الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثاني: أن جلد شارب الخمر هو من باب التعزير ولا يحدَّد بعدد في حق الحر والعبد. وهو قول طائفة من أهل العلم (1).
• دليل المخالف: استدل من قال بأن حد العبد أربعون جلدة بعموم قول اللَّه تعالى في حق الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2).
• وجه الدلالة: الآية دلت على أن حد الأمة في الزنا هو نصف حد الحرة، فكذا يقاس عليها سائر الحدود التي يمكن تبعيض الحد فيها، ومنها حد شرب الخمر، والواجب في حد شرب الخمر على الحر ثمانون جلدة، فيكون حد العبد والأمة نصفها وهو أربعون جلدة (3).
أما من قال أن حد الشارب ليس له عدد معيَّن، فسبق بيان أدلته قريبًا (4).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف عن الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وغيرهم.
ومن حكى الاتفاق في المسألة فالظاهر أنه وهم، واللَّه تعالى أعلم.
[255/ 4] شارب الخمر إذا تكرر منه الشرب لا يقتل
.
• المراد بالمسألة: إذا ثبت حد شرب الخمر على شخص، وأقيم عليه الحد، ثم أقيم عليه ثانية، ثم ثالثة، ثم ثبت عليه الشرب مرة رابعة، فإنه يقام عليه الحد بالجلد، ولا يُقتل، حتى لو تكرر الحد عليه أكثر من ثلاث مرات.
وينبَّه إلى أن المراد عدم قتل شارب الخمر من باب الحد، أما إن رأى
(1) كذا نسبه ابن حزم في "المحلى"(12/ 356)، والصنعاني في "سبل السلام"(2/ 444)، ولم أعثر على تحديد القائلين به.
(2)
سورة النساء، آية (25).
(3)
المبسوط (24/ 31)، المغني (9/ 143).
(4)
انظر: المسألة رقم 250 بعنوان: "حد شارب الخمر ثمانون جلدة إن كان حرًا".
الإمام قتله من باب التعزير، فهذه مسألة أخرى غير مرادة (1).
• من نقل الإجماع: قال الشافعي (254 هـ) في حد الخمر: "والقتل منسوخ. . . وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته"(2)، ونقله عنه ابن حجر (3)، والشوكاني (4)، والصنعاني (5).
وقال الترمذي (279 هـ): "لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك في القديم والحديث"(6) ونقله عنه النووي (7)، وابن القيم (8)، وابن حجر (9) والمناوي (10)، والشوكاني (11).
وقال الخطابي (288 هـ): "يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبًا، ثم نسخ؛ لحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل"(12) ونقله عنه ابن حجر (13)، والشوكاني (14).
وقال ابن المنذر (318 هـ): "وأجمعوا على أن السكران في المرة الرابعة لا يجب عليه القتل، إلا شاذًا من الناس لا يعد خلافًا"(15) ونقله عنه ابن حجر (16)، والشوكاني (17).
وقال أبو حامد الغزالي (505 هـ): "ولا خلاف أن القتل منسوخ في الشرب"(18). وقال البغوي (516 هـ): "عن معاوية قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)(19) وهذا أمر لم يذهب
(1) الإنصاف (10/ 249).
(2)
الأم (6/ 155 - 156).
(3)
فتح الباري (12/ 80).
(4)
انظر: نيل الأوطار (7/ 176).
(5)
انظر: سبل السلام (2/ 446).
(6)
سنن الترمذي (4/ 48).
(7)
انظر: شرح النووي (11/ 217).
(8)
تهذيب السنن (12/ 57).
(9)
فتح الباري (12/ 80).
(10)
انظر: فيض القدير بشرح الجامع الصغير (6/ 158).
(11)
انظر: نيل الأوطار (7/ 176).
(12)
معالم السنن (3/ 339).
(13)
فتح الباري (12/ 80).
(14)
انظر: نيل الأوطار (7/ 176).
(15)
الإجماع (115).
(16)
فتح الباري (12/ 80).
(17)
انظز: نيل الأوطار (7/ 176).
(18)
الوسيط (6/ 150).
(19)
أخرجه الترمذي رقم (1444).
إليه أحد من أهل العلم قديمًا وحديثًا أن شارب الخمر يُقتل" (1).
وقال القاضي عياض (544 هـ): "وأجمعوا أنه لا يقتل إذا تكرر منه ذلك، إلا طائفة شاذة قالوا: يقتل بعد حده أربع مرات"(2). وقال النووي (676 هـ): "وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها، وإن تكرر ذلك منه"(3).
وقال ابن حجر (852 هـ): "وقد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر وأن لا قتل فيه"(4) ونقله عنه المناوي (5). وقال الخطيب الشربيني (977 هـ): "وحديث الأمر بقتل الشارب في الرابعة منسوخ بالإجماع"(6).
• الموافقون على الإجماع: وافق على ذلك الحنفية (7).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: النصوص العامة الدالة على حرمة دم المسلم، ومنها:
1 -
قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} (8).
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول اللَّه، وما هن؟ قال:(الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، وأكل الربا، وكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) متفق عليه (9).
(1) شرح السنة (10/ 334).
(2)
إكمال المعلم (5/ 281).
(3)
شرح النووي (11/ 217).
(4)
فتح الباري (12/ 75).
(5)
انظر: فيض القدير بشرح الجامع الصغير (6/ 158).
