الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحال الثانية: أن تتلف العين المعارة أو بعض أجزائها بسبب غير الاستعمال المأذون فيها:
اختلف الفقهاء في ما إذا تلفت العين المستعارة تحت يد المستعير بسبب غير الاستعمال المأذون فيه، هل يلزمه ضمانها أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يلزم المستعير ضمان العارية إذا تلفت تحت يده مطلقا؛ سواء كان ذلك بتعدّ منه أو تفريط أو لم يكن، كما إذا هلكت بآفة سماوية.
وهذا مروي عن عبدالله بن عباس وأبي هريرة وعبدالله بن عمر ومعاذ بن جبل
(1)
رضي الله عنهم أجمعين، وبه قال شريح وعطاء بن أبي رباح
(2)
(3)
وأشهب
(4)
من
(1)
هو الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب الأنصاري، الإمام المقدم في الحلال والحرام، شهد المشاهد كلها، وله أحاديث رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن عباس وابن عمر وابن عدي وغيرهم، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قاضيا، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة 17 هـ أو التي بعدها.
انظر: معجم الصحابة (3/ 24 - 25)، الإصابة (6/ 106 - 107).
(2)
هو شيخ الإسلام مفتي الحرم أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم المكي، ولد في أثناء خلافة عثمان ونشأ بمكة، حدث عن عائشة وأم سلمة وأم هانئ وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، حدث عنه: مجاهد بن جبر وأبو إسحاق السبيعي وأبو الزبير وغيرهم، توفي سنة 114 هـ، وقيل غير ذلك.
انظر: الطبقات الكبرى (2/ 294 - 295)، سير أعلام النبلاء (5/ 78 - 88).
(3)
انظر أقوالهم: مختصر خلافيات البيهقي (3/ 411)، المغني (7/ 341)، المحلى (8/ 139).
(4)
هو الإمام الفقيه أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي العامري الجندي، اسمه مسكين، وأشهب لقب، ولد سنة 140 هـ، وقيل غير ذلك، روى عن مالك والليث والفضيل بن عياض وجماعة، روى عنه بنوه عبد الحكم والحارث بن مسكين وسحنون بن سعيد وجماعة، توفي سنة 204 هـ.
انظر: الديباج المذهب (ص 162)، شجرة النور الزكية (ص 59).
المالكية
(1)
والشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور عندهم
(2)
، وهو الرواية المشهورة عن أحمد، أخذ بها جمهور أصحابه، وهو المذهب عندهم
(3)
.
القول الثاني: انه لا يلزم المستعير ضمان ما لا يخفى هلاكه من العواري
- كالعقار والحيوانات ونحوها - إلا إذا تعدى أو فرط، ويضمن ما يخفى هلاكه - كالحلي والنقود ونحوها - إلا إذا قامت البينة على عدم التعدي والتفريط فيه. وهذا مذهب المالكية
(4)
.
القول الثالث: أن العارية تعد أمانة عند المستعير؛ فلا يضمنها إلا بتعد
منه أو تفريط.
وهذا مروي عن عمر بن الخطاب
(5)
وعلي بن أبي
(1)
انظر: المقدمات الممهدات (2/ 471)، بداية المجتهد (2/ 382)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 398).
(2)
انظر: مختصر المزني (ص 116)، حلية العلماء (2/ 679)، روضة الطالبين (4/ 431)، مختصر خلافيات البيهقي (3/ 408).
(3)
انظر: المغني (7/ 341)، الفروع (4/ 474)، تقرير القواعد (1/ 305)، المبدع (5/ 144)، الإنصاف مع المقنع (15/ 88 - 89).
(4)
انظر: المعونة (2/ 1208 - 1209)، المقدمات الممهدات (2/ 471)، بداية المجتهد (2/ 382)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 398)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/ 436).
(5)
هو الصحابي الجليل أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح القرشي العدوي، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين، ولد قبل البعثة بثلاثين سنة، كان عند المبعث شديدا على المسلمين، ثم أسلم فكان إسلامه فتحا على المسلمين وفرجا لهم عن الضيق، وله مناقب جمة كثيرة.
انظر: سيرة الخلفاء الراشدين من سير أعلام النبلاء (ص 71، 88)، والإصابة (4/ 279 - 280).
