الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول العلامة أبو العباس القرافي: «فإن الإجماع منعقد على تعدد الضمان فيما يتعدد الإتلاف فيه، وأن العمد والخطأ في ذلك سواء»
(1)
.
وثمة أدلة أخرى - غير ما ذكرت من الإجماع - من الكتاب والسنة، ذكرتها في قاعدة (العمد والخطأ في ضمان الأموال سواء)، فليرجع إليها هناك تلافيا للتكرار
(2)
.
على أن هذا الكلام مقيد فيما إذا كان التلف لاحقا بحقوق الآدميين، أما إذا كان في حقوق الله جلّ وعلا فإن هناك فرقا بين المتِلف العامد والمخطئ في الضمان، فمن كان عامدا وجب عليه الضمان وحلَّ عليه الإثم، ومن كان مخطئا سقط عنه الضمان والإثم
(3)
.
وقد سبق أن فصّلت القول في هذا التقييد من حيث أقوال العلماء فيه وأدلتهم والراجح منها في قاعدة «لا فرق في ضمان المتلف بين العلم والجهل»
(4)
، فأغنى عن ذكرها هنا.
الفرع الثالث: في هل يشترط التعدي في وجوب الضمان على المتلف المباشر
؟:
ذهب جماعة من الفقهاء إلى عدم اشتراط التعدي في وجوب الضمان على
(1)
الفروق (2/ 209). وانظر: الذخيرة (12/ 259).
(2)
كما في صفحة 287.
(3)
انظر: فتح الباري (5/ 191، 11/ 559)، القواعد والأصول الجامعة (ص 44)، الإرشاد للسعدي (ص 92)، المختارات الجلية ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي (4/ 2/139)، الشرح الممتع (7/ 227).
(4)
كما في صفحة 328 - 334.
المتلف المباشر، وفي هذا يقول المحدث أبو محمد الزيلعي
(1)
:
«
…
وغيره تسبيب، وفيه يشترط التعدي، فصار كحفر البئر في ملكه، وفي المباشرة لا يشترط»
(2)
.
وقال الفقيه ابن نجيم الحنفي: «يضمن المباشر وإن لم يكن متعدياً»
(3)
.
وقال ابن غانم البغدادي: «المباشر ضامن وإن لم يتعمد ولم يتعد»
(4)
.
وقال علي حيدر في شرحه للقاعدة: «أي أنه سواء تعمد المباشر إتلاف مال الغير أم لم يتعمد يكون ضامنا، والفرق بينه وبين المتسبب هو أنه يشترط لضمان المتسبب أن يكون متعديا، والمباشر يضمن على حالين كما أسلفنا، والسبب في ذلك أن المباشرة هي علة مستقلة وسبب للتلف قائم بذاته، فلا يجوز إسقاط حكمها بداعي عدم التعمد»
(5)
.
وقال الأستاذ علي الخفيف: «فإذا كان الضرر نتيجة مباشرة لفعل، ألزم من أحدثه الضمان اتفاقا، سواء أكان من أحدثه معتديا فيه أو غير معتد»
(6)
.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي: «وفي المباشرة لا يشترط التعدي»
(7)
.
(1)
هو الفقيه أبو محمد عثمان بن علي بن محجن بن يونس الزيلعي الصوفي البارعي، قدم القاهرة سنة 705 هـ، فدرّس وأفتى، كان مشهورا بمعرفة الفقه والنحو والفرائض، له مصنفات منها:"تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" و"بركة الكلام على أحاديث الأحكام" و"شرح الجامع الكبير للشيباني" وغيرها. توفي في رمضان سنة 743 هـ.
انظر: الجواهر المضية (2/ 519)، تاج التراجم (ص 204)، هدية العارفين (5/ 655).
(2)
تبيين الحقائق (6/ 149).
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 250).
(4)
مجمع الضمانات (1/ 381).
(5)
درر الحكام (1/ 93).
(6)
الضمان في الفقه الإسلامي (1/ 74، 83).
(7)
نظرية الضمان للزحيلي (ص 196).
وأما تعليلهم في ذلك، فقد قال علي حيدر:«والسبب في ذلك أن المباشرة هي علة مستقلة وسبب للتلف قائم بذاته، فلا يجوز إسقاط حكمها بداعي عدم التعمد»
(1)
، بينما علّل الأستاذ علي الخفيف ذلك بـ «أنه عند المباشرة تظهر بجلاء سببية الفعل للضرر دون نظر إلى فاعله وقصده، فوجب إلزامه بما يرفع هذا الضرر، لانتسابه إليه وإحداثه إياه»
(2)
.
وذهب فريق آخر إلى اشتراط التعدي في وجوب الضمان على المتلف المباشر، وفي ذلك يقول الشيخ أحمد الزرقا في شرحه للقاعدة:«(المباشر) للفعل، وقد تقدم بيانه في القاعدة /89/، (ضامن) لما تلف بفعله إذا كان متعديا فيه»
(3)
.
