الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والرهن في اصطلاح الفقهاء: «جعل عين مال وثيقة بدين يستوفي منها عند تعذر وفائه»
(1)
. والمراد به هنا العين المرهونة.
أمانة: سبق تعريفها في اللغة والاصطلاح
(2)
، والمراد بها هنا أن للرهن حكم الأمانات.
في يد: أي في حال حيازة.
المرتهن: هو الشخص الذي وضع عنده الرهن ليتوثق به من دينه الذي هو في ذمة الراهن.
المطلب الثالث
في المعنى الإجمالي للضابط
إذا تلف المال المرهون عند صاحب الدين، فإنه لا يجب عليه ضمانه إلا إذا حصل منه تعدّ أو تفريط.
المطلب الرابع
في أقوال الفقهاء وأدلتهم في الضابط
اتفق الفقهاء على أن المرتهن إذا تعدى في المال المرهون، أو فرَّط في حفظه فإنه يجب عليه ضمانه
(3)
.
واختلفوا فيما إذا تلف المال المرهون عند المرتهن بغير تعدّ منه أو تفريط على أقوال:
(1)
مغني المحتاج (2/ 121). وانظر: الهداية مع فتح القدير (9/ 64)، عقد الجواهر الثمينة (2/ 577)، الروض المربع (1/ 545).
(2)
كما في صفحة 593 - 594.
(3)
انظر: المغني (6/ 522).
القول الأول: أن الضمان يجب على المرتهن وإن لم يتعد أو يفرط. وهو قول الحنفية
(1)
، والثوري وإسحاق بن راهويه وإبراهيم النخعي وقتادة
(2)
.
القول الثاني: أن المال المرهون إن كان مما يغاب عليه ويخفى هلاكه - كالذهب والفضة والطعام والمتاع - فإن الضمان يجب على المرتهن، إلا أن تقوم بينة بهلاكه من غير تعدّ ولا تفريط من المرتهن.
وإن كان المال المرهون مما لا يغاب عليه ولا يخفى هلاكه - كالعقار والحيوان - فإن المرتهن لا يضمنه إلا بتعدِّ أو تفريط. وبهذا قال مالك في الرواية المشهورة عنه والمنصورة عند أكثر أصحابه
(3)
.
القول الثالث: أن المال المرهون إن كان مما يغاب عليه ويخفى هلاكه - كالذهب والفضة والطعام والمتاع - فإن الضمان يجب على المرتهن، وإن قامت بينة على هلاكه من غير تعدّ ولا تفريط من المرتهن.
وإن كان المال المرهون مما لا يغاب عليه ولا يخفى هلاكه - كالعقار والحيوان - فإنه لا يجب الضمان على المرتهن إلاّ إذا تعدّى أو فرّط. وبهذا قال مالك في رواية عنه
(4)
.
(1)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 154)، رؤوس المسائل (ص 303)، إيثار الإنصاف (ص 726 - 727)، الاختيار (2/ 77)، اللباب للمنبجي (2/ 521).
(2)
انظر أقوالهم في: المحلى (6/ 375 - 376)، المغني (6/ 522).
(3)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 582)، التمهيد (6/ 439)، المنتقى (5/ 244)، المقدمات الممهدات (2/ 367 - 368)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 335)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/ 253 - 255)، منح الجليل (5/ 478 - 482).
(4)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 582)، المنتقى (5/ 244)، المقدمات الممهدات (2/ 367 - 368).
القول الرابع: لا يجب الضمان على المرتهن إلا إذا تعدى أو فرط في المال المرهون. وهو قول الشافعية
(1)
ومذهب الحنابلة
(2)
، وقال به أبو ثور وداود الظاهري والأوزاعي وعطاء
(3)
.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وهي كما يأتي:
1 -
(4)
.
وجه الدلالة: أن قوله (فإن أمن) معطوف على قوله (فرهان)، مما يدل على أن الرهن ليس بأمانة؛ لأن العطف يقتضي أن يغاير المعطوف المعطوف عليه؛ إذ الشيء لا يعطف على نفسه، وإذا لم يكن أمانة كان مضمونا؛ لأن ما يكون عند الشخص من غير ماله لا يخلو إما أن يكون أمانة أو مضمونا
(5)
.
نوقش هذا الاستدلال: بأنا لا نسلم أن قوله (فإن أمن) معطوف على قوله: (فرهان)، وإنما هي معطوفة على قوله:(وإن كنتم على سفر)؛ لأن
(1)
انظر: الأم (3/ 167)، مختصر خلافيات البيهقي (3/ 377)، روضة الطالبين (4/ 96)، الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 306)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 458)، مغني المحتاج (2/ 136 - 137).
(2)
انظر: المغني (7/ 522)، المبدع (4/ 227)، الإنصاف مع المقنع (12/ 436 - 437)، منتهى الإرادات (1/ 288 - 289)، الدرر السنية (6/ 253).
(3)
انظر أقوالهم في: المحلى (6/ 376)، المغني (6/ 522).