طالب
(1)
رضي الله عنهما، وبه قال إبراهيم النخعي
(2)
والشعبي
(3)
والثوري والأوزاعي
(4)
وابن شبرمة
(5)
، وهو مذهب الحنفية
(6)
، وقول ضعيف عند
(1)
هو الصحابي الجليل أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أو الناس إسلاما في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، وروى عنه: ولداه الحسن والحسين وابن مسعود وغيرهم، قتل في ليلة السابع عشر من رمضان سنة 40 هـ.
انظر: معجم الصحابة (2/ 259 - 260)، الإصابة (4/ 269 - 271).
(2)
هو فقيه العراق أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس الأسود النخعي الكوفي، أمه مليكة أخت الأسود بن يزيد، روى عن الأسود بن يزيد ومسروق وغيرهما، وروى عنه: الحكم بن عتيبة وسليمان الأعمش وخلق سواهما، لم يحدث عن أحد من الصحابة وقد أدرك منهم جماعة، ورأى عائشة، توفي سنة 96 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 520)، تقريب التهذيب (1/ 69)، شذرات الذهب (1/ 111).
(3)
هو التابعي الجليل أبو عمرو عامر بن شراحيل الهمداني الحميري الكوفي، ولد سنة 21 هـ، وقيل غير ذلك، كان من الفقهاء في الدين، روى عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وخلق سواهم، روى عنه: الحكم وأبو إسحاق السبيعي وعلقمة وغيرهم، توفي سنة 106 هـ، وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 294)، تهذيب التهذيب (5/ 60).
(4)
هو الإمام الفقيه أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي الشامي الدمشقي، من تابعي التابعين، إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة، كان أهل الشام والمغرب على مذهبه قبل انتقالهم إلى مذهب مالك رحمه الله، سمع عطاء بن أبي رباح وقتادة ونافعا وغيرهم، وروى عنه: الزهري وسفيان ومالك، ولد سنة 88 هـ، وتوفي سنة 157 هـ.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 298)، سير أعلام النبلاء (7/ 107)، تهذيب التهذيب (6/ 215).
(5)
انظر أقوالهم: حلية العلماء (2/ 679)، المغني (7/ 341)، المحلى (8/ 145).
(6)
انظر: المبسوط (11/ 134) بدائع الصنائع (6/ 217)، رؤوس المسائل (ص 342)، الهداية مع فتح القدير (7/ 468)، إيثار الإنصاف (ص 507).
الشافعية
(1)
، وبه قال بعض الحنابلة
(2)
، وهو اختيار ابن القيم
(3)
.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والمعقول، وهي كما يأتي:
1 -
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
(4)
.
وجه الاستدلال: أن الله جلّ وعلا أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وهذا عام يشمل العارية، والأمر بتأدية العارية يقتضي ردّ عينها إن كانت باقية، أو ضمان بدلها إن كانت تالفة.
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: انه يلزمكم على هذا الاستدلال أن تقولوا بوجوب ضمان الوديع للوديعة، وقد قال به بعض العلماء، ولكنكم لا تقولون بذلك
(5)
.
الوجه الثاني: أن المستعير مأمور بأداء العارية ما دام قادرا على أدائها، فإن عجز عن أدائها - كأن تلفت- فالله تعالى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(6)
.
والأمر بتأدية الأمانة لا يستلزم ضمانها إذا تلفت
(7)
.
(1)
انظر: روضة الطالبين (4/ 431).
(2)
انظر: الفروع (4/ 474)، المبدع (5/ 144)، الإنصاف مع المقنع (15/ 90).
(3)
انظر: المراجع السابقة. وزاد المعاد (3/ 482، 483).
(4)
سورة النساء، الآية [58].
(5)
انظر: المحلى (8/ 140).
(6)
سورة البقرة، الآية [286].
(7)
انظر: المرجع السابق، ونيل الأوطار (5/ 334).
الوجه الثالث: انه ليس في هذه الآية تضمين؛ لأن أداء الغرامة غير أداء الأمانة، بدليل أنه ليس في الآية أداء غيرها ولا ضمانها
(1)
.
2 -
عن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم خيبر أدرعاً، فقال: أغصباً يا محمد؟ فقال: (بل عارية مضمونة)، قال: فضاع بعضها؛ فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب
(2)
.
وجه الاستدلال: يمكن الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على أن العارية مضمونة.
الثاني: أنه جاء في الحديث أن بعض الدروع ضاع، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم على صفوان أن يضمنها له
(3)
.
وقد نوقش الوجه الأول من الاستدلال بهذا الحديث بما يلي:
أولاً: إن هذا الحديث فيه كلام، وقد ضعفه بعض أهل العلم كابن حزم
(4)
.
