الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تكلم الفقهاء قديما على هذه الأركان، إلا أنها جاءت مشتتة وموزعة في أماكن متفرقة من كتبهم، وذلك على طريقتهم في التأليف آنذاك، بخلاف الفقهاء المتأخرين، فإنهم عنوا بترتيبها وجمعها في مكان واحد.
هذا، وقد سمّاها بعض الباحثين بالأركان كما فعلت، وعبّر عنها البعض الآخر بالشروط
(1)
؛ ولعل ذلك يرجع إلى طريقة الباحث في ترتيب بحثه وتنظيمه، أو أنه من باب التغليب، والقضية اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
(2)
.
ويمكن توضيح هذه الأركان فيما يلي:
الركن الأول: التعدي:
يمكن توضيح التعدي في النقاط التالية:
أولاً: تعريف التعدي:
التعدي لغة: هو الظلم وتجاوز الحدّ، ويطلق على تجاوز الشيء إلى غيره
(3)
، وقال الرازي
(4)
: «العَدْو هو التعدي في الأمور وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه،
(1)
انظر: المصادر السابقة.
(2)
نظرية الضمان لمحمد فوزي (ص 88).
(3)
انظر: مختار الصحاح (ص 418 - 419)، القاموس المحيط (ص 1688).
(4)
هو: الفقيه الأصولي فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري الرازي، ابن خطيب الرَّيّ، ولد سنة 543 هـ وقيل 544، اشتغل على والده وأبي محمد البغوي والكمال السمناني وغيرهم، له مؤلفات منها:"التفسير"، و"المحصول في أصول الفقه"، و"مناقب الشافعي"، توفي سنة 606 هـ.
انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي (8/ 81 - 96)، طبقات الشافعية لابن هداية الله (ص 263).
يقال: عدا عليه عدواً وعدوانا وعديا واعتداء وتعديا: إذا ظلمه ظلما مجاوزا للحدِ»
(1)
.
التعدي في اصطلاح الفقهاء: ذكر الفقهاء والباحثون تعاريف كثيرة للتعدي، من أبرزها ما يأتي:
1 -
التعدي عند المالكية أعمّ من الغصب، فهو يشمل التعدي في الأموال والفروج والنفوس والأبدان.
والتعدي في الأموال عندهم على أنواع:
الأول: أخذ الرقبة، وهو الغصب، وتعريفه عندهم:«أخذ مال غير منفعة ظلما وقهرا لا لخوف قتال»
(2)
.
الثاني: غصب المنفعة دون قصد تملك رقبته. وقد عرَّف بعضهم التعدي بهذا المعنى، فقال: هو «التصرف في الشيء بغير إذن ربه دون قصد تملكه»
(3)
.
الثالث: الاستهلاك بإتلاف الشيء، ويجري مجراه التسبب في التلف.
الرابع: إتلاف بعض أجزاء الشيء
(4)
.
(1)
مفاتيح الغيب (2/ 121).
(2)
هذا مع أن بعض المالكية ذهب إلى أن الغصب غير التعدي. انظر: شرح حدود ابن عرفة (2/ 466، 468)، العقد المنظم (2/ 79).
(3)
انظر: المرجعين السابقين.
(4)
انظر: المرجعين السابقين، وقوانين الأحكام الشرعية (ص 344 - 345)، الموافقات (3/ 425).
2 -
عرّفه ابن نجيم الحنفي
(1)
رحمه الله بأنه «الفعل الضارّ بدون حقّ أو جواز شرعي»
(2)
.
3 -
عرّفه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله بأنه: «فعل ما لا يجوز من التصرفات أو الاستعمالات»
(3)
.
4 -
قال الأستاذ مصطفى الزرقا: «وأما التعدي فيستعمل في معنيين يجب التمييز بينهما، وتحديد أي منهما هو المراد في هذا المقام:
* فالمعنى الأول للتعدي هو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم.
* والمعنى الثاني الذي قد يعبر عنه بالتعدي هو العمل المحظور في ذاته شرعا، بقطع النظر عن كونه متجاوزا على حدود الغير أم لا.
فالتعدي بالمعنى الأول (التجاوز) هو المقصود هنا في هذا المقام»
(4)
.
5 -
عرّف الدكتور محمد فوزي التعدي بأنه: «مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه شرعاً أو عرفا أو عادة»
(5)
.
(1)
هو الفقيه عمر بن إبراهيم بن محمد، سراج الدين، الحنفي المصري، المعروف بابن نجيم. له مصنفات منها: البحر الرائق بشرح كنز الدقائق في الفقه، إجابة السائل باختصار أنفع الوسائل، الأشباه والنظائر الفقهية، توفي سنة 1005 هـ.