(4)
سورة البقرة، الآية [283].
(5)
أحكام القرآن للجصاص (1/ 526).
معنى الآية - والله تعالى أعلم -: أنه إن «كان صاحب الحق آمنا من غريمه، وأحب أن يعامله من دون رهن، فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له، ولا باخس حقه»
(1)
.
2 -
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرهن بما فيه)
(2)
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرهن بما فيه)
(3)
.
وجه الدلالة من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تلف المال المرهون في مقابل ما رهنت به من الديون، مما يدل على أن المال المرهون مضمون على المرتهن
(4)
.
نوقش الاستدلال بهذين الحديثين بما يأتي:
أولاً: إن هذين الحديثين ضعيفان، كما في تخريجها في الحاشية.
ثانياً: إنه يحتمل - على فرض صحة الحديثين - أن معناهما أن الرهن محبوس بما فيه
(5)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن (ص 120). وانظر: تفسير الطبري (3/ 140)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 267).
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 32)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الرهن، باب من قال: الرهن مضمون (6/ 40)، والحديث فيه رجل يضع الحديث كما قال الدارقطني وغيره. وانظر: نصب الراية (4/ 321 - 322)، التعليق المغني مع سنن الدارقطني (3/ 32).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الرهن، باب من قال: الرهن مضمون (6/ 40) وقال: وهو منقطع بين عمرو بن دينار وأبي هريرة، ونقل عن أبي حازم أنه قال: تفرد به حسان بن إبراهيم الكرماني.
(4)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 154).
(5)
انظر: المغني (6/ 523).
3 -
عن عطاء بن أبي رباح أن رجلا ارتهن فرساً، فمات الفرس في يد المرتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ذهب حقك)
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الدين عن الراهن في مقابل تلف المال المرهون في يد المرتهن، مما يدل على أن المال المرهون مضمون على المرتهن.
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
أولاً: إن الحديث مرسل وضعيف كما هو مبين في تخريج الحديث في الحاشية.
ثانياً: إنه - على فرض صحة هذا الحديث - يحتمل أنه أراد: ذهب حقك من الوثيقة، فلا يلزم الراهن رهن آخر بدله، بدليل أنه لم يسأل عن قدر الدَّين وقيمة الفرس
(2)
.
4 -
حكى بعضهم إجماع الصحابة والتابعين على أنَّ الرهن مضمون، وإنما اختلفوا في كيفية ضمانه
(3)
.
نوقش هذا الدليل من وجهين:
أولاً: عدم التسليم بانعقاد الإجماع؛ إذ لم يرد ذلك إلا عن عمر بن الخطاب وابنه عبدالله وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود؛ فأما عمر وابنه وعبدالله بن مسعود فلم يصح ذلك عنهم، وأما علي بن أبي طالب فمختلف
(1)
أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 172)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 102)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الرهن، باب من قال: الرهن مضمون (6/ 41)، وضعفه الشافعي وعبد الحق وابن القطان. انظر: الأم (3/ 188)، نصب الراية (4/ 321).
(2)
انظر: المقدمات الممهدات (2/ 369)، المغني (6/ 523)، المبدع (4/ 227).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 526)، المبسوط (21/ 64)، الهداية مع فتح القدير (9/ 70).
عنه في ذلك، وأصح الروايات عنه إسقاط التضمين فيما أصابته جائحة
(1)
.
ثانياً: إنه إن صح الإجماع فإنّ بعض أصحاب هذا القول - كالحنفية - قد خالفوا الإجماع؛ لأنهم لا يضمنون بعض الرهن، وهو ما زاد من قيمته على قيمة الدين
(2)
.
5 -
إن المرتهن إنما قبض الرهن على وجه الاستيفاء، ولو قبضه على حقيقة الاستيفاء كان مضمونا عليه، فكذلك إذا قبضه على وجه الاستيفاء، كما نقول بسوم البيع؛ لأن المقبوض بسبب البيع يكون مضمونا عليه، كالمقبوض على حقيقة البيع
(3)
.
نوقش هذا الدليل: بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن المستوفى صار ملكا للمستوفي، وله نماؤه وغنمه، فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن
(4)
.
أدلة القولين الثاني والثالث:
استدل أصحاب هذين القولين بما يأتي:
1 -
عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)
(5)
.
وجه الدلالة: أن (على) ظاهرة في اللزوم، ولكن خُصّ منها ما لا يغاب عليه؛ فإنه لا يضمن؛ للإجماع على عدم الضمان فيه، فيبقى حجة في صورة النزاع
(6)
.
(1)
انظر: المحلى (6/ 377 - 378)، نصب الراية (4/ 323).
(2)
انظر: المحلى (6/ 378).
(3)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 154)، رؤوس المسائل (ص 304).
(4)
انظر: بداية المجتهد (2/ 335 - 336)، المغني (6/ 523).
(5)
سبق تخريجه صفحة 155.
(6)
انظر: الذخيرة (8/ 111 - 112).
