الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكحلة، والرشاء في البئر؟ ) قال: نعم، قال:(فهل تدري ما الزنا؟ ) قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا" (1).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أتى ماعز بن مالك رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)، قال: لا يا رسول اللَّه، قال: (أنكتها)، لا يكني، قال فعند ذلك أمر برجمه"(2).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استفسر من ماعز إقراره حتى فصَّل ما أقر به بأنه ارتكب ما يوجب الحد بتغييب الحشفة في الفرج (3).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر محل إجماع بين أهل العلم؛ لعدم المخالف، واللَّه تعالى أعلم.
[97/ 38] إن رجع المقر بالزنا عن إقراره سقط عنه الحد
.
• المراد بالمسألة: إذا أقر شخص على نفسه بما يوجب حد الزنا، ثم رجع عن إقراره صريحًا قبل إقامة الحد عليه، أو أثناء إقامة الحد عليه، فحينئذ يبطل إقراره الأول، ويسقط عنه الحد.
ويتبين مما سبق أنه لو لم يصرِّح بالرجوع كأن هرب حين رجموه، أو قال: لا تحدُّوني فسقوط الحد حينئذ محل خلاف غير مراد في المسألة (4).
• من نقل الإجماع: قال الطحاوي (321 هـ): "قد رأيناهم جميعًا لما رووا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المقر بالزنا لمَّا هرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا خليتم سبيله) فكان ذلك عندهم على أن رجوعه مقبول، واستعملوا ذلك في سائر حدود اللَّه عز وجل، فجعلوا من أقر بها ثم رجع، قُبل رجوعه، ولم يخصُّوا الزنا بذلك
(1) أخرجه أبو داود رقم (4428)، والنسائي في السنن الكبرى رقم (7164).
(2)
أخرجه البخاري رقم (6438).
(3)
تبيين الحقائق (3/ 166 - 167)، انظر: المغني (9/ 61).
(4)
انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 182).
دون سائر حدود اللَّه" (1).
وقال الماوردي (450 هـ): "روي أن رجلًا أقر عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالزنا ثم رجع عنه، فتركه وقال: "لأن أترك حدًا بالشبهة أولى من أن أقيم حدًا بالشبهة" (2).
ووافق أبا بكر رضي الله عنه على مثل هذا، وليس لهما في الصحابة رضي الله عنهم مخالف، فكان إجماعًا" (3).
وقال ابن هبيرة (560 هـ): "اتفقوا على أنه إذا أقر بالزنا ثم رجع عنه فإنه يسقط الحد عنه ويقبل رجوعه، إلا مالكًا"(4)، ونقله عنه ابن قاسم (5).
وقال أبو الحسن الشاذلي (939 هـ)(6): " (وإن رجع المقر بالزنا أُقيل وتُرك) ولا تتعرض له، ظاهره سواء رجع إلى شبهة مثل أن يقول وطئت في نكاح فاسد فظننت أنه زنا أو لا، مثل أن يكذب نفسه من غير أن يبدي عذرًا، وهو كذلك في الأول اتفاقًا، وعلى المشهور في الثاني"(7).
(1) شرح معاني الآثار (3/ 169).
(2)
لم أجد له تخريجًا في شيء من كتب السنة، لكن جاء درأ الحدود بالشبهات عن جملة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وعائشة، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 514 - 515)، وعبد الرزاق (7/ 402)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(6/ 356)، وفي "السنن الصغرى"(3/ 302)، وفي "السنن الكبرى"(8/ 338).
(3)
الحاوي الكبير (13/ 210).
(4)
الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 255).
(5)
حاشية الروض المربع (7/ 324).
(6)
هو أبو الحسن، علي بن محمد بن محمد بن خلف الشاذلي، المصري، من فقهاء المالكية، من كتبه:"عمدة السالك"، و"كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني"، ولد سنة (857 هـ)، وتوفي سنة (939 هـ). انظر: الأعلام 5/ 11.
(7)
كفاية الطالب الرباني (2/ 423).
وقال دامان (1078 هـ): "صحة الرجوع بعد الإقرار: إجماعًا"(1).
وقال عليش (1299 هـ): " (ويثبت بإقرار مرة، إلا أن يرجع مطلقًا) إلا أن يرجع المقر بالزنا عن إقراره فيقبل رجوعه ولا يحد رجوعًا (مطلقًا) (2) عن تقييده بكونه لشبهة، مثال رجوعه لشبهة: قوله وطئتُ حليلتي حائضًا فظننت أنه زنا فاعترفت به فلا يُحد اتفاقًا"(3).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: ما جاء في قصة ماعز حين أقر على نفسه بالزنا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه، فلما وجد مس الحجارة، فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل (4)، فضربه به، وضربه الناس، حتى مات، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه فر حين وجد مس الحجارة، ومس الموت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب اللَّه عليه)(5).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الصحابة رضي الله عنهم أن الأفضل لهم لو كانوا تركوه حين هرب، وهو يدل على أن ماعزًا لو رجع عن إقراره لسقط عنه الحد.