انظر: هدية العارفين (5/ 796)، إيضاح المكنون (3/ 25)، معجم المؤلفين (2/ 551).
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 413).
(3)
القواعد والأصول الجامعة (ص 44)
(4)
الفعل الضار (ص 78 - 79).
(5)
نظرية الضمان لمحمد فوزي (ص 92).
والشطر الأول من هذا التعريف -وهو قوله: (مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه) - مأخوذ من تعريف الرازي الذي سبق أن ذكرته في التعريف اللغوي للتعدي.
6 -
قال الدكتور وهبة الزحيلي عن الاعتداء أو التعدي: «ويراد به عند الفقهاء: معنى الظلم والعدوان ومجاوزة الحق، وضابطه: هو انحراف عن السلوك المألوف للرجل المعتاد، أو أنه العمل الضار بدون حق أو جواز شرعي، كما قال ابن نجيم في الأشباه»
(1)
.
7 -
قال الدكتور سليمان محمد أحمد: «ولكن الاستعمال الكثير والسائد عند الفقهاء أنهم يقصدون بالتعدي أو الاعتداء: إحداث عمل لم يأذن الشرع فيه. وبعبارة أخرى: إحداث عمل لم يكن للشخص حق فعله»
(2)
.
هذا ما يسّر الله لي الوقوف عليه من تعاريف لمصطلح التعدي.
ملاحظاتي حول هذه التعاريف:
1 -
بحثت في كتب المذاهب الفقهية عن تعريف اصطلاحي للتعدي فلم أجد من عرَّفها سوى فقهاء المذهب المالكي وابن نجيم الحنفي. وسبب ذلك - والله أعلم - أنهم اكتفوا بمعناه اللغوي، خاصة وأن أغلب التعاريف التي وقفت عليها راجعة إلى المعنى اللغوي.
2 -
ذكر فقهاء المذهب المالكي للتعدي تعريفات وإطلاقات إلا أنها خاصة في المذهب المالكي فيما يظهر؛ لأني لم أجد من وافقهم على هذا من علماء المذاهب الأخرى.
3 -
إن التمييز بين المعنيين الذين ذكرهما الأستاذ مصطفى الزرقا جيد وواضح، وبه يزول الاشتباه الواقع بين المعنيين.
(1)
نظرية الضمان للزحيلي (ص 18).
(2)
ضمان المتلفات (ص 228).
4 -
إن في تعريف الفقيه ابن نجيم الحنفي تكرارا حسب نظري؛ ذلك أن قوله (أو جواز شرعي) مستفاد من قوله (بدون حق)، فأغنى عنه، والله أعلم.
5 -
إن تعريف الشيخ عبدالرحمن السعدي قد يفهم منه المعنى الثاني الذي ذكره الأستاذ مصطفى الزرقا، وهو غير مراد هنا، ولكن قد يعتذر للشيخ السعدي بأنه كتبه في سياق ذكره الفرق بين التعدي والتفريط
(1)
.
6 -
إن الشطر الأول من تعريف الدكتور محمد فوزي - وهو قوله: (مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه) - مأخوذ من تعريف الرازي
(2)
الذي سبق أن ذكرته في التعريف اللغوي للتعدي.
7 -
إن الدكتور وهبة الزحيلي ذكر معنيين لضابط التعدي:
الأول منهما: فيه إيهام وعدم وضوح، لا سيما وأنه لم يقم بشرح تعريفه، ولم يبين لنا المراد من بعض العبارات الموهمة كقوله:(السلوك المألوف) و (الرجل المعتاد).
وأما الثاني منهما: فهو تعريف الفقيه ابن نجيم الحنفي، وقد ذكرت آنفا ما يرد عليه من اعتراض.
8 -
يبقى لنا - بعد ذلك - التعريفات والإطلاقات التي ذكرها كل من: فقهاء المالكية والأستاذ الزرقا والدكتور محمد فوزي والدكتور سليمان أحمد، وهذه التعاريف وإن اختلفت عباراتها فهي - في نظري - تصب في المعنى اللغوي للتعدي ولا تخرج عنه
(3)
.
(1)
انظر: القواعد والأصول الجامعة (ص 44).
(2)
انظر: مفاتيح الغيب (2/ 12).
(3)
انظر: نظرية الضمان للزحيلي (ص 18)، ضمان المتلفات (ص 228)، مؤسسة المسئولية (ص 143).