحة القاعدة، وهو أنه هل يصحّ اشتراط الضمان على الأمين، واشتراط نفي الضمان عن الضامن أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن هذا الشرط باطل.
وهو قول الحنفية في المعتمد عندهم
(1)
، والمالكية على المشهور من مذهبهم
(2)
، والشافعية
(3)
والحنابلة في رواية هي المذهب
(4)
، وهو قول سفيان الثوري
(5)
(6)
،
(1)
انظر: المبسوط (15/ 84)، البحر الرائق (7/ 274)، الدر المختار مع حاشية رد المحتار (5/ 664)، حاشية رد المحتار (6/ 479).
(2)
انظر: المدونة (5/ 303)، المعونة (2/ 1122)، المقدمات الممهدات (2/ 251 - 252، 472 - 473)، شرح الزرقاني على خليل (6/ 117).
(3)
انظر: التهذيب للبغوي (4/ 61 - 62)، العزيز (5/ 377)، روضة الطالبين (4/ 98، 400، 431)، مغني المحتاج (2/ 137، 267).
(4)
انظر: المغني (7/ 342، 8/ 115)، الشرح الكبير مع المقنع (15/ 91)، المبدع (5/ 145)، كشاف القناع (4/ 71).
(5)
هو الإمام الفقيه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، من تابعي التابعين، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، ولد سنة 97 هـ، وسمع أبا إسحاق السبيعي وعبد الملك ابن عمير وغيرهما، وروى عنه محمد بن عجلان والأعمش وغيرهما، وله كتاب الجامع، واتفق العلماء على وصفه بالبراعة في العلم بالحديث والفقه والورع والزهد، توفي سنة 161 هـ.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 222)، سير أعلام النبلاء (7/ 229).
(6)
انظر: الإشراف لابن المنذر (1/ 266)، المغني (9/ 258).
وإسحاق بن راهويه
(1)
(2)
، وأبو بكر بن المنذر
(3)
(4)
.
ثم اختلف هؤلاء فيما بينهم هل يفسد العقد لبطلان الشرط أم لا؟ على قولين:
الأول: إن الشرط باطل والعقد صحيح، وهو قول الحنفية
(5)
، والشافعية في العارية
(6)
، والحنابلة
(7)
.
والثاني: إن الشرط باطل والعقد فاسد، وهو قول المالكية
(8)
والشافعية في الرهن
(9)
.
(1)
هو أحد الأئمة الحفاظ أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي ثم الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، المعروف بابن راهويه، ولد سنة 161 هـ، سمع من ابن المبارك والفضيل بن عياض وغيرهما، وحدث عنه بقية بن الوليد وأحمد بن حنبل وآخرون، توفي سنة 243 هـ.
انظر: الجرح والتعديل (2/ 209)، طبقات الحنابلة (1/ 109)، تهذيب التهذيب (1/ 197 - 198).
(2)
انظر: الإشراف لابن المنذر (1/ 266)، المغني (9/ 258).
(3)
هو الإمام الفقيه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، المجمع على إمامته وجلالته ووفور علمه وجمعه بين التمكن في علمي الحديث والفقه، وله المصنفات المهمة النافعة منها: الأوسط والإشراف والإجماع، توفي سنة 318 هـ.
انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص 118)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 196 - 197).
(4)
انظر: الإشراف لابن المنذر (1/ 266)، المغني (9/ 258).
(5)
انظر: مختصر اختلاف الفقهاء (4/ 47)، حاشية رد المحتار (6/ 479).
(6)
انظر: العزيز (5/ 377)، روضة الطالبين (4/ 431)، مغني المحتاج (2/ 267).
(7)
انظر: المغني (8/ 115)، المبدع (5/ 145).
(8)
انظر: المعونة (2/ 1122)، المنتقى (5/ 164).
(9)
انظر: التهذيب للبغوي (4/ 61 - 62)، روضة الطالبين (4/ 98)، مغني المحتاج (2/ 137).
القول الثاني: إن هذا الشرط صحيح.