نوقش هذا الدليل: بأن هذا حديث غير صحيح؛ لأن الحسن رواه عن سمرة، وهو مختلف في سماعه منه، وقد عنعنه
(1)
.
2 -
إن الرهن لم يجر مجرى الأمانات المحضة ولا مجرى المضمون المحض؛ لأن فيه شبها من الأمرين، فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد؛ وذلك لأن الأمانة المحضة هي التي لا نفع فيها لقابضها، بل النفع فيها للمالك - كالوديعة -، أو جل النفع - كالقراض، والمضمون المحض هو ما كان النفع كله لقابضه كالقرض، أو تعدَّى جناية - كالغصب -، ومسألتنا عارية من كل ذلك؛ فلم يكن له حكم أحدهما على التجريد، فوجب الفصل بينهما على ما قلناه
(2)
.
نوقش هذا الدليل: بأنه دليل عقلي لا يجوز معارضته بالأصول العامة في الشريعة، كحرمة أموال المسلمين وعدم جواز أكلها بالباطل.
3 -
الاستحسان: ومعنى ذلك أن التفريق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه بسبب التهمة؛ لأن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه
(3)
.
نوقش هذا الدليل: بأنه مبني على التهمة، وليست التهمة مناطا للحكم؛ لأنها ظن كاذب يأثم صاحبه، ولا يحل القول به، والتهمة متوجهة إلى كل أحد، وفي كل شيء
(4)
.
أدلة القول الرابع:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
(1)
انظر: التلخيص الحبير (3/ 117)، الجوهر النقي (6/ 90)، إرواء الغليل (5/ 348).
(2)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 582 - 583)، المقدمات الممهدات (2/ 368 - 369).
(3)
انظر: المنتقى (5/ 244)، بداية المجتهد (2/ 336).
(4)
انظر: المحلى (6/ 377).
1 -
قال تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
(1)
.
وجه الدلالة: أن الله - جل وعز - جعل الرهن بدلاً من الكتاب، والبدل له حكم المبدل، ولما كان تلف الكتاب لا يوجب سقوط الحق، وجب أن يكون تلف الرهن غير موجب لسقوط الحق
(2)
.
2 -
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)
(3)
.
وجه الدلالة: أن الشارع الحكيم حرَّم أكل أموال المسلمين بغير وجه حق، ويدخل في ذلك: مطالبة المرتهن بضمان الرهن مع عدم تعديه أو تفريطه
(4)
.
3 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يغلق الرهن؛ له غنمه وعليه غرمه). وفي لفظ: (لا يغلق الرهن، والرهن لمن رهنه؛ له غنمه وغليه غرمه)
(5)
.
(1)
سورة البقرة، الآية [283].
(2)
انظر: الحاوي (6/ 257).
(3)
تقدم تخريجه صفحة 81.
(4)
انظر: المحلى (6/ 379).
(5)
أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الأحكام، باب لا يغلق الرهن (3/ 161) برقم (2441) مختصرا، والدارقطني في سننه (3/ 32 - 33)، والحاكم في المستدرك (2/ 58 - 60)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الرهن، باب الرهن غير مضمون (6/ 39)، وابن حزم في المحلى (6/ 379)، وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن متصل، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن حزم: هذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 84):«وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة، وصحح ابن عبدالبر وعبدالحق وصله» . وقال الألباني في إرواء الغليل (5/ 239): «مرسل» .
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دلّ على أن جميع ما كان رهنا غير مضمون على المرتهن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرهن لمن رهنه)؛ فمن كان له شيء فضمانه عليه، ثم زاد فأكد له فقال:(له غنمه وعليه غرمه)، وغنمه: سلامته وزيادته، وغرمه: عطبه ونقصه؛ فلا يجوز فيه إلا أن يكون ضمانه من مالكه لا من مرتهنه
(1)
.
نوقش هذا الدليل من وجهين:
أولاً: إن الحديث متكلم فيه من حيث الصحة والضعف؛ فمن العلماء من ضعفه كما في تخريجه في الحاشية.
ثانياً: إنه «يحتمل أن يكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يغلق الرهن) أي لا يهلك؛ إذ الغلق يستعمل في الهلاك، كذا قال بعض أهل اللغة
(2)
، وعلى هذا كان الحديث حجة عليه؛ لأنه يذهب بالدين فلا يكون هالكا معنى، وقيل معناه: أي لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين»
(3)
.
4 -
إن الرهن مقبوض بعقد واحد، بعضه أمانة لا يجب ضمانه - وهو ما زاد على قدر الحق -، فوجب أن يكون جميعه أمانة غير مضمون كالودائع والمستأجر
(4)
.
(1)
انظر: الأم (3/ 167).
(2)
انظر: تهذيب اللغة (16/ 141)، لسان العرب (10/ 293).
(3)
بدائع الصنائع (6/ 155).
(4)
انظر: الحاوي (6/ 257)، المغني (6/ 523).