الدليل الثاني: عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد
(1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 626)، وانظر: فتح القدير (5/ 408)، حاشية على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 230) حيث حكيا الإجماع على أن من أقر بالسرقة ثم رجع عن إقراره فيقبل رجوعه.
(2)
أراد بقوله مطلقًا: أي سواء كان رجوعه قبل الحد أو في أثنائه، وسواء رجع لشبهة أو لغير شبهة.
انظر حاشية الدسوقي (4/ 318).
(3)
انظر: كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني لأبي الحسن الشاذلي (2/ 423).
(4)
اللَّحْي: بكَسْرِ اللَّام وفتحها، وَسُكُون الْحَاء: هو العظم الذي ينبت على الأسنان. انظر: مقاييس اللغة (5/ 193)، مختار الصحاح مادة (لحى)(612).
(5)
أخرجه أحمد (24/ 322)، والترمذي رقم (1428)، وأبو داود رقم (4419)، وابن ماجه رقم (2554).
أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول اللَّه إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال:(أتعلمون بعقله بأسًا، تنكرون منه شيئًا)، فقالوا: ما نعلمه إلا وفيّ العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضا، فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به، ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم، قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول اللَّه إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول اللَّه لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فواللَّه إني لحبلى، قال:(إمَّا لا فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال:(اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي اللَّه قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. . . الحديث (1).
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت) قال: لا يا رسول اللَّه، قال:(أنكتها) لا يَكْني، قال: فعند ذلك أمر برجمه (2).
الدليل الرابع: عن أبي أمية المخزومي (3) أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف اعترافًا ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(ما إخالك سرقت) قال: بلى، قال:(اذهبوا به فاقطعوه)، ثم جيئوا به، فقطعوه، ثم جاءوا به،
(1) أخرجه مسلم رقم (1695)، وأخرج البخاري إقرار ماعز رقم (2502).
(2)
أخرجه البخاري رقم (6438).
(3)
هو أبو أمية المخزومي، اختلف في صحبته، ليس له إلا هذا الحديث، وعده بعضهم في المجاهيل منهم ابن أبي حاتم. انظر: التاريخ الكبير 9/ 3، الثقات لابن حبان 5/ 580، تهذيب التهذيب 12/ 15.
فقال له: (قل أستغفر اللَّه وأتوب إليه) فقال: أستغفر اللَّه وأتوب إليه، قال:(اللهم تب عليه)(1).
• وجه الدلالة من الأحاديث السابقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّض لماعز والغامدية والسارق ليرجعوا عن إقرارهم، ولو كان الحد لا يسقط برجوعهم لم يكن لتعريضه صلى الله عليه وسلم فائدة.
الدليل الخامس: ما ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من تلقين المقر ليرجع عن إقراره، وهو مروي عن أبي أبكر، وعمر، وعلي، وابنه الحسن، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، وأبي واقد الليثي رضي الله عنهم، كما قال ابن حجر:"ثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم تلقين المقر بالحد"(2).
بل نقل النووي الاتفاق على مشروعية تلقين المقر ليرجع عن إقراره فقال: "قد جاء تلقين الرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، واتفق العلماء عليه"(3)، ولو لم يُقبل رجوع المقر عن
(1) أخرجه أحمد (37/ 184)، وأبو داود رقم (4380)، والنسائي رقم (4877)، وابن ماجه رقم (2597)، من طريق أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي، قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 76):"فيه ضعف؛ فإن أبا المنذر هذا مجهول؛ لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة"، وكذا قال الألباني في "إرواء الغليل"(8/ 79)، وقال ابن حجر في "تلخيص التحبير" (4/ 124):"رجَّح ابن خزيمة وابن المديني وغير واحد إرساله".
ويتحصل مما سبق أن الحديث فيه علتان: الجهالة والإرسال، ولذا قال ابن حزم في المحلى (12/ 51):"وأما حديث حماد بن سلمة ففيه أبو المنذر لا يدرى من هو، وأبو أمية المخزومي ولا يدرى من هو، وهو أيضًا مرسل".
(2)
فتح الباري (12/ 126)، وانظر: شرح النووي (11/ 195).