ثانياً: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مضمونة) يحتمل أمرين: إما أنها مضمونة بالرد أو مضمونة بالتلف، والأظهر أنها مضمونة بالرد
(5)
، وذلك لثلاثة أوجه:
(1)
انظر: المحلى (8/ 140).
(2)
سبق تخريجه صفحة 73،وقد رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقواه البيهقي والألباني.
(3)
انظر: زاد المعاد (3/ 482).
(4)
انظر: المحلى (8/ 140 - 142).
(5)
انظر: بدائع الصنائع (6/ 217)، زاد المعاد (3/ 482).
* أحدها: أنه جاء في لفظ آخر لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل عارية مؤداة)
(1)
؛ فهذا يبين أن قوله: (مضمونة) المراد به: المضمونة بالأداء.
* الثاني: أن صفوان بن أمية لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تلفها، وإنما سأله: هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها؟ فقال: لا بل أخذ عارية أؤديها إليك. ولو كان سأله عن تلفها وقال: أخاف أن تذهب لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت.
* الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الضمان صفة للعارية نفسها، ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها، فلما وقع الضمان على ذاتها دلّ على أنه ضمان أداء
(2)
.
ثالثاً: إن هذا الحديث محمول على اشتراط الرسول صلى الله عليه وسلم الضمان على نفسه، والمستعير وإن كان لا يضمن إلا أنه يضمن بالشرط، كالمودع
(3)
.
رابعاً: إن استعارة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بغير إذن صفوان؛ لحاجة المسلمين؛ ولهذا قال: أغصبا يا محمد؟ وعند الحاجة يرخص تناول مال الغير بغير إذنه بشرط الضمان، كحال المخمصة
(4)
.
وأما الوجه الثاني من الاستدلال بهذا الحديث فقد ناقشه ابن القيم بقوله: «فإن قيل: ففي القصة أن بعض الدروع ضاع؛ فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن
(1)
تقدم تخريجه صفحة 73، وقد رواه بهذا اللفظ البيهقي في سننه الكبرى (6/ 88).
(2)
انظر: زاد المعاد (3/ 482).
(3)
انظر: المبسوط (11/ 136)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي (2/ 538)، تبيين الحقائق (5/ 85).
(4)
انظر:: المبسوط (11/ 136)، تبيين الحقائق (5/ 85).
يضمنها، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب، قيل: هل عرض عليه أمراً واجباً أو أمراً جائزاً مستحباً الأولى فعله، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجباً، لم يعرضه عليه، بل كان يفي له به، ويقول: هذا حقك، كما لو كان الذاهب بعينه موجودا؛ فإنه لم يكن ليعرض عليه ردّه فتأمله»
(1)
.
3 -
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)
(2)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب ضمان ما أخذه الإنسان، وهذا عام يشمل العارية، فيجب على المستعير ضمان العارية مطلقاً، سواء تعدى عليها أو فرط أو لم يتعدّ ولم يفرط.
نوقش هذا الدليل بما يلي:
أولاً: إن الحديث من رواية الحسن
(3)
عن سمرة، وقد اختلف في سماعه منه، وضعفه بعض أهل العلم به
(4)
.
(1)
زاد المعاد (3/ 482 - 483)
(2)
سبق تخريجه صفحة 155.
(3)
هو الإمام المشهور أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار التابعي البصري الأنصاري مولاهم، مولى زيد بن ثابت، وقيل غير ذلك، وأمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، سمع ابن عمر وأنسا وسمرة، وسمع منه جماعة من التابعين، والحسن مع جلالته فهو مدلس، ومراسيله ليست بذلك، مات سنة 110 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 563)، شذرات الذهب (1/ 136).
(4)
انظر: التلخيص الحبير (3/ 117)، الجوهر النقي (6/ 90)، إرواء الغليل (5/ 348).
ثانياً: إن الأداء غير التضمين، ولا يلزم من الأمر بالأداء وجوب الضمان، ولو لزم من هذا اللفظ الضمان للزم أن يضمنوا الرهون والودائع وغيرها من الأمانات؛ لأنها مما قبضت اليد، وهم لا يقولون بذلك فيها، فيلزمهم أن لا يقولوا به في العارية
(1)
.
4 -
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع يقول: (العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم)
(2)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب أداء العواري، والأداء هنا يشمل ضمانها إذا تلفت.
نوقش هذا الاستدلال: أن الأمر بتأدية العارية لا يستلزم ضمانها إذا تلفت؛ فإن أداء الغرامة غير أداء الأمانة، كالعارية، بدليل أنه ليس في الحديث أداء غيرها ولا ضمانها
(3)
.
