الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال:(أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها). قال: ثم قال: (يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة
(1)
اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة
(2)
حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة؛ فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواهن من المسألة - يا قبيصة - سحتا يأكلها صاحبها سحتا)
(3)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر حمالة قبيصة، وأجاز له المسألة عليها، والحمالة بمعنى الكفالة؛ فدلّ ذلك على مشروعيتها.
ثالثاً: الإجماع:
أجمع المسلمون على مشروعية الكفالة من حيث الجملة، وإن اختلفوا في بعض الفروع المتعلقة بها
(4)
.
الفرع الثاني: هل يبرأ المضمون عنه بالضمان
؟:
اختلف الفقهاء في المضمون عنه، هل يبرأ بالضمان أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
(1)
الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة: جائحة، والجمع: جوائح. انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 312)، القاموس المحيط (ص 276).
(2)
الفاقة: الحاجة والفقر. انظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 480)، المصباح المنير (ص 184).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة (2/ 722) برقم (1044).
(4)
انظر: الدر المختار مع حاشيته (5/ 285)، الذخيرة (9/ 191)، روضة الطالبين (4/ 240)، المجموع (13/ 144)، المغني (7/ 72)، منار السبيل (1/ 359).
القول الأول: لا يبرأ المضمون عنه بالضمان، بل يبقى الحق ثابتا عليه، ولا ينتقل إلى ذمة الضامن، وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية
(1)
والمالكية
(2)
والشافعية
(3)
، والمذهب عند الحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يبرأ المضمون عنه بالضمان، وينتقل الحق من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وعلى هذا فإنه لا يحق لصاحب الحق مطالبة المضمون عنه، وإنما يطالب الضامن وحده، وهذا قول ابن أبي ليلى
(5)
وابن شبرمة
(6)
(1)
انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/ 255)، فتح القدير (6/ 283 - 284، 299)، حاشية رد المحتار (5/ 281 - 282).
(2)
انظر: الكافي لابن عبد البر (ص 399)، بداية المجتهد (2/ 360)، حاشية الدسوقي (3/ 337).
(3)
انظر: التنبيه (ص 93)، حلية العلماء (2/ 647)، روضة الطالبين (4/ 264).
(4)
انظر: المغني (7/ 84، 86)، المبدع (4/ 249)، الإنصاف مع المقنع (13/ 7)، نيل المآرب (2/ 138).
(5)
هو الفقيه القاضي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار، وقيل غير ذلك، ولد سنة 74 هـ، تفقه بالشعبي، وروى عن عطاء والحكم وجماعة، وأخذ عنه سفيان الثوري وشعبة ووكيع وغيرهم، كان فقيها صدوقا صاحب سنة، قارئا عالما، قرأ عليه حمزة الزيات، توفي سنة 148 هـ بالكوفة.
انظر: وفيات الأعيان (4/ 179)، تذكرة الحفاظ (1/ 171).
(6)
هو: الفقيه القاضي عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن حسان، أبو شبرمة الضبي الكوفي، قيل ولد سنة 72 هـ، روى عن إبراهيم بن يزيد النخعي والحسن البصري وإياس بن معاوية وجماعة، روى عنه سفيان الثوري وابن عيينة وشعبة بن الحجاج وجماعة، كان عفيفا صارما عاقلا فقيها، يشبه بالنساك، ثقة في الحديث، شاعرا حسن الخلق جوادا، توفي سنة 144 هـ
انظر: وفيات الأعيان (8/ 129)، سير أعلام النبلاء (6/ 347).
وأبي ثور
(1)
وداود وأصحابه
(2)
.
القول الثالث: يبرأ المضمون عنه بالضمان إذا كان ميتا، أما إذا كان حيا فلا يبرأ به، وهذا القول رواية عن أحمد
(3)
.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»
(4)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن المؤمن لا يبرأ إلا بقضاء دينه، وهذا يدل على أن مجرد الضمان لا يبرأ به المؤمن حتى يقضى.
(1)
هو الفقيه أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، صاحب الإمام الشافعي وناقل الأقوال القديمة عنه، كان أول اشتغاله بمذهب أهل الرأي حتى قدم الشافعي العراق فاختلف إليه واتبعه ورفض مذهبه الأول، روى عن سفيان بن عيينة وابن علية والشافعي وغيرهم، وروى عنه أبو داود وابن ماجه وأبو القاسم البغوي وغيرهم، كان أحد الثقات المأمونين ومن الأئمة الأعلام في الدين، وله الكتب المصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه، توفي سنة 240 ببغداد.
انظر: وفيات الأعيان (1/ 26)، طبقات الشافعية لابن السبكي (2/ 74).
(2)
انظر: أقوالهم في: مختصر اختلاف العلماء (4/ 255 - 256)، بداية المجتهد (2/ 360)، حلية العلماء (2/ 647)، المغني (7/ 84)، المحلى (6/ 396، 400).
(3)
انظر: المغني (7/ 86)، الإنصاف مع المقنع (13/ 7).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (2/ 440، 475، 508)، والترمذي في سننه: كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)(3/ 389 - 390) برقم (1078)، وابن ماجه في سننه: كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين (3/ 145) برقم (2413)، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 53).
