الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمين التي هي الصفة الأصلية شرعا للمستأجر، فإذا هلكت الدابة عنده قبل ردها إلى مالكها؛ يضمن قيمتها ولا أجر عليه؛ لأن الأجر والضمان لا يجتمعان.
وكذا إذا لم تهلك، فردها سليمة ولو بعد شهور لا أجر عليه أيضا؛ لأنه كان في حالة مسؤولية بضمانها لو هلكت عنده»
(1)
.
المطلب الرابع
في أقوال الفقهاء وأدلتهم في القاعدة
اختلف الفقهاء في صحة هذه القاعدة - وهي عدم اجتماع الأجر والضمان إذا اتحد السبب والمحل - على قولين:
القول الأول: لا يجتمع الأجر والضمان. وهذا هو مذهب الحنفية
(2)
، ووافقهم المالكية في بعض الفروع
(3)
.
(1)
المدخل الفقهي للزرقاء (2/ 1036).
(2)
انظر: الأصل (3/ 45)، مختصر اختلاف العلماء (4/ 116 - 117)، المبسوط (10/ 207، 11/ 27، 15/ 147، 166، 168، 16/ 17)، بدائع الصنائع (4/ 213، 215، 6/ 147)، البناية (9/ 313 - 314، 316)، شرح المجلة (ص 57)، درر الحكام (1/ 89)، شرح القواعد (ص 431).
(3)
لا يقول المالكية بهذه القاعدة، وإنما عملوا بها في بعض الفروع الفقهية، كما لو اكترى رجل دابة بعينها إلى موضع معلوم، فتعدى بها إلى أبعد من تلك المسافة أو أشق، وجاوز ما اتفقا عليه؛ فإن رب الدابة - عند المالكية - مخير في أن يأخذ من المتعدي المكتري الكراء المسمى، وله كراء مثله فيما تعدى فيه، ويرجع إليه الدابة بعطبها أو سلامتها، وبين أن يأخذ الكراء إلى الموضع الذي سماه، ويُضَمِّنه الدابة في الموضع الذي تعدى فيه، وسواء سلمت أم عطبت.
انظر: الموطأ (2/ 723 - 724)، المدونة (4/ 478)، الإشراف (2/ 655)، المعونة (2/ 1097 - 1098)، الكافي لابن عبد البر (ص 371 - 372، 407)، المنتقى (5/ 264 - 266)، بداية المجتهد (2/ 278)، جامع الأمهات (ص 438)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 281)، مختصر خليل (ص 248)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (4/ 42).
وقد اشترط الحنفية للعمل بهذه القاعدة أن يتحد السبب والمحل في الأجر والضمان
(1)
، فأما إذا اختلفا فلا مانع من اجتماع الأجر والضمان، كما لو استأجر دابة على أن يركبها بنفسه إلى محل معين، فركبها بنفسه، ولكنه أردف معه من يتمسك بنفسه، وبعد وصوله إلى ذلك المحل هلكت الدابة؛ فإنه يلزمه الأجر، ويضمن نصف قيمة الدابة، أما لزوم الأجر فلأنه ركب بنفسه واستوفى المنفعة المعقود عليها، وأما ضمان نصف القيمة فلأنه تعدى بأن أركب معه من يستمسك بنفسه، فكان الأجر لسبب والضمان لسبب آخر
(2)
.
ويعبر الشيخ مصطفى الزرقا عن هذا الشرط بقوله: «على أن الحنفية يقيدون هذه القاعدة بأن لا يكون الأجر قد استقر على الشخص قبل صيرورته في حالة ضمان للعين، فإذا كان الأجر المسمى قد استقر عليه قبلا، كما لو استوفى المنفعة المعقود عليها أولاً، ثم تجاوز حتى صار متعديا في حكم الغاصب، فإنه - وإن أصبح متحملا لتبعة هلاك المأجور - يلزمه الأجر عندهم إذا لم يهلك.
أما إذا هلك المأجور بعد التعدي قبل الرد إلى المالك، فإنه يضمنه ولا أجر عليه عندئذ على كل حال، لاندماج ضمان المنافع في ضمان الأصل»
(3)
.
(1)
انظر: شرح المجلة (ص 57 - 58)، درر الحكام (1/ 89 - 90)، شرح القواعد (ص 431).
(2)
انظر: المراجع السابقة.
(3)
المدخل الفقهي للزرقاء (2/ 1037 - 1038). وانظر: شرح القواعد (ص 432)، ونظرية الضمان للزحيلي (ص 217).
القول الثاني: أن الأجر والضمان يجتمعان. وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية
(1)
والشافعية
(2)
والحنابلة
(3)
.
أدلة القول الأول:
بنى الحنفية قاعدتهم هذه على نظريتهم المشهورة في «أن الغاصب لا يضمن قيمة منافع المغصوب عن مدة الغصب، بل يضمن العين فقط إذا هلكت أو تعيبت؛ لأن المنافع عندهم ليست متقومة في ذاتها، وإنما تتقوم بعقد الإجارة، ولا عقد في الغصب»
(4)
.