وهذا قول الحنفية في رواية
(1)
، والمالكية في قول
(2)
، وأحمد
(3)
في
رواية
(4)
، وهو قول قتادة
(5)
(6)
وداود الظاهري
(7)
(8)
، واختاره الشوكاني
(9)
، وعبدالرحمن السعدي
(10)
ومحمد العثيمين
(11)
.
(1)
انظر: تبيين الحقائق (5/ 85)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 85).
(2)
انظر: المقدمات الممهدات (2/ 252)، إيضاح المسالك (ص 107)، شرح المنهج المنتخب (ص 413، 415).
(3)
هو إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبدالله، الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي، ولد سنة 164 هـ، شيوخه هشيم بن بشير وسفيان بن عيينة ويحيى القطان وغيرهم كثير، تلاميذه كثيرون جدا منهم ولداه عبدالله وصالح، وأبو داود السجستاني وأبو بكر المروزي وغيرهم، من مؤلفاته كتاب الزهد، كتاب فضائل الصحابة، كتاب المسند وغيرها، توفي سنة 241 هـ.
انظر: طبقات الحنابلة (1/ 4)، سير أعلام النبلاء (11/ 177)، المقصد الأرشد (1/ 63 - 70).
(4)
انظر: المغني (8/ 115)، الإنصاف مع المقنع (15/ 92).
(5)
هو الإمام أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي البصري الضرير، ولد سنة 60 هـ، روى عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وآخرين، وحدث عنه شعبة وأيوب السختياني وغيرهما، توفي سنة 117، وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 269)، تهذيب التهذيب (8/ 306).
(6)
انظر: الإشراف لابن المنذر (1/ 266، 271)، المغني (7/ 342).
(7)
هو الحافظ الفقيه أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني، الشهير بداود الظاهري، ينسب إليه المذهب الظاهري، سمع من القعنبي ومسدد وغيرهما، وتفقه بإسحاق بن راهويه وأبي ثور، حدث عنه: ابنه محمد وزكريا الساجي، وكان زاهدا، وكان عقله أكثر من علمه، توفي سنة 270 هـ.
انظر: تذكرة الحفاظ (2/ 572)، شذرات الذهب (2/ 158)، الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه (ص 47).
(8)
انظر: الحاوي (7/ 118).
(9)
السيل الجرار (3/ 196، 203، 216، 217، 286، 287).
(10)
انظر: المختارات الجلية ضمن المجموعة الكاملة (4/ 2/159).
(11)
انظر: تقرير القواعد (1/ 295، 306 في الحاشية).
القول الثالث: إذا اشترط على الأمين الضمان لأمر خافه المالك من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص - أو ما أشبه ذلك - فيلزمه الشرط إن تلف في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله، وإن تلف في غيره لم يلزمه الشرط، وهذا قول مطرف
(1)
(2)
من المالكية.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
عن عائشة
(3)
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله! من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، شرط الله أحق وأوثق)
(4)
.
(1)
هو العالم الفقيه مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار الهلالي، مولى ميمونة أم المؤمنين، وابن أخت الإمام مالك بن أنس، كنيته أبو مصعب، وقيل: أبو عبد الله، وكان أصمّ، روى عن مالك وغيره، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم والبخاري، وكانوا يقدمونه على أصحاب مالك، توفي سنة 220 هـ.
انظر: الديباج المذهب (ص 424)، شجرة النور الزكية (ص 57).
(2)
انظر: المقدمات الممهدات (2/ 252، 473).
(3)
هي أم المؤمنين أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر الصديق، ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس سنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيها وعن عمر، وروى عنها من الصحابة: عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة، توفيت سنة 58 هـ.
انظر: تهذيب الكمال (35/ 227 - 236)، الإصابة (8/ 139 - 141).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المكاتب، باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم (2/ 224) برقم (2560)، ومسلم في صحيحه: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/ 1141) برقم (1504).
وجه الدلالة: إن الله شرع العقود على صفة معينة. واشتراط شروط تخالف مقتضى العقود - كإيجاب الضمان وسقوطه - يعتبر تغييرا للمشروع، فهي شروط ليست في كتاب الله، فتكون باطلة.
نوقش هذا الدليل: بأنه لم يثبت دليل من الكتاب والسنة على تحريم اشتراط إيجاب الضمان في الأمانات أو إسقاطه عن المضمونات.