(3)
شرح النووي (11/ 195)، وقال الرملي في "نهاية المحتاج" (7/ 463):"من أقر بعقوبة للَّه تعالى -أي بموجبها، كزنى، وسرقة، وشرب مسكر، ولو بعد دعوى، فالصحيح أن للقاضي أن يعرض له، أي يجوز له كما في الروضة، لكن في شرح مسلم إشارة إلى نقل الإجماع على ندبه، وحكاه عن الأصحاب، والمعتمد الأول".
إقراره لما كان في تلقينه فائدة.
الدليل السادس: أن رجوعه عن الإقرار خبر يحتمل الصدق، فهو يورث شبهة في إقامة الحد، والحدود تدرأ بالشبهات (1).
الدليل السابع: أن الحد ثبت بقول من أقر على نفسه، فجاز أن يسقط برجوعه، كالردة (2).
الدليل الثامن: القياس على رجوع الشهود عن شهادتهم.
قال ابن عبد البر: "وقد أجمع العلماء على أن الحد إذا وجب بالشهادة وأقيم بعضه ثم رجع الشهود قبل أن يقام الحد أو قبل أن يتم أنه لا يقام عليه، ولا يتم ما بقي منه بعد رجوع الشهود، فكذلك الإقرار والرجوع"(3).
• المخالفون للإجماع: خالف في المسألة جماعة من أهل العلم وهم على قولين:
القول الأول: لا يقبل رجوع المقر في إقراره، إن كان رجوعه إلى غير شبهة.
فإن تبيَّن أنه رجع لشبهة فيقبل رجوعه، وكأن يقول: وطئتُ المرأة وظننت أنها زوجتي، فبانت بخلافه، فيقبل منه ذلك الرجوع، أما إن كان رجوعه ليس فيه بيان لعذر الرجوع فلا يُقبل منه. وهو قول للمالكية (4).
القول الثاني: لا يُقبل رجوع المقر عن إقراره مطلقًا.
وهو قول في مذهب الشافعي (5)، . . .
(1) انظر: بدائع الصنائع (7/ 161)، المغني (9/ 119)، ونقل ابن المنذر الإجماع على درأ الحدود بالشبهات في كتابه "الإجماع"(113).
(2)
انظر: الحاوي الكبير (13/ 210).
(3)
الاستذكار (7/ 503)، وانظر: الحاوي الكبير (13/ 210).
(4)
انظر: حاشية العدوي (2/ 325)، منح الجليل (9/ 256).
(5)
انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7/ 463)، المنثور في القواعد الفقهية (2/ 40)، حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 197).
وقول في مذهب أحمد (1)، والظاهرية (2).
وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى (3).
• دليل المخالف: الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رُجم الأسلمي فقال: (اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى اللَّه عنها، فمن ألمَّ فليستتر بستر اللَّه، وليتب إلى اللَّه؛ فإنه من يُبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللَّه عز وجل (4).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من أبدى صفيحته بالمعصية، فإنه يقام عليه الحد، ولم يذكر أن له الرجوع عن ذلك (5).
الدليل الثاني: أن المقر قد ثبت في حقه الحد بإقراره، فادعاء سقوطه يحتاج إلى برهان وبينة، فإن لم يكن له بينة حُكم عليه بما أقر أولًا (6).
الدليل الرابع: القياس على حقوق الآدميين، فكما أن من أقر بشيء لآدمي، لم يُقبل رجوعه، فكذا في حقوق اللَّه تعالى من الزنا ونحوه.
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع محقق بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف عن بعض التابعين، وهو قول للمالكية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وابن حزم، وما حكي من إجماع الصحابة فهو من قبيل
(1) انظر: الفروع (6/ 60)، الإنصاف (10/ 163).
(2)
انظر: المحلى (7/ 100).
(3)
انظر: المبسوط (9/ 94)، المغني (9/ 63)، المحلى (7/ 100).
تنبيه: حكى الماوردي في "الأحكام السلطانية"(280) عن أبي حنيفة القول بعدم قبول رجوع المقر عن إقراره، ولم أجد هذا النقل عن أبي حنيفة في شيء من كتب الحنفية، والذي يظهر أنه سبق قلم من الماوردي رحمه الله، بدليل أنه في كتابه "الحاوي الكبير" نسب إلى أبي حنيفة القول بقبول رجوع المقر عن إقراره، واللَّه تعالى أعلم.
(4)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 272)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (13/ 74)، ومالك في الموطأ (5/ 1205)، والشافعي في الأم (6/ 157).
(5)
انظر: الحاوي الكبير (13/ 210).
(6)
انظر: المحلى (7/ 103).