وقالوا في تعليلهم لقاعدة «الأجر والضمان لا يجتمعان» : «لأن الضمان إنما يكون بسبب التعدي، والتعدي على مال الغير غصب له أو كالغصب، ومنافع
(1)
وذلك كما في مسألة: إذا استأجر رجل أرضا، ليزرع فيها حنطة، فزرع فيها نباتا أشد ضررا من الحنطة؛ فإن المالكية قالوا: لرب الأرض كراء الحنطة وقيمة الإضرار بالزيادة، فجمعوا هنا بين الأجر والضمان.
وكذلك: إذا استغل الغاصب العين المغصوبة وانتفع بها، ثم تلفت؛ وجب عليه ضمانها ودفع أجرة انتفاعه بها على المشهور من مذهب المالكية.
انظر: التفريع (2/ 189)، التلقين (ص 439)، المعونة (2/ 1098، 1217)، الكافي لابن عبد البر (ص 372)، المنتقى (5/ 266)، جامع الأمهات (ص 412).
(2)
انظر: الأم (4/ 39)، التهذيب للبغوي (4/ 452 - 453)، روضة الطالبين (5/ 233 - 235)، مغني المحتاج (2/ 353 - 354).
(3)
انظر: المغني (8/ 77 - 80)، الشرح الكبير مع المقنع (14/ 411)، الفروع (4/ 447)، المبدع (5/ 95 - 96)، الإنصاف مع المقنع (14/ 410 - 411، 417).
(4)
المدخل الفقهي للزرقاء (2/ 927). وانظر: المبسوط (11/ 27)، رؤوس المسائل (ص 351)، إيثار الإنصاف (ص 490)، الدر المختار مع حاشية رد المحتار (6/ 186).
المغصوب غير مضمونة؛ لأن المنافع معدومة، وعند وجودها فهي أعراض غير باقية، وإنما تقوم - أي المنافع - بعقد الإجارة على خلاف القياس، لمكان الحاجة الضرورية إليها، وعقد الإجارة لا يبقى مع صيرورة المستأجر ضامنا، بل يرتفع؛ إذ لا يمكن اعتباره مستأجرا أمينا وغاصبا ضمينا في آن واحد، لتنافي الحالتين»
(1)
.
وأضاف بعضهم: «بأن المضمونات تملك على أصل أصحابنا، وذا يمنع وجوب الأجرة عليه»
(2)
.
ويمكن أن يجاب عن هذا:
بأن هذه القاعدة - «الأجر والضمان لا يجتمعان» - ضعيفة؛ وذلك لضعف ما بُنيت عليه، وهي قولهم: بأن منافع المغصوب لا تضمن؛ إذ الصحيح أن المنافع أموال بذاتها، وذلك للأمور التالية:
1 -
إن الشارع الحكيم حكم بكون المنفعة مالا متقوما، عندما جعلها مقابلة بالمال في عقد الإجارة، والإجارة - كما هو معلوم - عقد على المنفعة، كما أجاز الشارع الحكيم أن تكون المنفعة مهرا في عقد النكاح، وقد جعل الله المهر من الأموال، كما في قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}
(3)
.
(1)
شرح القواعد (ص 431). وانظر: بدائع الصنائع (4/ 213)، الهداية مع فتح القدير (8/ 33)، المغني (8/ 78).
(2)
بدائع الصنائع (4/ 213).
(3)
سورة النساء، الآية [24].
2 -
إن جعل المنافع من الأموال هو المتفق مع عرف الناس، والمتسق مع أغراضهم ومعاملاتهم، فهم لا يبتغون الأعيان إلا طلباً لمنافعها، ولأجلها يستعيضونها بالنفيس من أموالهم، وما لا منفعة له لا رغبة فيه ولا طلب له، وإذا طلب عُدّ طالبه من الحمقى والسفهاء، وربما حجر عليه؛ ولذا كان في المنافع مجال واسع لمعاملاتهم المالية، وليس أدلّ على ذلك من إقامة الفنادق والأسواق ودور السكنى، وإنشاء السكك الحديدية والبواخر، وما إلى ذلك مما هو معدّ للاستغلال بالاستعاضة عن منافعه.
3 -
إن في إهدار المنافع وعدم اعتبارها أموالا تضييعاً لحقوق الناس، وتشجيعا للظلمة في الاعتداء على منافع الأعيان التي يملكها غيرهم، وفي ذلك من الظلم والفساد ما يناقض مقاصد الشريعة السمحة
(1)
.
أدلة القول الثاني:
لم يتكلم جمهور الفقهاء على هذه القاعدة؛ لا باعتبار ولا بنقد، وإنما تبين لي أنهم لا يقولون بها من خلال الفروع الفقهية؛ حيث لم يعملوا القاعدة فيها؛ لذلك فليس بغريب أن لا أجد لهم دليلاً في عدم إعمالهم للقاعدة؛ لأنهم لم يتكلموا عليها أصلاً، ولأن لكل فرع فقهي دليلاً يخصه.
لكن يمكن الاستدلال لهم - على عدم اعتبارهم لها - بأنه لا يوجد مانع من إيجاب الأجر والضمان على شخص واحد؛ وذلك لأن الجهة منفكة، فالأجر
(1)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 629)، جامع الأمهات (ص 412)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 342)، حاشية الدسوقي (3/ 442)، الوجيز (1/ 214)، روضة الطالبين (5/ 13، 14)، المنثور (3/ 197، 222)، المبدع (5/ 185، 186)، كشاف القناع (4/ 111)، المحلى (6/ 436)، أحكام المعاملات الشرعية (ص 30 - 31).