الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نص على الخلاف جمع من أهل العلم، منهم البغوي حيث قال في كلامه على المسألة "عند أبي حنيفة رضي الله عنه التغريب أيضًا منسوخ في حق البكر، وأكثر أهل العلم على أنه ثابت"(1).
وغالب من حكى الإجماع في المسألة أراد به الإجماع السكوتي عند الصحابة، كما هو ظاهر من كلام الترمذي وابن حزم وابن قدامة والبهوتي، واللَّه تعالى أعلم.
[108/ 2] حبس الزاني والزانية منسوخ
.
• المراد بالمسألة: أولًا: تعريف النسخ: النسخ لغة: النسخ في اللغة الرفع والنقل، ومنه نسخت الريح الأثر أي أزالته، ونسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى غيره (2).
النسخ في الشرع: النسخ عند أهل الفقه والأصول يُراد به: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه (3).
• ثانيًا: صورة المسألة: كانت عقوبة الزاني في أول الإسلام هي الحبس في حق المحصن حتى الموت، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ والضرب في حق البكر، وقيل: الحبس هو في حق النساء، والأذى في حق الرجال، وقيل: الحبس في حكم الزنا، والأذى في حكم اللواط (4)، ويدل عليه قول اللَّه تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ
(1) انظر: معالم التنزيل (1/ 583).
(2)
انظر: الصحاح (2/ 455)، المحيط في اللغة (4/ 266)، المخصص (4/ 7).
(3)
انظر: إرشاد الفحول (2/ 51)، المحصول في أصول الفقه لابن العربي (144)، روضة الناظر (69).
(4)
تفسير ابن كثير (2/ 233).
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} (1).
وقد اتفق أهل العلم على ذلك الحكم في صدر الإسلام كما حكاه الجصاص (2)، ثم نُسخ ذلك الحكم برجم الزاني المحصن، وجلد البكر.
والمراد هنا تقرير الإجماع على أن حكم الآية المقرَّر بالحبس في كونه حد للزنى قد نُسخ حكمه ورُفِع بحد جديد هو الجلد أو الرجم، دون اعتبار هل رفع حكمها كان بطريق النسخ، أو بيان المجمل، أو هو من باب انتهاء الحد والغاية (3)، وأما رفع حكم الأذى بالجلد والتوبيخ والتقريع فغير مراد.
• من نقل الإجماع: قال الجصاص (370 هـ): "اتفق السلف من أهل العلم بالتفسير منهم ابن عباس وغيره أن حد الزانيين المحصن وغير المحصن كان الحبس والأذى المذكورين في هذه الآية ثم نسخ ذلك عنهما بالجلد لغير المحصن والرجم للمحصن"(4). قال ابن حزم (456 هـ): "قول اللَّه تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (5)، فإن هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة"(6).
(1) سورة النساء، آية (15 - 16).
(2)
انظر: أحكام القرآن (3/ 377).
(3)
انظر: تفسير الطبري (8/ 80)، معالم التنزيل (1/ 583) وسيأتي بيان ذلك في نتيجة المسألة إن شاء اللَّه تعالى.
(4)
الفصول في الأصول (2/ 356).
(5)
سورة النساء، آية (15).
(6)
المحلى (12/ 25)، وقال أيضًا بعد أن ذكر آية النساء (12/ 167):"فصح النص والإجماع أن هذين الحكمين منسوخان بالإجماع"، وقال أيضًا (12/ 169):"فصح يقينًا أن حكم النساء الزواني كان الحبس في البيوت حتى يمتن أو يجعل اللَّه لهن سبيلًا بحكم آخر، وأن حكم الرجال الزناة كان الأذى، هذا ما لا شك فيه عند أحد من الأمة، ثم نسخ هذا كله بالحدود بلا خلاف من أحد من الأمة".
وقال ابن عطية (542 هـ): "وأما الحبس فمنسوخ بإجماع"(1).
وقال القرطبي (671 هـ): "وأما الحبس فمنسوخ بإجماع"(2).
وقال الخازن (741 هـ): "اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة"(3)، ونقله عنه أبو الطيب (4). وقال ابن جزي (741) (5) في تفسير قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (6) وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة النساء من الإمساك في البيوت في الآية الواحدة، ومن الأذى في الأخرى" (7).
وقال ابن كثير (774 هـ): "وهو -أي نسخ الآية- أمر متفق عليه"(8).
وقال الثعالبي (875 هـ)(9): "قوله تعالى الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 22)، وقال أيضًا (4/ 194) في تفسير قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ} [النور: 2]: "وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الآذى اللتين في سورة النساء"، وحكاه عنه ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (4/ 56) حيث قال:"قال ابن عطية: أجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور".
(2)
تفسير القرطبي (5/ 85)، وقال أيضًا (12/ 159) في تفسير قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]: "هذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء باتفاق".
(3)
تفسير الخازن (1/ 495).
(4)
عون المعبود (12/ 60).
(5)
هو أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه ابن جزي، الكلبي، المالكي، فقيه، أصولي، لغوي، من كتبه:"القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية"، و"تقريب الوصول إلى علم الأصول"، ولد سنة (693 هـ)، ومات سنة (741 هـ). انظر: الدرر الكامنة 5/ 88، شذرات الذهب 6/ 286، الإحاطة في أخبار غرناطة 1/ 52.
(6)
سورة النور، آية (2).
(7)
التسهيل لعلوم التنزيل (3/ 58).
