الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع
في أقوال الفقهاء وأدلتهم في القاعدة
هذه القاعدة - كما سبق - استنبطت من كلام للقاضي عبد الوهاب المالكي
(1)
في مسألة: اللقطة إذا تلفت بيد الملتقط، من غير تعدّ منه أو تفريط، هل يشترط لعدم ضمانه لها أن يكون قد أشهد عليها حين التقاطه لها؟.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن أشهد الملتقط حين أخذ اللقطة أنه يأخذها ليردها لم يضمنها، وإن لم يشهد بذلك ضمنها. وهذا قول أبي حنيفة
(2)
وزفر
(3)
.
القول الثاني: إن الملتقط لا يلزمه ضمانها سواء أشهد عليها أم لم يشهد.
وهذا قول أبي يوسف ومحمد
(4)
والمالكية
(5)
والشافعية
(6)
والحنابلة
(7)
.
(1)
كما في الإشراف له (2/ 681).
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/ 344)، بدائع الصنائع (6/ 201)، الهداية مع فتح القدير (5/ 349).
(3)
انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/ 344).
(4)
انظر: قولهما في: مختصر اختلاف العلماء (4/ 344)، بدائع الصنائع (6/ 201)، الهداية مع فتح القدير (5/ 349).
(5)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 681)، المقدمات الممهدات (2/ 484 - 485)، الذخيرة (9/ 105)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 357).
(6)
انظر: التهذيب للبغوي (4/ 551)، العزيز (6/ 358 - 359)، روضة الطالبين (5/ 406 - 407)، مغني المحتاج (2/ 411 - 412، 416)، والذخيرة (9/ 106)، المغني (8/ 308).
(7)
انظر: المغني (8/ 308)، الشرح الكبير مع المقنع (16/ 250)، المبدع (5/ 285)، منتهى الإرادات (1/ 395).
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1 -
عن عياض بن حمار
(1)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيِّب؛ فإن وجد صاحبها فليردها إليه، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء)
(2)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإشهاد على اللقطة، والأمر يقتضي الوجوب
(3)
.
نوقش هذا الحديث بما يأتي:
أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة - كما سيأتي في أدلة القول الثاني - فأمر بالتعريف دون الإشهاد، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان واجبا لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم، سيما وقد سئل عن حكم اللقطة، فلم يكن ليخل بذكر الواجب فيها، فتعيّن حمل الأمر في حديث عياض على الندب والاستحباب
(4)
.
(1)
هو الصحابي الجليل عياض بن حمار بن أبي حمار بن ناجية بن عقال المجاشعي التميمي، سكن البصرة، روى عنه: الحسن البصري ومطرف بن الشخير والعلاء بن زياد، قيل: إنه أدرك خلافة علي رضي الله عنه.
انظر: تهذيب الكمال (22/ 565 - 567)، تهذيب التهذيب (8/ 172 - 173).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 161 - 162، 266)، وأبو داود في سننه: كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة (2/ 335) برقم (1709)، واللفظ له، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب القضاء، باب الحكم باليمين مع الشاهد الواحد (5/ 436) برقم (5968)، وابن ماجه في سننه: كتاب اللقطة، باب اللقطة (3/ 195 - 196) برقم (2505)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 136)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 71).
(3)
انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/ 344)، المغني (8/ 308 - 309).
(4)
انظر: المقدمات الممهدات (2/ 485)، الذخيرة (9/ 105)، المغني (8/ 309).
ثانياً: يحتمل أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإشهاد - في هذا الحديث - ظهور الأمانة من الملتقط وارتفاع الظنة عنه، كما روي عن الحسن في قوله تعالى:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}
(1)
أنه أريد به ظهور أمانة الولاة على الأيتام
(2)
.
ثالثاً: إذا افترضنا أن الحديث يدل على وجوب الإشهاد، فإنه لا يدل على أن الملتقط إذا لم يشهد يضمن التلف.
2 -
(3)
.
3 -
«إن الأصل أنّ عمل كل إنسان له لا لغيره، بقوله سبحانه وتعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
(4)
وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}
(5)
فكان أخذه اللقطة في الأصل لنفسه لا لصاحبها، وأخذ مال الغير بغير إذنه لنفسه سبب لوجوب الضمان؛ لأنه غصب، وإنما يعرف الأخذ لصاحبها بالإشهاد، فإذا لم يوجد تعين أن الأخذ لنفسه؛ فيجب عليه الضمان»
(6)
.
(1)
سورة النساء، الآية [6].
(2)
انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/ 345).
(3)
بدائع الصنائع (6/ 201).
(4)
سورة النجم، الآية [39].
(5)
سورة البقرة، الآية [286].
(6)
بدائع الصنائع (6/ 201).
نوقش هذان التعليلان بما يأتي:
(1)
.
ثانياً: إن الإشهاد لا معنى له ولا أثر في إسقاط الضمان؛ لأنه قد يشهد بخلاف ما كان أضمر احتياطا لنفسه
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1 -
عن زيد بن خالد الجهني
(3)
رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة: الذهب أو الورق؟ فقال: (اعرف وكاءها
(4)
وعفاصها
(5)
، ثم عرفها
(1)
المغني (8/ 309) بتصرف.
(2)
انظر: المقدمات الممهدات (2/ 485)، الذخيرة (9/ 105).
(3)
هو الصحابي الجليل زيد بن خالد الجهني المدني، اختلف في كنيته: فقيل: أبو عبدالرحمن، وقيل: أبو طلحة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عثمان وأبي طلحة وعائشة، وروى عنه ابناه: خالد وأبو حرب ومولاه أبو عمرة وآخرون، شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، مات بالمدينة سنة 78 هـ، وقيل: غير ذلك.
انظر: تهذيب الكمال (10/ 63 - 64)، الإصابة (3/ 27).
(4)
الوكاء: ما يُشَدّ به السقاء والكيس ونحوهما، كالحبل ونحوه، وجمعه أوكية.
انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 193)، المصباح المنير (ص 257).
(5)
العفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة من جلد أو خرقة أو غير ذلك، من العفص: وهو الثني والعطف، وبه سمي الجلد الذي يجعل على رأس القارورة عفاصا.
انظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 263)، القاموس المحيط (ص 804).
سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك؛ فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه). وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال:(ما لك ولها؟ دعها؛ فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها). وسأله عن الشاة؟ فقال: (خذها؛ فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)
(1)
.
2 -
عن أبي بن كعب
(2)
رضي الله عنه قال: إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(عرفها حولا، قال: فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولاً، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووعاءها ووكاءها؛ فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)
(3)
.
وجه الدلالة من الحديثين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما بالتعريف دون الإشهاد، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فلو كان واجباً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم، سيما وقد سئل عن حكم اللقطة، فلم يكن ليخلّ بذكر الواجب فيها»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2/ 184) برقم (2427)، ومسلم في صحيحه: كتاب اللقطة (3/ 1349) برقم (1722) واللفظ له.
(2)
هو الصحابي الجليل أبو المنذر وأبو الطفيل أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري، سيد القراء، كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد، وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه من الصحابة: عمر وأبو أيوب وعبادة بن الصامت، مات سنة 30 هـ، وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 389 - 402)، الإصابة (1/ 16).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب اللقطة، باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه (2/ 184) برقم (2426)، ومسلم في صحيحه: كتاب اللقطة (3/ 1350) برقم (1723) واللفظ له.
(4)
المغني (8/ 309) بتصرف يسير.