الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
في المعنى الإجمالي للضابط
إن الوديعة أمانة؛ فإذا تلفت عند المودع عنده، فإنه لا يجب عليه ضمانها إلا إذا تعدى أو فرط فيها.
المطلب الرابع
في أقوال الفقهاء وأدلتهم في الضابط
اتفق الفقهاء على أن المودع عنده إذا تعدى في الوديعة أو فرط في حفظها، فتلفت؛ وجب عليه ضمانها؛ لأنه متلف لمال غيره فضمنه، كما لو أتلفه من غير استيداع
(1)
.
أما إذا تلفت الوديعة من غير تعدّ من المودع عنده أو تفريط؛ فقد حكى بعض العلماء الإجماع على عدم وجوب الضمان على المودع عنده.
قال أبو بكر بن المنذر: «وأجمع أكثر أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم تلفت من غير جنايته، أن لا ضمان عليه»
(2)
.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: «الوديعة أمانة في يد المودع، فإن تلفت من غير تفريط لم تضمن .. ، وهو إجماع فقهاء الأمصار»
(3)
.
وقال الوزير ابن هبيرة: «واتفقوا على أن الوديعة أمانة، وأنها من القرب المندوب إليها، وأن في حفظها ثوابا، وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بالتعدي»
(4)
.
(1)
انظر: مراتب الإجماع (ص 61)، المحلى (7/ 137)، المغني (9/ 257 - 258).
(2)
الإجماع (ص 146).
(3)
المهذب مع المجموع (15/ 9).
(4)
الإفصاح (2/ 23).
وقال أبو الوليد بن رشد الحفيد: «وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب، هي في أحكام الوديعة: فمنها أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة، إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب»
(1)
.
وعلى الرغم من وجود الجزم في حكاية الإجماع - كما في نص أبي إسحاق الشيرازي -، أو الاتفاق - كما في نص ابن هبيرة - على عدم الضمان، إلا أن نص كل من ابن المنذر وابن رشد يشعر بوجود خلاف في المسألة، وبيان هذا الخلاف على النحو الآتي:
اختلف الفقهاء في ما إذا تلفت الوديعة في يد المودع عنده، من غير تعدّ منه أو تفريط على قولين:
القول الأول: لا ضمان على المودع عنده، إلا إذا تلفت الوديعة من بين ماله، فهنا يجب عليه الضمان وإن لم يتعدّ أو يفرط. وهو رواية عن أحمد
(2)
وقول إسحاق بن راهويه
(3)
.
القول الثاني: لا ضمان على المودع عنده، حتى لو تلفت الوديعة من بين ماله. وهو مذهب الحنفية
(4)
والمالكية
(5)
والشافعية
(6)
وأصح الروايتين عن أحمد -
(1)
بداية المجتهد (2/ 378).
(2)
انظر: المغني (9/ 257)، تقرير القواعد (1/ 307، 323)، الإنصاف مع المقنع (16/ 7 - 8)، الإقناع (3/ 5).
(3)
انظر: الحاوي (8/ 356).
(4)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 210)، الاختيار (3/ 29)، البحر الرائق (7/ 273 - 274)، حاشية رد المحتار (5/ 663 - 664).
(5)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 624، 626)، المقدمات الممهدات (2/ 455)، عقد الجواهر الثمينة (2/ 721، 722)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (6/ 114).
(6)
انظر: اللباب للمحاملي (ص 254)، الحاوي (8/ 356)، التهذيب للبغوي (5/ 117)، روضة الطالبين (6/ 327)، مغني المحتاج (3/ 81).
عليها المذهب-
(1)
، وهو قول الظاهرية
(2)
وشريح والنخعي والثوري والأوزاعي
(3)
.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمّنه وديعة سرقت من بين ماله
(4)
.
وجه الدلالة: هذا الأثر صريح الدلالة على أن الوديعة إن تلفت من بين مال المودع عنده؛ فإنه يضمن.
نوقش هذا الأثر بما يأتي:
أولاً: إنه محمول على التفريط من أنس في حفظها، فضمنها إياه بالتفريط
(5)
.
ثانياً: إنه معارض بأثر آخر عن عمر رضي الله عنه سيأتي في أدلة القول الثاني.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والمعقول، وهي كما يأتي:
(1)
انظر: المغني (9/ 257)، تقرير القواعد (1/ 307، 323)، الإنصاف مع المقنع (16/ 7 - 8)، الإقناع (3/ 5).
(2)
انظر: المحلى (7/ 137).
(3)
انظر أقوالهم في: المغني (9/ 257).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 182)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الوديعة، باب لا ضمان على مؤتمن (6/ 289 - 290)، وقال ابن حزم: في المحلى (7/ 137): «وقد صح عن عمر بن الخطاب تضمين الوديعة» ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 386).
(5)
انظر: الحاوي (8/ 356)، السنن الكبرى (6/ 290)، المغني (9/ 257).
1 -
قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
(1)
.
وجه الدلالة: تبين الآية الكريمة أن من أحسن في فعل شيء، ثم ترتب على هذا الإحسان تلف أو نقص؛ فإنه لا يجب الضمان على المحسن، ومن ذلك المودع عنده إذا تلفت الوديعة في يده من غير تعدّ منه أو تفريط؛ لم يجب عليه الضمان وإن تلفت من بين ماله.
وفي ذلك يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عند تفسيره لهذه الآية: «ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن؛ لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن - وهو المسيء - كالمفرط؛ أن عليه الضمان»
(2)
.
2 -
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
(3)
.
وجه الدلالة: أن الله تعالى سمى الوديعة أمانة؛ فلا تضمن؛ لأن الضمان ينافي الأمانة
(4)
.
3 -
عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)
(5)
.
(1)
سورة التوبة، الآية [91].
(2)
تيسير الكريم الرحمن (ص 348).
(3)
سورة النساء، الآية [58].
(4)
انظر: المغني (9/ 257).
(5)
متفق عليه، وقد سبق تخريجه صفحة 81.
وجه الدلالة: دلّ هذا الحديث الشريف على حرمة أموال المسلمين، وعدم جواز أكلها بغير وجه حق، ويدخل في هذا: مال المودع عنده؛ فإنه حرام على غيره، ما لم يوجب أخذه منه نص
(1)
.
4 -
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه)
(2)
.
وجه الدلالة: أن هذا الحديث نص في عدم وجوب الضمان على المودع عنده.
نوقش: أن هذا الحديث متكلم فيه، وقد ضعفه بعض العلماء - كما في تخريجه في الحاشية -.
5 -
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان)
(3)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الضمان عن المودع عنده إذا لم يكن خائنا.
نوقش هذا الحديث: بأن العلماء قد حكموا عليه بالضعف؛ فلا يصلح حجة.
6 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «العارية بمنزلة الوديعة، ولا ضمان فيها إلاّ أن يتعدّى»
(4)
.
(1)
انظر: المحلى (7/ 137).
(2)
أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الأحكام، باب الوديعة (3/ 138) برقم (2401)، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (ص 326):((هذا إسناد ضعيف، المثنى هو ابن الصباح ضعيف، والراوي عنه فيه ضعف أيضا))، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 211):«وفيه المثنى بن الصباح وهو متروك» ، وحسن الألباني الحديث بمجموع طرقه كما في إرواء الغليل (5/ 385 - 386).
(3)
سبق تخريجه صفحة 538، وقد أخرجه الدارقطني والبيهقي، وضعفه أهل العلم.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 179)، وابن حزم في المحلى (8/ 145)، وقال التهانوي في إعلاء السنن (16/ 56):"وسند عبدالرزاق حسن".