2 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: توفي رجل فغسَّلناه وحنَّطناه
(1)
وكفنّاه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه فقلنا: تصلي عليه، فخطا خطى، ثم قال:(أعليه دين)؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أحق الغريم وبرئ منهما الميت)؟ قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم:(ما فعل الديناران)؟ فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الآن بردت عليه جلده)
(2)
.
(3)
.
نوقش هذا الدليل: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة حين ضمن دين الميت عنه: (برئ منهما الميت).
(1)
حنطناه: من الحنوط، وهو ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم.
انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 450)، القاموس المحيط (ص 856).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 330)، وأبو داود في سننه: كتاب البيوع والإجارات، باب في التشديد في الدين (3/ 638 - 639) برقم (3343)، والنسائي في سننه: كتاب الجنائز، باب الصلاة على من عليه دين (4/ 367 - 368) برقم (1961)، والدارقطني في سننه (3/ 79)، والحاكم في المستدرك (2/ 66 - 67)، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي، وصحّحه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 422).
(3)
نيل الأوطار (5/ 270). وانظر: مختصر اختلاف العلماء (4/ 257 - 258).
أجيب عنه بجوابين:
الأول: إن المراد أن الميت برئ من رجوع أبي قتادة عليه؛ لأن ضمانه كان بغير أمره
(1)
.
الثاني: إن المراد أن أبا قتادة صار هو «المطالب بها، وهذا على سبيل التأكيد لثبوت الحق في ذمته، ووجوب الأداء عليه، بدليل قوله في سياق الحديث - حين أخبره بالقضاء -: (الآن بردت عليه جلده)»
(2)
.
3 -
لأن الضمان مشتق من ضمّ ذمة إلى ذمة في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما، وهذا ينافي براءة المضمون عنه بمجرد الضمان
(3)
.
4 -
لأن الضمان وثيقة في ثبوت الحق فلم يجز أن ينتقل به الحق، كالشهادة والرهن
(4)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الزعيم غارم)
(5)
.
وجه الدلالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما خصّ الضامن بالغرم، دلّ على أن المضمون عنه برئ من الغرم
(6)
.
(1)
انظر: الحاوي (6/ 436).
(2)
المغني (7/ 85 - 86).
(3)
انظر: الحاوي (6/ 436)، المغني (7/ 86).
(4)
انظر: الحاوي (6/ 436)، المغني (7/ 85).
(5)
تقدم تخريجه صفحة 293.
(6)
انظر: الحاوي (6/ 436).
2 -
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه. فإن قيل: (عليه دين) كفّ عن الصلاة عليه، وإن قيل:(ليس عليه دين) صلى عليه. فأتي بجنازة فلما قام ليكبر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (هل على صاحبكم دين)؟ قالوا: ديناران، فعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقال:(صلوا على صاحبكم)، فقال علي رضي الله عنه: هما عليَّ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، برئ منهما، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، ثم قال لعلي بن أبي طالب:(جزاك الله خيرا. فكّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك. إنه ليس من ميت يموت وعليه دين إلا وهو مرتهن بدينه، ومن فكّ رهان ميت فكّ الله رهانه يوم القيامة)، فقال بعضهم: هذا لعليّ عليه السلام خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: (بل للمسلمين عامة)
(1)
.
وجه الدلالة: يمكن أن يستدل بهذا الحديث من وجهين:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن امتنع من الصلاة عليه - صلى عليه، فدل على براءة ذمته، ولو كان الدين باقيا لكان الامتناع قائما
(2)
.
ثانياً: قوله عليه الصلاة والسلام: (فكّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك)، فلما أخبر بفك رهانه دلّ على براءة ذمته
(3)
.
(1)
أخرجه الدارقطني في السنن (3/ 47)، والبيهقي في سننه: كتاب الضمان، باب وجوب الحق بالضمان (6/ 73)، وفي إسناده عطاء بن عجلان؛ قال البيهقي:«عطاء بن عجلان ضعيف، والروايات في تحمل أبي قتادة دين الميت أصحّ. والله أعلم» .
(2)
الحاوي (6/ 436).
(3)
المرجع السابق.
3 -
حديث جابر رضي الله عنه السابق في أدلة القول الأول، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة - بعد ما تكفل بقضاء دين الميت -:(برئ منهما الميت)
(1)
.
وجه الدلالة: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (برئ منهما الميت) صريح في براءة المضمون عنه من الحق بضمان أبي قتادة له
(2)
.
4 -
لأن المال دين واحد، فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه، كالمحال به؛ وذلك لأن الواحد لا يحل في محلين
(3)
.
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بالآتي:
1 -
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه السابق في أدلة القول الثاني
(4)
.
2 -
حديث جابر رضي الله عنه السابق في أدلة القول الثاني
(5)
.
وجه الدلالة منهما: سبق ذكره في أدلة القول الثاني، لا سيما وقد وردت في الميت.
3 -
لأن فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته. فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان، بخلاف الحي، فإن المقصود من الضمان في حقه الاستيثاق بالحق، وثبوته في الذمتين آكد في الاستيثاق
(6)
.
(1)
تقدم تخريجه صفحة 299.
(2)
انظر: المغني (7/ 85).
(3)
المرجع السابق.
(4)
تقدم تخريجه صفحة 301.
(5)
تقدم تخريجه صفحة 299.
(6)
المغني (7/ 86).