(8)
تفسير ابن كثير (2/ 233).
(9)
هو أبو زيد، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجزائري، المالكي، برع في التفسير، والوعظ والرقائق، من كتبه:"الجواهر الحسان في تفسير القرآن"، و"الذهب الابريز في غريب القرآن العزيز"، ولد سنة (786 هـ)، وتوفي سنة (875 هـ). انظر: الأعلام (3/ 331)، الضوء اللامع (2/ 291).
منهما مائة جلدة الآية هذه الآية ناسخة لآية الحبس باتفاق" (1).
وقال ابن عادل (880 هـ): "فأما الحبس فمنسوخ بالإجماع"(2).
• مستند الإجماع: الدليل الأول: قول اللَّه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3).
الدليل الثاني: عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)(4).
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} (5) قال: "كن يحبسن في البيوت فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت، حتى نزلت هذه الآية التي في النور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (6) ونزلت سورة الحدود، فمن عمل شيئًا جُلد وأرسل"(7).
الدليل الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كان فيما أنزل اللَّه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، ورجم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد الرجم في كتاب اللَّه تعالى، فيضلوا بترك فريضة
(1) تفسير الثعالبي الموسوم بالجواهر الحسان في تفسير القرآن (3/ 108).
(2)
اللباب في علوم الكتاب (6/ 244)، وممن حكى الإجماع وهبة الزحيلي في "التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج" (2/ 24) حيث قال:"أما الحبس فمنسوخ بالإجماع".
(3)
سورة النور، آية (2).
(4)
أخرجه مسلم رقم (1690).
(5)
سورة النساء، آية (15).
(6)
سورة النور، آية (2).
(7)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 87)، والبزار (11/ 198).
أنزلها اللَّه تعالى، والرجم في كتاب اللَّه حق على من أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف" متفق عليه (1).
النتيجة:
المسألة محل إجماع بين أهل العلم على رفع حكم الحبس من باب كونه حدًا في حق الزنا، وإن كان ثمة من يقول بحبسه حتى يُقام عليه الحد، لكن حبسه هنا ليس من باب الحد الواجب، فإن تركه لا يُعد نقصًا في الحد، وفعلُه فقط دون الرجم أو الجلد لا يكفي بالإجماع.
لكن حصل الخلاف بين أهل العلم في طريق رفع حكم الحبس، على قولين: القول الأول: أن آية النساء الموجبة بالحبس منسوخة، وأصحاب هذا الرأي اختلفوا فيما نسخها على رأيين:
الأول: الناسخ لها هو قول اللَّه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2)، وبه قال الموفق ابن قدامة (3)، والشوكاني (4)، وغيرهم.
الثاني: الناسخ هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة ونغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)(5)، وبه قال أبو بكر الجصاص (6)، والبغوي (7)، وغيرهم (8).
(1) أخرجه البخاري رقم (6441)، ومسلم رقم (1691).
(2)
سورة النور، آية (2).
(3)
انظر: المغني (9/ 38).
(4)
انظر: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (1/ 659).
(5)
أخرجه مسلم رقم (1690) ص 340.
(6)
أحكام القرآن (2/ 154).
(7)
معالم التنزيل (1/ 583).
(8)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 56).
وذكر بعض أهل العلم أن الآية نُسخت بكل من الآية والحديث، كما نقله غير واحد من أهل العلم. انظر: المحرر الوجيز (2/ 25)، بحر العلوم (1/ 314)، التفسير المنير (2/ 23 - 24).
القول الثاني: أن رفع حكمها ليس عن طريق النسخ، واختلفوا في طريقه على رأيين:
الأول: أنه من باب بيان المجمل، فحديث عبادة بن الصامت في بيان السبيل هو بيان للسبيل المُجمل في قوله تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (1)، وبهذا قال أبو حيان الأندلسي (2)(3) وأبو سليمان الخطابي (4)، وغيرهم (5).
الثاني: أنه من باب انتهاء الحد والغاية؛ فإن اللَّه تعالى جعل حد الزنا الحبس والأذى، وجعل لهذا الحد غاية ينتهي إليها، وهو أن يجعل اللَّه لهن سبيلًا، ثم جاء ذلك السبيل في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه بالجلد أو الرجم، ومن رجَّح هذا الرأي علل له النسخ لا يُصار إليه إلا عند تعذُّر الجمع، والجمع هنا ممكن، بأن يحبس ويؤذى بالكلام حتى يقام عليه الجلد أو الرجم، وأمثاله في الشرع قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (6)، فإن ارتفاع وجوب الصيام بمجيء الليل لا يسمى نسخًا.
وعلى هذا الرأي فإن الزاني يحبس حتى يُقام عليه الحد الجديد من الجلد
(1) سورة النساء، آية (15).
(2)
هو أبو حيان، محمد بن يوصف بن على بن يوسف ابن حيان الغرناطي، الأندلسي، الشافعية، برع في التفسير، والحديث، والعربية، واللغة، من كتبه:"البحر المحيط"، و"منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك"، ولد سنة (654 هـ)، ومات سنة (745 هـ). انظر: البلغة في تراجم أئمة النحو (58)، طبقات الشافعية الكبرى (9/ 275)، معجم المحدثين للذهبي (134).
(3)
انظر: البحر المحيط (3/ 191).
(4)
انظر: معالم السنن (3/ 316).
(5)
وممن اختاره الديرزوري في كتابه بيان المعاني (1/ 125).
(6)
سورة البقرة، آية (187).