الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما أجمل لنا أمره بالقصاص في الجروح جملة، ولم يخص شيئا - فنحن نشهد بشهادة اللَّه تعالى التامة الصادقة، ونقطع قطع الموقن المصدق بكلام ربه تعالى: أن ربنا عز وجل لو أراد تخصيص شيء من الجروح بالمنع من القصاص في العمد لبينها لنا (1).
ججج عدم صحة الإجماع لوجود الخلاف في المسألة.
[107/ 12] ثبوت الحكومة في جراح الخطأ فيما دون الموضحة بعد الاندمال
• المراد من المسألة: إذا جنى أحد على آخر بجراحة دون الموضحة من إحدى الجراحات الخمس، وهي: الحارِصة (2)، والبازِلة (3)، والباضِعة (4)، والمتلاحمة (5)، والسِمحاق (6)، فإن القصاص فيها لا يجب باتفاق، وإنما الواجب فيها حكومة، ومحلّ تقديرها بعد اندمال الجرح.
• من نقل الإجماع: قال الإمام مالك (179 هـ): الأمر عندنا أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج عقل حتى تبلغ الموضحة، وإنما العَقل في
(1) ينظر: المحلى (11/ 98).
(2)
الحارِصة: هي التي تحرص الجلد، أي، تشقه قليلًا، ومنه: حرص القصار الثوب، أي: خرفه بالدق. ينظر: المطلع على أبواب المقنع (ص: 448)، طلبة الطلبة (ص: 165).
(3)
البازلة، وتسمى الدامية، والدامعة: من بزلت الشجة الجلد أي: شقته فجرى الدم ويقال: بزلت الخمر: نقبت إناءها فاستخرجتها، فالدم محبوس في محله، كالمائع في وعائه والشجة بزلته. ينظر: المطلع على أبواب المقنع (ص: 448).
(4)
الباضعة: الشجة التي تقطع الجلد وتشق اللحم، إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال فهي: الداحية. ينظر: المطلع على أبواب المقنع (ص: 448)، طلبة الطلبة (ص: 165).
(5)
المتلاحمة: الشجة التي أخذت في اللحم ولم تبلغ السمحاق. ينظر: المصباح المنير (2/ 551)، أنيس الفقهاء (ص: 109).
(6)
السمحاق: قشرة رقيقة فوق عظم الرأس، وبها سميت الشجة إذا وصلت إليها: سمحاقًا. ينظر: المطلع على أبواب المقنع (ص: 448)، طلبة الطلبة (ص: 165).
الموضّحة فما فوقها، وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الموضحة، في كتابه لعمرو بن حزم فجعل فيها خمسا من الإبل، ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث، فيما دون الموضحة بعقل (1).
وقال الإمام ابن رشد (595 هـ): اتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل، وإنما فيها حكومة (2).
وقال الإمام ابن هُبيرة (560 هـ): وأجمعوا على أن في كل واحد منها حكومة بعد الاندمال (3).
وقال الإمام قاضي صَفَد (بعد 780 هـ): وأجمعوا على أن في كل واحدة من هذه الخمسة حكومة بعد الاندمال (4).
• من وافق الإجماع: وافق هذا الإجماع المنقول الحنفية (5).
• مستند الإجماع: أن هذه الجراحات التي دون الموضِحة ليس فيه أرش مقدر شرعا، ولا يمكن إهداره فوجب اعتباره بحكم العدل (6).
• من خالف الإجماع: الخلاف في هذه المسألة مروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وعمر وعثمان رضي الله عنهما، وعلي رضي الله عنه، حيث روي عن زيد أنه قضى في الدامية ببعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاث من الإبل، وفي السمحاق أربع (7)، وروي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قضيا في
(1) الموطأ (2/ 859).
(2)
بداية المجتهد (4/ 202).
(3)
اختلاف الأئمة العلماء (2/ 236).
(4)
رحمة الأمة (ص: 241).
(5)
ينظر: المبسوط (26/ 74)، بدائع الصنائع (7/ 324).
(6)
ينظر: المبسوط (26/ 81)، الهداية (4/ 465).
(7)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9/ 307) رقم (17321)، والدارقطني في سننه (3460)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 84) رقم (16636)، وضعفه.
الملطاة، -وهي السمحاق- نصف دية الموضحة (1)، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قضى في السِمحاق بأربع من الإبل (2).
وأخذ أبو العباس بن سُرَيج بقول زيد بن ثابت رضي الله عنه (3)، وهو رواية عن الإمام أحمد (4).
وهناك وجه آخر حكي عن الإمام الشافعي، وهو أن يعتبر قدر ما انتهت إليه تلك الجراحة في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتى وصلت إلى العظم إذا أمكن، فإذا عُرف مقداره من: ربع، أو ثلث، أو نصف، كان فيه بقدر ذلك من ديّة الموضحة، فإن عُلم أنه النصف وشُكّ في الزيادة اعتبر شكّه بتقويم الحكومة، فإن زاد على النصف وبلغ الثلثين زال حكم الشك في الزيادة بإثباتها وحُكم بها، ولزم ثلثا دية الموضحة، وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها وحكم بنصف الدية، وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة وثبت حكم النصف، فإن لم يُعلم مقدار ذلك من الموضحة عُدل حينئذ إلى الحكومة التي يتقدّر الأرش فيها بالتقويم (5).