5 -
إن المستعير قد أخذ ملك غيره لنفع نفسه، منفردا بنفعه، من غير استحقاق، ولا إذن في الإتلاف، فكان مضمونا كالغصب والمأخوذ على وجه السوم
(4)
.
(1)
انظر: المحلى (8/ 144)، الجوهر النقي (6/ 90).
(2)
تقدم تخريجه صفحة 294، وقد رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه الترمذي والألباني.
(3)
انظر: المحلى (8/ 140).
(4)
انظر: المغني (7/ 342).
نوقش هذا التعليل: بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الغاصب أخذ العين بدون إذن مالكها، فيجب عليه الضمان، لتعديه، بخلاف المستعير فقد أخذ العين بإذن مالكها، فلم يجب عليه الضمان إلا بالتعدي والتفريط كالوديعة
(1)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة والعقل، وقد جعلتها في قسمين:
القسم الأول: الأدلة على عدم الضمان - فيما لا يغاب عنه ولا يخف هلاكه - إلا بتعد أو تفريط، وهي:
1 -
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المستعير غير المغل
(2)
ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان)
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الضمان عن المستعير إذا لم يغل، وهذا محمول على ما لا يغاب عنه ولا يخفى هلاكه.
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن هذا الحديث ضعيف لا يصح؛ لوجود رجلين ضعيفين في إسناده، كما بينته في الحاشية.
(1)
انظر: المحلى (8/ 145).
(2)
المغل: أي الخائن، من الإغلال وهي الخيانة في كل شيء.
انظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 381)، مختار الصحاح (ص 479).
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 41)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب العارية، باب من قال لا يغرم (6/ 91). وفي إسناده: عمرو بن عبد الجبار وعبيدة بن حسان، وهما ضعيفان كما قال الدارقطني، ثم قال الدارقطني: وإنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع. وكذلك ضعفه الشوكاني - كما في السيل الجرار (3/ 286، 342). وانظر: التلخيص الحبير (3/ 210).
الثاني: أنه على فرض صحة الحديث فإنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد ضمان المنافع والأجرة
(1)
.
2 -
إن ما لا يغاب عنه ولا يخفى هلاكه من الحيوان والعقار ونحوها، قد قبضه لاستيفاء منفعة نفسه، فلم يضمن به مع عدم التعدي كالعبد الموصى بخدمته والعبد المستأجر والدار
(2)
.
3 -
إن ما لا يغاب عنه ولا يخفى هلاكه - كالحيوان والعقار ونحوها - أعيان مستعارة قبضت لاستيفاء منفعة تطوع بها المالك، فلم يضمن تلفها - إذا لم يتعد ولم يفرط - كالأجراء والعبد الموصى بخدمته
(3)
.
نوقش هذان التعليلان:
إن ما ذكرتم منطبق - أيضا - على ما يغاب عنه ويخفى هلاكه، فلماذا هذا التفريق؟ وأين الدليل على هذا التفريق؟.
القسم الثاني: الأدلة على وجوب الضمان فيما يغاب عنه ويخفى هلاكه إلا إذا قامت بينة على عدم التعدي أو التفريط:
1 -
عن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم خيبر أدرعاً، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: (بل عارية مضمونة)
(4)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن العارية مضمونة، وقد جاء في السلاح، وهو مما يغاب عنه ويخفى هلاكه، فيحمل هذا الحديث على ما يغاب عنه
(1)
انظر: المغني (7/ 342)، المبدع (5/ 144).
(2)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 622)، المعونة (2/ 1209).
(3)
انظر: المرجعين السابقين.
(4)
تقدم تخريجه صفحة 73.
ويخفى هلاكه كالحلي والنقود، جمعا بينه وبين حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما السابق
(1)
.
يناقش هذا الدليل: بما نوقش به عند استدلال أصحاب القول الأول به.
2 -
إن المستعير قبض العارية لمنفعته، فجاز أن يتعلق بها الضمان كالقرض
(2)
.
نوقش هذا التعليل: بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن القرض تمليك، والعارية إباحة، فلم يصح قياس أحدهما على الآخر، كما أنه قد يعارض هذا القياس بمثله، وهو: أن العارية دفع مال بغير عوض كالوديعة
(3)
.
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والمعقول، وهي كما يأتي:
1 -
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
(4)
.
2 -
وقال - جل وعلا -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(5)
.