(6)
مغني المحتاج (5/ 519).
(7)
انظر: العرف الشذي شرح سنن الترمذي للكشميري (3/ 135).
(8)
سورة النساء، آية (93).
(9)
أخرجه البخاري رقم (2615)، ومسلم رقم (89).
3 -
عن أنس رضي الله عنه قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، قال:(الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور) متفق عليه (1).
4 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة) متفق عليه (2).
• وجه الدلالة: في النصوص السابقة دلالة على تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق، وليس ثمة حديث صحيح صريح مُحْكم يدل على إباحة قتل شارب الخمر (3).
الدليل الثاني: عن قبيصة بن ذؤيب (4) قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه).
"فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده، فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة"(5).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2510)، ومسلم رقم (88).
(2)
أخرجه البخاري رقم (6484)، ومسلم رقم (1676).
(3)
انظر: شرح معاني الآثار (3/ 160).
(4)
هو أبو إسحاق، قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة بن عمرو بن كليب بن أصرم الخزاعي، من فقهاء أهل المدينة، روى عن عمر، وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وغيرهم، قال مكحول:"ما رأيت أحدًا أعلم منه"، ولد عام الفتح سنة (8 هـ)، ومات سنة (74 هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1272، طبقات الحفاظ 1/ 5، تهذيب التهذيب 8/ 311.
(5)
أخرجه أخرجه الترمذي رقم (1444).
قال الشوكاني في "فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار"(3/ 1676): "وقبيصة من أولاد الصحابة ولم يذكر له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث مرسل ورجاله من إرساله ثقات". وصحح الحافظ ابن حجر الحديث في "فتح الباري"(12/ 80) وأجاب عن القول بالإرسال =
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه).
قال محمد بن المنكدر (1): "قد ترك ذلك بعد، أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بابن النعيمان فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده، ولم يزد على ذلك"(2).
الدليل الرابع: عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)، قال:"ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله"(3).
وفي رواية: قال جابر رضي الله عنه: "فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النعمان أربع مرات فرأى المسلمون أن الحد قد وقع، وأن القتل قد أخِّر"(4).
• وجه الدلالة من الأحاديث السابقة: الأحاديث السابقة صريحة في نسخ
= بقوله: (وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله. . . والظاهر أن الذي بلَّغ قبيصة ذلك صحابي، فيكون الحديث على شرط الصحيح، لأن إبهام الصحابي لا يضر".
(1)
هو أبو عبد اللَّه، محمد بن المنكدر بن عبد اللَّه بن الهُدير بن عبد العزى القرشي التيمي، المدني، العابد، الزاهد، من رجال الحديث، روى عن بعض الصحابة كأبي هريرة وعائشة وأبي أيوب وغيرهم، ولد سنة (54 هـ)، وتوفي سنة (130 هـ). انظر: صفة الصفوة 2/ 140، تهذيب التهذيب 9/ 418، تذكرة الحفاظ 1/ 127.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 380)، الحاكم في المستدرك (4/ 371).
(3)
أخرجه الترمذي، كتاب: الحدود، باب: ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، رقم (1444).
(4)
أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(6/ 452)، وفي "السنن الكبرى"(8/ 314).
الأمر بقتل شارب الخمر، وترك العمل به.
الدليل الخامس: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد اللَّه، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تلعنوه؛ فواللَّه ما علمت إلا إنه يحب اللَّه ورسوله)(1).
• وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد حمارًا مع كثرة ما يؤتى به، والظاهر أن التعبير بالكثرة يدل على أنه أكثر من ثلاث مرات (2).
الدليل السادس: أن كل معصية لا توجب القتل في الابتداء فإنه لا يوجب تكرارها القتل حدًا، كالزنا والقذف (3).
• المخالفون للإجماع: ذهب طائفة من أهل العلم إلى أن شارب الخمر يُقتل في المرة الرابعة.
وهو مروي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه (4)، وبه قال الظاهرية (5).
• دليل المخالف: استدل من أوجب قتل شارب الخمر في المرة الرابعة بما يلي:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في
(1) البخاري رقم (6398).
(2)
انظر: فتح الباري (12/ 65).
(3)
انظر: الحاوي الكبير (13/ 325)، المبدع (9/ 142).
(4)
انظر: المحلى (12/ 368)، وليس المراد أنه إن شرب أربع مرات أنه يُقتل، وإنما المراد أنه إن أقيم عليه الحد ثلاث مرات، ثم جيء به في المرة الرابعة فإنه يقتل، فالعبرة بإقامة الحد، لا بعدد مرات الشرب.
(5)
المحلى (12/ 373).
الرابعة فاقتلوه) (1).
الدليل الثاني: عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه قال: "ائتوني برجل قد جلد في الخمر أربع مرات، فإن لكم عليّ أن أضرب عنقه"(2).
النتيجة:
المسألة فيما يظهر ليست محل إجماع بين أهل العلم؛ لثبوت الخلاف عن الظاهرية.
ولعل من نقل الإجماع اعتبر خلاف الظاهرية من قبيل الشاذ، واللَّه تعالى أعلم.
(1) أخرجه أحمد (13/ 183)، وأبو داود رقم (4484)، والنسائي، رقم (5662)، وأخرجه الترمذي رقم (1444)، من حديث معاوية رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (11/ 557).