وقال ابنه الأستاذ مصطفى الزرقا: «فالفروع الفقهية تفيد أن كلاًّ من المباشرة والتسبب لضرر الغير موجب للضمان متى وجد التعدي»
(4)
.
وقال الدكتور محمد سراج: «وبهذا فإن التعدي شرط في الإتلاف للضمان، سواء كان هذا التعدي راجعا إلى قصد الإضرار أو إلى التقصير والإهمال»
(5)
.
وعند النظر في هذين القولين والتأمل فيهما، يظهر أنه لا خلاف بينهما، ذلك أن معنى التعدي المراد في القول الأول يختلف عنه في القول الثاني.
(1)
درر الحكام (1/ 93).
(2)
الضمان في الفقه الإسلامي (1/ 83).
(3)
شرح القواعد الفقهية (ص 453، 454).
(4)
المدخل الفقهي للزرقا (2/ 1046).
(5)
ضمان العدوان (ص 242).
وقد بيّن ذلك الأستاذ مصطفى الزرقا رحمه الله قائلا: «وأما التعدي فيستعمل في معنيين يجب التمييز بينهما، وتحديد أي منهما هو المراد في هذا المقام:
* فالمعنى الأول للتعدي هو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم.
* والمعنى الثاني الذي قد يعبر عنه بالتعدي هو العمل المحظور في ذاته شرعاً، بقطع النظر عن كونه متجاوزا على حدود الغير أم لا.
فالتعدي بالمعنى الأول (التجاوز) هو المقصود هنا في هذا المقام، وهو شرط أساسي في مسئولية كل من المباشر والمتسبب على سواء.
ولا يشترط لمسئولية المتعدي بهذا المعنى - مباشرا كان أو متسببا - أن يكون متعمدا، أي: قاصدا للإضرار، بل يستوي عند وجوب التعدي الخطأ والعمد.
أما المعنى الثاني للتعدي (وهو العمل المحظور شرعا) فليس بشرط للمسئولية في كل من المباشر والمتسبب، بعد توافر التعدي بمعنى التجاوز إلى حق الغير أو ماله المعصوم.
فقد يتحقق التعدي بهذا المعنى، ولا يكون الفعل محظوراً شرعاً، بل قد يكون واجباً ويثبت معه الضمان»
(1)
.
وإن هذا التمييز الذي ذكره الأستاذ مصطفى الزرقا جيد وواضح، وبه يرتفع التعارض بين من اشترط التعدي لوجوب الضمان على المتلف المباشر ومن لم يشترطه
(2)
.
وحينما نظرت في كلام الذين لم يشترطوا التعدي في وجوب الضمان على المتلف المباشر، وجدت أنهم يريدون بالتعدي أحد أمرين:
(1)
الفعل الضار (ص 78 - 79).
(2)
انظر: بحوث في قضايا فقهية (ص 296)، ضمان العدوان (ص 242).
الأمر الأول: ما ذكره الأستاذ مصطفى الزرقا، وهو العمل المحظور في ذاته شرعا، ويظهر مرادهم هذا من خلال الأمثلة التي ذكروها، ومنها: لو تطايرت شرارة من دكّان حدّاد، وهو يطرق الحديد، فحرقت لباس إنسان، لزمه ضمانه، وكذلك لو دخل شخص حانوت بقال فزلقت رجله، فسقط على إناء عسل فكسره، فإنه يضمن
(1)
.
الأمر الثاني: التعمد، ويظهر مرادهم من خلال الآتي:
أولاً: ذكرهم للتعدي في مقابلة عدم التعمد، كما في قول علي حيدر:«والفرق بينه وبين المتسبب هو أنه يشترط لضمان المتسبب أن يكون متعديا، والمباشر يضمن على حالين كما أسلفنا، والسبب في ذلك أن المباشرة هي علة مستقلة وسبب للتلف قائم بذاته، فلا يجوز إسقاط حكمها بداعي عدم التعمد»
(2)
.
ثانياً: الأمثلة التي ذكروها، ومنها: أن المجنون يضمن في ماله ما أتلفه بفعله، وكذلك الصبي، والنائم إذا انقلب على مال فأتلفه
(3)
.
وأما من اشترط التعدي فإنما أراد المعنى الأول الذي ذكره الأستاذ مصطفى الزرقا، وهو «المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم» ، كما يظهر من أمثلتهم التي ضربوها، ومنها: لو سقط من ظهر الحمال شيء فأتلف مال أحد ضمن الحمال، وكذلك لو أتلف إنسان مال غيره يظنه مال نفسه فإنه يضمن
(4)
.
(1)
انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 250)، مجمع الضمانات (1/ 381)، درر الحكام (1/ 93 - 94)، نظرية الزحيلي (ص 196 - 198).
(2)
درر الحكام (1/ 93).
(3)
انظر: الضمان في الفقه الإسلامي (1/ 74).
(4)
انظر: شرح القواعد الفقهية (ص 453)، الفعل الضار (ص 79 - 80).