2 -
إن للعقود أصولا مقدرة وأحكاما معتبرة لا تغيرها الشروط عن أحكامها في شرط سقوط الضمان وإيجابه كالودائع والشركة، لما كانت غير مضمونة بالعقود لا تعتبر مضمونة بالشرط، والقروض والعواري لما كانت مضمونة بالعقد لم يسقط الضمان بالشرط
(1)
.
3 -
إن هذا اشتراط لإيجاب الضمان أو سقوطه بدون وجود سببه، فلا يلزم كما لو اشترط ضمان ما يتلف في يد مالكه
(2)
.
4 -
إن العقد إذا اقتضى شيئاً فَشُرِط غيره فإنه يكون شرطا لشيء ينافي مقتضى العقد، فلا يصح، كما لو شرط في المبيع أن لا يبيعه
(3)
.
نوقشت هذه الأدلة الثلاثة: بأننا نوافقكم بأن الأصل في عقود الأمانات عدم الضمان، وفي المضمونات إيجاب الضمان، لكن إذا رضي الشخص بإيجاب الضمان على نفسه أو إسقاطه عن غيره فهذا خالص حقه، ولا يوجد ما يدل على تحريمه، فيبقى الأمر على الأصل في الشروط وهو الجواز والصحة.
(1)
الحاوي (6/ 253)، وانظر: التهذيب للبغوي (4/ 62)، المغني (7/ 342 - 343، 8/ 115).
(2)
المغني (9/ 258) بتصرف يسير.
(3)
المبدع (5/ 145) بتصرف يسير. وانظر: المعونة (2/ 1122)، شرح الزرقاني على خليل (6/ 117).
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1 -
ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرّم حلالا أو أحل حراما)
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: إنه لم يأت دليل على تحريم اشتراط الضمان أو عدمه فيجب الوفاء بهذا الشرط؛ لأن المسلمين على شروطهم.
2 -
عن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم خيبر أدرعاً، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: (بل عارية مضمونة)
(3)
(4)
.
وجه الدلالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصف العارية بصفة مخصصة وهي أنها مضمونة لا عارية مطلقة عن الضمان
(5)
كما هو الأصل فيها، وهذا يدل على صحة اشتراط ضمان العارية على المستعير.
نوقش هذا الدليل: أن هذا «ليس على سبيل الشرط»
(6)
(7)
.
(1)
تقدم تخريجه صفحة 91.
(2)
انظر: المغني (8/ 115)، الإنصاف مع المقنع (15/ 92).
(3)
تقدم تخريجه صفحة 73.
(4)
انظر: السيل الجرار (3/ 287).
(5)
انظر: نيل الأوطار (5/ 337).
(6)
شرح السنة (8/ 226).
(7)
معالم السنن (5/ 198).
ويجاب عنه: أن هذه المناقشة ترد على التسليم بأن حكم الإسلام في العارية أنها مضمونة، ولكن الصحيح - كما سيأتي
(1)
- من أقوال أهل العلم أن العارية أمانة لا تضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط أو شرط؛ لذا فإن هذه المناقشة لا ترد على القول الصحيح.
3 -
إن المالك لو أذن في إتلاف ملكه لم يجب على المُتلف ضمانها، فكذلك إذا أسقط الضمان عن الأمين
(2)
.
نوقش هذا الدليل: بأنه «فارق إذا أذن في الإتلاف، فإن الإتلاف فعل يصح الإذن فيه ويسقط حكمه؛ إذ لا ينعقد موجبا للضمان مع الإذن فيه، وإسقاط الضمان ههنا نفي للحكم مع وجود سببه، وليس ذلك للمالك ولا يملك الإذن فيه»
(3)
.
ويجاب عنه: بأنه لا يوجد دليل صحيح صريح يدل على منع المالك من خالص حقه في إسقاط الضمان.
4 -
إن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله قال في كتابه العزيز:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(4)
، وقال:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(5)
(6)
، فإذا
(1)
في صفحة 520.
(2)
انظر: المغني (7/ 342).
(3)
المرجع السابق (7/ 343).
(4)
سورة النساء، الآية [29].
(5)
سورة النساء، الآية [4].
(6)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 155).