ججج عدم صحة الإجماع لوجود المخالف في المسألة، ويفهم من عبارة الشافعي في ذلك أنه قد خالف فيها بعض أهل العلم؛ فإنه قال: ولم أعلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى فيما دون الموضحة من الشجاج بشيء وأكثر قول من لقيت
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (9/ 148) رقم (27356)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 83) رقم (16636).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9/ 312)، وابن أبي شيبة في المصنف (9/ 148) رقم (27355)، وأعله البيهقي في السنن الكبرى (8/ 84) بالانقطاع.
(3)
ينظر: الحاوي للماوردي (12/ 238).
(4)
ينظر: المغني (8/ 481)، الإنصاف (10/ 107).
(5)
ينظر: الحاوي للماوردي (12/ 238).
أنه ليس فيما دون الموضحة أرش معلوم وأن في جميع ما دونها حكومة قال وبهذا نقول (1).
• تنبيه: محل الاتفاق عند من رأى الحكومة فيما دون الموضّحة بعد الاندمال إذا برئت على شين، وأما إذا برئت على غير شين فقد اختلف فيها.
قال ابن رشد: ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين، والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ، فهذه هي أحكام ما دون الموضحة (2).
[108/ 13] سِراية (3) الجناية مضمونة:
• المراد من المسألة: أن من جنى على شخص آخر بجراحة ولم يقتص المجني عليه قبل اندمال جرحه ولم يعف، فإن الجرح إذا سرى إلى ما دون موضع الجراحة فإن الجاني يلزمه ضمان ما سرت إليه جنايته.
• من نقل الإجماع: قال الإمام الكاساني (587 هـ): بالسراية يتبين أنه لا موجب بهذه الجراحة؛ لأنه عند السراية يجب موجب القتل بالإجماع وهو القصاص إن كان عمدا والدية إن كان خطأ (4).
وقال الإمام ابن قدامة (620 هـ): وسراية الجناية مضمونة بلا خلاف (5).
وقد نقله عنه الشيخ ابن قاسم (1392 هـ)(6).
وقال البهاء المقدسي (624 هـ): (وسراية الجناية مضمونة) بغير خلاف؛ لأنها أثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها، ثم إن سرت إلى النفس وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك (7).
(1) الأم (6/ 83).
(2)
بداية المجتهد (4/ 202).
(3)
السِراية: من سرى الجرح إلى النفس، أي: أثّر فيها حتى هلكت. أنيس الفقهاء (ص: 225).
(4)
بدائع الصنائع (8/ 95).
(5)
المغني (11/ 562).
(6)
حاشية الروض المربع (7/ 226).
(7)
العدة شرح العمدة (ص: 549).
وقال الإمام ابن القيم (751 هـ): وقاعدة الباب إجماعا ونزاعا: أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق (1).
وقال الإمام قاضي صَفَد (بعد 780 هـ): واتفقوا على أنه إذا جرح رجل عمدا فصار ذا فراش حتى مات أنه يُقتص منه (2).
• من وافق الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (3)، والشافعية (4)، وابن حزم من الظاهرية (5).
• مستند الإجماع:
1 -
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رجل طعن رجلا بقرن في رجله فقال يا رسول اللَّه أقدني فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تعجل حتى يبرأ جرحك قال: فأبى الرجل إلا أن يستقيد، فأقاده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه، قال: فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه، فأتى المستقيد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول اللَّه، عرجت وبرأ صاحبي، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ألم آمرك ألا تستقيد حتى يبرأ جرحك فعصيتني فأبعدك اللَّه وبطل جرحك ثم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الرجل الذي عرج من كان به جرح أن لا يستقيد حتى تبرأ جراحته فإذا برئت جراحته استقاد (6).
• وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالتأخير حتى يبرأ فيقاد له بما تبلغه تلك الحال التي يبرأ عليها، ولولا أن سراية الجرح مضمونة لما كان لتأخير
(1) زاد المعاد (4/ 128).
(2)
رحمة الأمة (ص: 236).
(3)
ينظر: إرشاد السالك (1/ 109)، القوانين الفقهية (1/ 230).
(4)
ينظر: فتح الوهاب (2/ 165)، مغني المحتاج (5/ 283).
(5)
ينظر: المحلى (11/ 41 - 42).
(6)
أخرجه أحمد في مسنده (11/ 606)، والدارقطني في سننه (3114)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 68) رقم (16540).
القصاص إلى ما بعد البرء معنى (1).
2 -
أن السراية أثر الجناية، والجناية مضمونة فكذلك أثرها (2)
ججج صحة الإجماع لعدم وجود المخالف في المسألة.
(1) ينظر: المحلى (11/ 41).
(2)
ينظر: المغني (8/ 339).