وجه الدلالة من هاتين الآيتين الكريمتين:
إن الله - جل وعلا - نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وإيجاب الضمان على المستعير في حالة عدم تعدية أو تفريطه يعد من أكل أموال الناس بالباطل؛ إذ لم يدل عليه كتاب ولا سنة
(6)
.
(1)
انظر: بداية المجتهد (2/ 383).
(2)
انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 622)، المعونة (2/ 1209).
(3)
انظر: المحلى (8/ 145).
(4)
سورة البقرة، الآية [188].
(5)
سورة النساء، الآية [29].
(6)
انظر: المحلى (8/ 145).
3 -
قال الله سبحانه وتعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
(1)
.
4 -
وقال - جل وعلا -: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
(2)
.
وجه الدلالة من هاتين الآيتين الكريمتين:
إن الله سبحانه وتعالى بين أنه لا سبيل على المحسنين، وإنما السبيل على الظالمين، والمستعير - ما لم يتعد أو يفرط - محسن؛ فلا سبيل عليه بغرم
(3)
.
5 -
عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)
(4)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أموال المسلمين وأخذها بغير وجه حق، ومن ذلك إيجاب الضمان على المستعير إذا لم يتعد أو يفرط؛ إذ لم يدل عليه نص من القرآن أو السنة.
مناقشة الأدلة الخمسة السابقة:
يمكن أن تناقش هذه الأدلة الخمسة بأنها أدلة عامة، وقد جاء في أدلة القول الأول والثاني ما هو أخص من هذه الأدلة؛ فيقضى بالخاص على العام.
ويجاب عنه: بأن هذه الأدلة الخاصة التي ذكرتموها، قد تقدم الإجابة عنها في مواضعها من أدلة القول الأول والثاني.
(1)
سورة التوبة، الآية [91].
(2)
سورة الشورى، الآية [42].
(3)
انظر: المحلى (8/ 145).
(4)
تقدم تخريجه صفحة 81، وهو متفق عليه.
6 -
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع يقول: (العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم)
(1)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن العارية مؤداة إلى صاحبها، وهذا يدل على أنها أمانة؛ لقول الله - جل وعلا -:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
(2)
، وشأن الأمانات أنها لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط
(3)
.
7 -
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان)
(4)
.
8 -
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضمان على مؤتمن)
(5)
.
وجه الدلالة من هذين الحديثين: إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الضمان عن المستعير - إذا لم يغل - كما نفى الضمان عن الأمين، وهو يشمل المستعير.
نوقش هذان الحديثان بما يلي:
1 -
إن الحديثين ضعيفان - كما بينته عند تخريجهما في الحاشية - فلا يستند إليهما.
(1)
تقدم تخريجه صفحة 294، وقد رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه الترمذي والألباني.
(2)
سورة النساء، الآية [58].
(3)
انظر: المغني (7/ 342).
(4)
سبق تخريجه قريبا صفحة 534.
(5)
أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 41)، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الوديعة، باب لا ضمان على مؤتمن (6/ 289)، وضعفه البيهقي وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 210)، والشوكاني في السيل الجرار (3/ 286، 342).
2 -
أنه على فرض صحة الحديثين فإنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد ضمان المنافع والأجرة
(1)
.
3 -
وأما القبض فلوجهين:
أحدهما: أن قبض مال الغير بغير إذنه لا يصلح سبباً لوجوب الضمان، فبالإذن أولى؛ وهذا لأن قبض مال الغير بغير إذنه هو إثبات اليد على مال الغير وحفظه وصيانته عن الهلاك، وهذا إحسان في حق المالك، قال الله تبارك وتعالى وجل شأنه:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
(2)
، وقال تبارك وتعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
(3)
، فدل ذلك على أن قبض مال الغير بغير إذنه لا يصلح سببا لوجوب الضمان، فمع الإذن أولى.
الثاني: أن القبض المأذون فيه لا يكون تعديا؛ لأنه لا يفوت يد المالك، ولا ضمان إلا على المتعدي، قال الله تبارك وتعالى:{فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}
(4)
، بخلاف قبض الغصب»
(5)
.
(1)
انظر: المغني (7/ 342)، المبدع (5/ 144).
(2)
سورة الرحمن، الآية [60].
(3)
سورة التوبة، الآية [91].
(4)
سورة البقرة، الآية [193].
(5)
بدائع الصنائع (6/ 217) بتصرف يسير. وانظر: الهداية مع فتح القدير (7/ 469)، المغني (7/ 341 - 342).